الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة الغزو الثقافي اليهودي لشعوب الشرق الأوسط بتزوير الكتاب المقدس (2)

محمد مبروك أبو زيد
كاتب وباحث

(Mohamed Mabrouk Abozaid)

2021 / 7 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


عرفنا في المقالات السابقة كيف سعى اليهود منذ أكثر من ألفين وخمسمائة عام إلى نقل خريطة القرى والنجوع الجبلية التي كانوا يعيشون فيها جنوب غرب الجزيرة العربية إلى خريطة المدن والحواضر والإمبراطوريات في عالم الشرق الأوسط كله .. فقد حاولوا بالفعل أن يوظفوا النص التوراتي لهدفٍ براجماتي محدد منذ الوهلة الأولى، ولهذا نعتقد أن الأمر الصادر من بطليموس فيلادلفوس 246-285ق.م إلى الكاهن الجبتي مانيتون بإعداد سجل شامل للتاريخ الجبتي، ما كان إلا بالتماس مُغلّف من الكهنة السبعين خلال عمليات التحضير لترجمة التوراة، بحيث يستفيدوا من هذا التاريخ في اختيار شخصية معينة من ملوك إيجبت القدماء وجعلها شخصية فرعون واختيار أسماء لمدن معينة كانت موجودة في هذا العصر وغرسها في التوراة ليبدو الأمر تجسيداً حقيقياً لقصة مثيرة. وذلك ببساطة لأن بطليموس لم يكن من أصل قبطي، ولا تنتمي جذوره إلى أرض وادي النيل، إنما هو محتل وافد وأقصى ما يخصه هو معرفة جغرافيا هذا البلد وثرواته وموارده، إنما لا نتصور أبداً أن يكون حفيظاً أميناً على تراث وتاريخ هذا البلد، إلا إذا كان ذلك بعثاً يهودياً بطريقة أو بأخرى كي يتمكنوا من تقعيد نصوص التوراة في هذه المنطقة. بل إنهم ما زالوا يعملون بذات الخطة إلى يومنا هذا، يقومون بتمويل بعثات علمية على نفقاتهم للبحث في تاريخنا وآثارنا ومن ثم قراءتها وتأويلها وفق أغراضهم. وكل ما في الأمر أنهم في زمن بطليموس استعانوا بالكاهن الجبتي مانيتون لأنهم كانوا دخلاء وافدين لا يعرفون لغة البلد ولا ثقافتها ولا تاريخها، بينما كان مانيتون أكفأ منهم في هذه المهمة، ومن ثم قاموا بتوظيفه للسعي على هدفهم دون أن يدري كما يوظفوننا اليوم للسعي على أهدافهم دون أن ندري، ويعبثون بآثارنا وهي بأيدينا دون أن ندري...

وما يؤكد ذلك أكثر هو كم التزوير والكذب الذي نقله المؤرخ اليهودي يوسيفوس وقال أنه قرأ ذلك في مدونات مانيتون الأصلية، بينما كانت مدونات مانيتون قد احترقت قبل أن يولد يوسيفوس بمائتي عام ! ثم أن ما أورده المؤرخون اليونانيون نقلاً عن نصوص المدونات الأصلية لمانيتون قبل احتراقها يتناقض جذرياً مع ما يدعيه يوسيفوس وهذا يثبت أنه محض كذب عارٍ تماماً من الصحة، ويثبت أن مهمة مانيتون كانت على نفقة اليهود ولحاسبهم. ومن المرجح جداً أن اليهود يحتفظون إلى اليوم بنسخة أصلية من مدونة مانيتون يخفونها بذات الطريقة التي يخفون بها مدونات التوراة الأصلية عن أعين الناس، لكنها حتماً ستظهر يوماً ما للعالم في المستقبل. فمن المستحيل أن يطلع اليهود على هذه النسخة الأصلية ويفقدونها من يدهم إلا إذا تعرضوا للسبي وهو خارج عن إرادتهم، وفيما عدا ذلك فهم يحتفظون بكل المدونات وقصاصات الورق مهما كانت تافهة، كي يتمكنوا من تقعيد نصوص التوراة وتطبيعها على التاريخ بعناية.

