الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة كتاب صيرورة فكر عصر الأنوار

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 7 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعريب: فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

الطبعة الأولى 2021

صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

بالتعاون مع

دار نشر شركة آمازون في المملكة المتحدة


منعطفات نهوض نهج العقلانية والتنوير

تكتسي موضوعة التمحيص في صيرورة فكر عصر الأنوار بتشابك معقد عند المتحدثين بلسان الضاد، إذ أن المقدمة التاريخية التي مهدت لبزوغ عصر الأنوار على أرضية فكر عصر النهضة في أوربا، كانت تتمثل في حقيقة التراجع الحضاري والاقتصادي للحواضر العربية الإسلامية بعد تحييدها اقتصادياً من كونها محور خط التجارة الكوني الذي يربط شرق القارة الآسيوية خاصة في الصين والهند مع الحواضر في أوربا، وذلك بعد اكتشاف فاسكو دي غاما في العام 1498 للطريق البحري الذي يصل المحيط الأطلسي بشرق آسيا والهند خصوصاً بالالتفاف حول رأس الرجاء الصالح في جنوب القارة الأفريقية، دون الحاجة للمرور بالبحر الأبيض المتوسط أو أي من الأراضي التي يسيطر عليها العرب والمسلمون آنذاك. وهو التقهقر الاقتصادي للحواضر العربية الإسلامية الذي ترافق مع أفول بواقي الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس مع سقوط آخر قلاعها في غرناطة في العام 1492، وهو السقوط المدوي الذي أدى إلى اضطرار الكثير من العلماء والمجتهدين لهجران العيش في كنف الحواضر العربية الإسلامية في الأندلس والتنقل بين المدن الأوربية باحثين عن مستقر لهم، خاصة لمن لم يرد منهم ركوب البحر عودة إلى القيروان، أو فاس، أو مراكش، أو طنجة، أو غيرها من المدن في الساحل الشمالي لفضاء المغرب العربي الإسلامي آنذاك. وذلك الارتحال كان المقدمة الأولى لاتساع تعرف الأوربيين على النتاج الفكري الاستثنائي الذي قام به المجتهدون في كنف الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، والذي تمثل في اجتهاد منقطع النظير لإعادة اكتشاف النتاج الفكري التراكمي للحضارة البشرية السابقة لهم، وخاصة ذلك الذي تمثل في تكثيف وشرح وتلخيص الفكر والمنطق اليوناني وعلومه، والتي قد يكون أشهرها اجتهاد ابن رشد في عمله الاستثنائي «تلخيص منطق أرسطو» في سبع مجلدات ثمينة، كانت بالتوازي مع الأعمال الموسوعية لابن سينا، وخاصة كتابه «القانون في الطب» مدخل الأوربيين للتعرف على خلاصة الإنتاج المعرفي في السياق التراكمي السالف لسيرورة تحضر بني البشر في غير موضع من أرجاء الأرضين، و هو ما اكتسى بأهمية مرهفة آنذاك في حقلي علم الفلسفة، والعلوم التطبيقية على اختلاف فروعها.
وذلك النموذج من الحلول للاقتصاديات والمجتمعات الأوربية الناهضة لتأخذ محل المجتمعات والاقتصادات العربية الإسلامية الآفلة في تلك الحقبة الزمنية، كان المقدمة لما عرف بعصر النهضة «Renaissance» خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وهو الذي كان الأرضية الموضوعية التي بزغ منها عصر الأنوار «Age of Enlightenment» في القرنين السابع والثامن عشر في القارة الأوربية، والذي تمثل في الحيز الاقتصادي بنهوض البرجوازيات التجارية في جل الحواضر الأوربية التي بدأت تطالب بحصتها من الثروة والسلطة في المجتمع على حساب الكنيسة والإقطاعيات الملكية المتواشجة معها، وتمثل في الحيز الفكري بعملية تعبير تلك البرجوازيات الناهضة ومن انخرط في عديد منظومتها الاقتصادية من الطبقات الوسطى المدنية العاملة في حقل الخدمات أساساً عن نفسها فكرياً بإنتاج «طوفان من الأفكار الانعتاقية» قد يكون أهمها فكر المجموعة التي عرفت في فرنسا بالفلاسفة «The Philosophes» والذين كان على رأس قائمتهم فولتير، ومونتسكيو، وديدرو مؤلف أول موسوعة فكرية شاملة في تاريخ البشرية؛ وهم الذين على أرضية فكرهم «الانعتاقي المستنير» بنى رائد فكر عصر الأنوار جان جاك روسو رؤيته «الثورية الناهضة» في كتابه الاستثنائي «العقد الاجتماعي» الذي كان جوهره الانعتاقي مشخصاً بفاتحته المغرقة في عمقها الفكري والتي كان مفادها:
