الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورج سيمل: فلسفة المال (لم يَعُد المالُ وسيلةً وإنما صارَ غايةً في ذاته، صار مُؤلّها، صارتْ له ماهية ميتافيزيقية، هو قيمة تمكّن مِن الحصول على كل الإمكانيات)

محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)

2021 / 7 / 7
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يرى عالم الاجتماع الألماني جورج سيمل Georg Simmel (1858 – 1918) في كتابه الذي يحمل العنوان التالي في الترجمة الفرنسية "Philosophie de l’argent" (والذي تُرجم إلى العربية تحت عنوان: فلسفة النقود، ترجمة عصام سليمان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2020) أن المال ليس مجرد وسيلة للأداء. إنه في الحقيقة قوة تحقق التحضّر والتمدّن. قوة تكثف بداخلها القيم التي تهزم كل ما يقاوم ما يستهدفه الأفراد. لذلك يمكن الحديث عن نتائج اجتماعية وأخرى ميتافيزيقية تنتج عن تدخل المال في مختلف المواقف.
إن المال هو خاصية أساسية تميز المجتمعات الحديثة. فانتشاره واحتلاله مكانة مركزية في حياة الناس يجعل هذه المجتمعات الحديثة مختلفة كل الاختلاف عن المجتمعات الإقطاعية (الفيودالية).
صار المال وسيطا لا يمكن الاستغناء عنه، سواء في العلاقات بين الناس والأشياء (المنتجات)، أو في العلاقات التي تربط الناس فيما بينهم. (في مجالات العمل والدراسة ومختلف مجالات التدبير...).
في مجال علاقة الناس بالمنتجات: يؤدي تحول الممتلكات المادية، في أية لحظة من لحظات الحياة، إلى قدر مالي، يؤدي إلى عدم اكتراث بهذه المنتجات/الأشياء. أما في مجال العلاقة الإنسان بالإنسان: فيقوم الفرد بتمديد مجال تبعيته وخضوعه وارتهانه، ويقلص في نفس الوقت من كثافة ارتباطه بهذا الشيء أو ذاك. ويتضح ذلك من مقارنة تبعية الفرد في المجتمع الفيودالي بتبعيته اليوم: لم يكن الفرد في المجتمع الفيودالي تابعا إلا لشخص واحد (هو الإقطاعي) أو لمجموعة واحدة (هي جماعة الضيعة).
بلغ هذا التطور، بالنسبة لجورج سيمل، هذا المستوى من التجريد بفضل التقدم الثقافي المنجز في العصر الحديث. فتنامي القدرات الثقافية على التجريد مسألة تميز هذا العصر الذي صار فيه المال رمزا لا يكترث بقيمته الخاصة. لقد فقد الفعل الاقتصادي طابعه الشخصي، فقد ارتباطه بهذا الشخص أو ذاك: فلم يعد من الضروري أن يتميز الشخص بشيء ما من أجل أن يحصل على منتوج معين أو على خدمة معينة. فلكي يحصل أيٌ فرد على منتوج أو على خدمة يكفي أن يؤدي الثمن. لقد ساوى المال بين كل الفاعلين الذين ينخرطون في عملية التبادل.
يخلق المال مستوى واحدا من الواقع، وينجح في إخفاء كل الاختلافات الطبيعية بين الأشياء معوضا إياها باختلافات في الدرجة تُقاس بسلم قيم التبادل.
تؤدي هذه الظاهرة إلى تسوية الواقع كله تحت تأثير المصلحة الاقتصادية، وتقود إلى تفضيل تجميع الفاعلين حول هدف مالي: فالمال يمحو الصراعات ويخلق شراكات فعّالة بين الناس.
يكمن المعنى الفلسفي للمال في أنه يوفر ظهور الوجود الكوني وتحققه بوضوح كبير في صلب العالم الواقعي. فالأشياء تحصل على معناها من اتصالها بالأشياء الأخرى، كما أن الفضل في وجودها وفي وجودها-بهذه الكيفية يعود لكونها توجد داخل علاقات أساسها التبادل فيما بينها. يؤدي تساوي الأشياء إلى فقدان الوقائع النوعية لمعناها.
يمكن للمال أن يتسبب في حدوث اضطراب لما يقرّبُ الأشياءَ النبيلة من الأشياء الأكثر ابتذالا. وعلى المستوى النفسي، يؤدي الاختفاء التدريجي للقيمة الاستعمالية لفائدة القيمة التبادلية إلى جعل الفرد عاجزا عن تحديد أولوياته القيمية (تراتبية القيم بالنسبة له). ومع ذلك فإن هذا الأمر يقتضي بالضرورة إبراز جزء من الواقع لا يمكن التعبير عنه بالمال مثل الصداقة والحب والثقة والمسؤولية والتضحية والصبر...
إن هذه الوقائع التي لا يمكن التعبير عنها بالمال تتميز، حسب جورج سيمل، باستحالة وجود مكافئ أو معادل مالي لها.
لقد انتقل المال من مجرد وسيلة إلى وسيلة مطلقة ليصبح في الأخير غاية في ذاته. فكيف يمكن تفسير هذا الانتقال؟ بما أن الإنسان يفكر في أهدافه من خلال إدراكه لترابط الوسائل الضرورية والمقبولة اجتماعيا، ترابط يحكمه التعاقب، وبما أن المال يعتبر بالتأكيد جزءا من هذه الوسائل الضرورية (التي هي أيضا امتيازات) فإنه صار غاية في ذاته. ومن جهة أخرى، فالتركيز على هذه الوسيلة يجعل الفرد يركز فقط على هذه الوسيلة (الثروة) والتضحية بالتفكير في الغايات التي لا حد لها والتي تتطلب بذل جده فكري متواصل.
إن الرغبة في الاغتناء بهذه الكيفية التي تجعل المال غاية في ذاتهن تقود الفرد، حسب جورج سيمل، إلى التخلي عن إشكالاته الأساسية، سواء كانت فردية أو جماعية، تلك الإشكالات التي هي أساس وجوده. لقد بلغ المال درجة من السيطرة على الأفراد بحيث صار يتحكم فيهم، صار معبودهم الأساسي والمفضل. لقد اكتسب المال بُعدا لا إنسانيا. يمكن للثروة أن تمنح الأفراد سلطة مضرة بهم وبنظرائهم. لقد تجاوز المالُ حدود استعمالاته الخاصة، وصارت له ماهية ميتافيزيقية. وبما أنه صار وسيلة مطلقة، فإنه يفرض "إمكانية الحصول على كل القيم مادام هو قيمة كل الإمكانيات".








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المال ينظم الحياة اليومية
منير كريم ( 2021 / 7 / 7 - 18:17 )
تحية للاستاذ
ظهور المال ظاهرة تقدمية لا يمكن الرجوع عنها واية دعوة لالغائه ستكون طوباوية رجعية
شكل المال متغير انما الجوهر واحد
المال ينظم الحياة اليومية ويشيع النظام من خلال العقوبات المالية على المخالفات مثلا
المال يمكن ان يستثمر كنظام للحوافز لتطوير الافراد
شكرا على مقالك

اخر الافلام

.. توسع الاحتجاجات الجامعية في أنحاء العالم


.. إجراءات اتخذتها جامعات غربية بعد حرب إسرائيل على غزة




.. استشهاد فلسطينيين أحدهما طفل في قصف إسرائيلي استهدف منزلا شر


.. على خطى حماس وحزب الله.. الحوثيون يطورون شبكة أنفاق وقواعد ع




.. قوة روسية تنتشر في قاعدة عسكرية في النيجر