فيؤكد فريق من الكتاب الغربيين أن تلك الترجمة السبعونية احتوت مقاطع لم تكن موجودة في الأصل، مثل موضوع خلق المرأة من ضلع آدم، والذي ليس له وجود في التوراة الأصلية.. وهنا لنا وقفة عابرة، حيث أن مجرد تحويل أصل الخلق على يد الله من ذكر وأنثى (زوج متوازي مثل كافة الأنواع الحية من طيور وحيوانات) إلى أسطورة خلق أدم منفرداً ثم اشتقاق حواء من ضلعه، هذا الأمر لا يمكن أن يحمل فقط المعنى الحرفي للعبارة، وإنما يحمل فلسفة كبيرة جداً، هذه الفلسفة تعبر عن الهوية اليهودية التي تبناها الكهنة السبعون حين وضع الترجمة باعتبارها برنامج لحزب سياسي وليس كتاب الله المقدس، فكأنهم يعترضون على طريقة خلق الله للإنسان، ويتحدونه (جل وعلا) ويحذفون كلامه ويطمسونه ويضعون نظريتهم في الخلق لتسود العالم !! وهذا الفُجر ليس نابعاً من الإيمان بالله وإنما نابع من القدرة على التبجُح مع الله والاعتراض على طريقة خلقه وتحويرها بما يتوافق مع رغبة اليهود... والغريب أن القرآن نطق صراحة وقال " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ "، ومع ذلك نجد جميع فقهاء التراث الإسلامي قد ركنوا القرآن جانباً واعتمدوا نظرية الكهنة السبعون التي سطروها في الترجمة المزورة كأساس لخلق آدم في الفلسفة الإسلامية، أي أن اليهود لم ينجحوا فقط في توجيه الشعوب وإدارتها بفلسفة ومنهج معين، بل استطاعوا إدارة وتوجيه الأديان الأخرى !!

ليس هذا فقط، بل إن الفلسفة التي انطلقت منها هذه النظرية أوسع من ذلك بكثير؛ إذ أنهم جعلوا من شخصية أحادية (آدم) أصل للآخر (حواء)، على اعتبار أنها ليست إنسان مثله وإنما متفرعة عنه.. وعلى ذات الفلسفة ساروا في أسطورة جعل كل شعوب المنطقة ليست مخلوقة كأنسجة بشرية متوازية، وإنما جعلوا كل المجتمعات متفرعة عن أصل واحد هو أصل اليهود فقط ! ولكي يصلوا إلى هذه الفلسفة البعيدة جعلوا طوفان نوح نقطة البداية لشعوب الأرض، على اعتبار أن الطوفان لم يكن عقاباً لقرية نوح وإنما اكتسح البشرية بالكامل وأباد سكان الأرض شعوباً بأكملها، ثم بعد الطوفان بدأ أبناء نوح في الانتشار، ذهب مصرايم إلى شمال إفريقيا واحتل وادي النيل، فحملت اسمه وصار اسمها مصرايم بالعبري ومصر بالعربي، وذهب كوش إلى إثيوبيا واحلتها وحمل شعبها اسمه فصار اسمهم الكوشيين !، وذهب أردن ابن نوح إلى نطقة بالشام واحتلها فحملت اسمه وصار اسمها الأردن، وذهب أشور إلى بلاد السومريين واحتلها فحمت اسمه، وذهب سام إلى بلاد الشام واحتلها فحملت اسمه ! وذهب يوان ابن يافث إلى بلاد الإغريق واحتلها فحملت اسمه، وصار اسمها يونان ! وجاءت كل هذه الشعوب بعد ذلك من نسل هؤلاء وهؤلاء تم تسطير أصولهم وأفكارهم وحياتهم في التوراة، فتصبح بذلك الثقافة التوراتية هي " أم الكتاب" لكل الشعوب، وهي التي تفصّل أصل كل شعب وفصله ! وللأسف نحن نتغنى اليوم بترانيم اليهود بأن كل شعبٍ فينا ينتمي إلى أحد أبناء نوح ! وكأن أبناء نوح لهم ميزة على الخلق عن باقي البشر ممن هم قبل نوح ! وكأن النمرود وفرعون وذو نواس ومسيلمة الكذاب وسجاح لم يكونوا من أبناء نوح نفسه ! فقد نجح اليهود في تجنيد عقول شعوب المنطقة لخدمة مخططهم !