«يولد الإنسان حراً، ولكنه لا يزال في كل موضع عالقاً في أصفاده»
وباللغة الإنجليزية:
«Man is Born Free, Yet Everywhere He is in Fetters».
وهو الكتاب الذي سبر فيه روسو أغوار النفس البشرية، و ارتأى في طياته بأن «الخير والميل للسلم والاستقرار» صفات طبيعية في كينونة بني البشر، وهو الذي لا يمكن تحقيقه في ضوء تعقد طبيعة المجتمعات المعاصرة إلا من خلال «عقد اجتماعي» واضح بين أبناء المجتمع يستمد فيه المخولون بإدارة المجتمع سلطتهم الوحيدة من تفويض أبناء المجتمع الآخرين لهم، و من «استمرارية موافقتهم ورضاهم» على «صلاحية ذلك التفويض»، والذي إن أخل بشروطه «المفوضون» فلا بد من نزع الشرعية عنهم، حتى لو اقتضى ذلك «ثورة عرمرمة»، وهو ما كان فعلياً في الثورة الفرنسية في العام 1789 التي مهدت «لترويض الملكيات القائمة في أوربا»، وإرغامها على «إيجاد مداخل تنظيمية جديدة لعلاقتها مع شعوبها» تمثلت باستنهاض «فكر الإمبريالية الاستعمارية المنفلتة من كل عقال أخلاقي» لإيجاد نموذج جديد من الوعي الشقي التناقضي في جوهره، قد يكون مثاله النموذجي فكر «نابليون بونابرت» الذي كان يرى في نفسه «ابن الثورة الفرنسية البار»، وحامل مشعلها الفكري «المبجل»، و الذي جوهره «إعلاء قيمة الإنسان والحريات الأساسية في المجتمعات الأوربية»، ونزع كل تلك القيم عن أولئك «المستضعفين» في دول المستعمرات التي حل عليها الأوربيون بقوة الحديد والنار، لنهبها كليانياً، واستخدام «عوائد ذلك النهب المنظم» لرشوة «أبناء المجتمعات الأوربية، وترقية حيواتهم، وتعزيز حرياتهم الأساسية» في سياق نموذج مستحدث من «العقد الاجتماعي» الذي لا زال سائداً في شبكة العلاقات الدولية التي تحكم عالمنا المعاصر حتى اللحظة الراهنة.
وذلك التناقض الأخير في صيرورة نهوض فكر عصر الأنوار كان الأرضية التي بزغ من رحمها كل الأفكار الاستشراقية البائسة، والداروينية الاجتماعية التلفيقية، والقومية الخلبية، لتبرير التوسع والاستيلاء على حقوق وموارد مجتمعات الآخرين، وما كان على شاكلتها؛ وهي الأفكار التي كان رد العقل البشري الجمعي عليها من معين ما رأى جان جاك روسو في كينونة بني البشر من «ميلٍ فطريٍ للعدل والمساواة والخير» مشخصاً باستنباط أفكار ورؤى «الاجتماعية أو الاشتراكية» على يد هنري دو سان سيمون الذي يستقيم اعتباره أول من طرح فكرة الاشتراكية أو الاجتماعية «Socialism»، في سياق كتابه المهم الصادر في العام 1813 بعنوان «ملاحظات على دراسة الإنسان» والذي ركز فيه على دور العلم في إعادة إنتاج وترقية المجتمعات، وهو ما قد يستقيم اعتباره حجر الأساس الذي بنى عليه لاحقاً كارل ماركس فكرته عن «الاشتراكية العلمية».
ويكتسي ذلك النسق من التوصيف التاريخي السالف الذكر بصفة إيلامية خاصة عند المتلقي الناطق بلسان الضاد، إذ أن بواكير المشروع النهضوي العربي الذي أتى متأخراً في مطلع القرن العشرين، والذي تأخر كثيراً لانحشار جل المجتمعات العربية في منظومات اقتصادية إقطاعية قروسطية لم تكن قادرة على استبطان أي نموذج من أفكار النهضة الأوربية لعدم وجود أرضية اقتصادية لها في نظمها، و هي البواكير التي تم وأدها بوحشية ومخاتلة منقطعة النظير في سياق «احتيال المستعمرين الأوربيين المتحذلقين المنمقين» من الإنجليز والفرنسيين على «الأعراب البسطاء»، وإيهامهم بأن الانخراط في ركابهم خلال الحرب العالمية الأولى هو «الطريق الأسهل» لتحقيق «مشروعهم القومي الهلامي» آنذاك. وهو المشروع الذي «سقط بشكل مدوٍ» بعد هجوع غبار الحرب العالمية الأولى، التي أفضت إلى «استعمار عنصري استغلالي» حول جل المجتمعات العربية إلى «هشيم اقتصادي واجتماعي» يجاهد للبقاء على قيد الحياة، وهو ما كان من نتائجه المباشرة وأد «الأفكار النهضوية الأولى» التي أسس لها المنورون العرب الأوائل، مثل عبد الرحمن الكواكبي، وفرح أنطون، وشبلي الشميل، ونجيب عازوري، وبطرس البستاني، ورفاعة الطهطاوي وغيرهم. وهو الحال الذي استمر في حقبة ما بعد «استقلال المجتمعات العربية عن مستعمريها القدماء» الذين لم يرحلوا قبل أن يتركوا «نواطيراً» مفوضين بإدارة مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، وهم «النواطير» الذين تعضوا وتحولوا مع مرور الزمن إلى «طغاة ومستبدين بامتياز» يعتاشون من الفتات التي يتركها «سادتهم وأولياء أمرهم» لهم مما ينهبونه من مجتمعاتهم لصالح «أربابهم في عواصم العالم الغربي» التي لم تدخر أي دعم متاح «بالحديد والنار» لتثبيت ركائزهم في مجتمعاتهم التي يتغولون عليها.
وبشكل أكثر تدقيقاً فإن المشروع النهضوي العربي الجنيني تم وأده كليانياً بتعاضد قوى الاستعمار الإمبريالي الطامع بثروات العرب، التي بدأ اكتشاف أهميتها الاستثنائية في سياق الحرب العالمية الأولى، وأعني هنا النفط تحديداً، بالتوازي مع الأهمية الاستراتيجية للموقع الجغرافي للمجتمعات العربية الناطقة بلسان الضاد على ملتقى خطوط التجارة بين الشرق والغرب، والتي كان لا بد للمستعمرين من الهيمنة عليها سواء بشكل مباشر أو غيره، لتزيد بلة طين هشاشة المجتمعات العربية المحتضرة جراء ما تعرضت له من تخليف على يد أزلام السلطنة العثمانية ونظامها القروسطي البدائي اقتصادياً وفكرياً. وهي الخلطة البائسة التي أفضت في جماعها إلى إغلاق آفاق نضوج المشروع النهضوي العربي، الذي كان عليه الهجوع في بواكيره في انتظار فرصة الإفصاح عن نفسه لاحقاً في حقبة زمنية لاحقة، وهو ما لم يتحقق حتى اللحظة الراهنة.
وقد يستقيم القول بأن الاطلاع المتمعن والمستبصر في صيرورة تكون فكر عصر الأنوار في أوربا ضرورة محورية لا يمكن الاستغناء عنها لاستقراء مداخل نهوض المجتمعات فكرياً، ومقدمة لا بد منها في سياق أي اجتهاد لا بد منه لإعادة استنهاض المشروع النهضوي العربي من هجوعه المديد، وتوطينه في المجتمعات الناطقة بلسان الضاد بشكل أكثر اتساقاً ومنهجية وتجانساً يستند في تكوينه على مسلمة أن الجهل والتخلف والأمية المعرفية لا يمكن أن تفضي في المجال الاجتماعي والسياسي إلا إلى بؤس مقيم، وأن الاستنارة المعرفية هي الطريق الوحيد لاستدماج العقلانية والرشاد في تكوين المجتمع الفكري وثقافته اليومية الاعتيادية، وذلك عبر الاتكاء الذي لا بد منه على ما أنجز الأسلاف السابقون في سياق نهوض العقل البشري الجمعي بغض النظر عن الموضع الجغرافي الذي اشرأب فيه، في محاولة لتكشف الطريق الأقل وعورة في الخروج من قمقم «الاستبداد والتخلف والجهل وانسداد الآفاق» المخيم على حيوات ومستقبل جل الناطقين بلسان الضاد، الذين لا بد لكل قادر منهم من المساهمة بكل ما يستطيع عليه في تحقيق هذه المهمة الملحة الجللة التي قد يكون من الصعب دونها الحفاظ على عيوشية وحق الأجيال القادمة في المجتمعات العربية في حياة طبيعية كريمة عادلة لا تحولهم وقوداً لكل عناصر التذرية العدمية والتدمير الكلياني للإنسان والمجتمع في سياقها «النكوصي المرير الأليم» كما هو واقع حالها المحسور والمكلوم والمحزون راهناً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصطفى البرغوثي: الهجوم البري الإسرائيلي -المرتقب- على رفح -ق


.. وفد مصري إلى إسرائيل.. تطورات في ملفي الحرب والرهائن في غزة




.. العراق.. تحرش تحت قبة البرلمان؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. إصابة 11 عسكريا في معارك قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية




.. ا?لهان عمر تزور مخيم الاحتجاج الداعم لغزة في كولومبيا