وجميع الخطط والخرائط الجغرافية والثقافية والتاريخية والعقائدية تتخذ لها من قصة طوفان نوح محور ارتكاز جماعي لتنتشر منه في دائرة تتسع موجاتها لتطوي الشعوب المجاورة... برغم أن منطقة الطوفان ما كنت للتجاوز حدود الإقليم الذي يسكن فيه نوح وقومه وهم الذين شملهم الإنذار بلغتهم، لأن الله ليس بظلام للعبيد كي يبيدهم دون نذير، ولا كان عاجزاً عن أن يرسل من كل قومٍ رسول منهم وبلغتهم وهو القائل عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ 򞑰/ إبراهيم.

أما خرافات اليهود وقولهم بأن الأقباط شعب وادي النيل من نسل حام ابن نوح ! (كيف ذلك وحضارة أجدادنا الجبتيين تمتد إلى ثلاثين ألف عام إلى ما قبل طوفان نوح؟! فاليهود قد أعادوا صياغة مدونات التوراة وما تضمنته عن الأمم السابقة من العرب بطريقة سياسية تخلق لهم تاريخ عريق بالمنطقة، حتى أنهم قاموا بتفخيم كل عناصر الرواية التوراتية بشكل غير مهضوم عقلياً، فهم قد دونوا تاريخ أسرة نوح باعتباره تاريخ شعوب المنطقة بالكامل، فهل كان نوح وأولاده الثلاثة فقط في السفينة ؟! السفينة كان بها 72 نفساً ممن آمنوا بالله ومعهم حيوانات من كل نوع زوج، لكن اليهود طمسوا كل ذلك وجعلوا جذور البشرية كلها تمتد إلى أبناء نوح الثلاثة فقط بينما باقي المجموعة كان مصيرهم الفناء، وقال اليهود أنهم كانوا لا ينجبون ! وبدأوا في توسيع دائرة الانتشار الوبائي بحيث جعلوا من كل واحد من أبناء نوح يحتل منطقة بحجم دولة لتكون وطناً له ولأولاده، بينما الأصل في الإنسان هو الاجتماع وليس التفرق والانعزال، بمعنى أنهم لم ينزلوا من السفينة كي يتفرقوا ويعيش كل واحد في قارة تبعد آلاف الكيلومترات عن أشقائه، بل شكلوا مجتمع (قرية أو نجع) وتضامنوا في مواجهة الطبيعة واحتياجات حياتهم اليومية لأن الإنسان لا يمكنه العيش منفرداً وبطبيعته الغريزية يميل للاستئناس بغيره، بل إن طبيعة العقلية العربية التي تقوم أساساً على غريزة العصبية القبلية والعشائرية لهي منفرة بالفطرة من فكرة الانتشار العنكبوتي هذه. أما اليهود فقد جعلوا أفراد هذه الأسرة شتات في بقاع الأرض، ويزعمون أن كوش غادر بلاده وعاش في وسط إفريقيا، بينما حام هاجر إلى شمال إفريقيا، أما سام فقد غادر إلى آسيا وبلاد الشام ..إلخ من عادة اليهود في الانتشار الوبائي.

ويقول اليهود أن السودانيين والإثيوبيين اليوم من نسل كوش ! وأن الروم والأتراك من نسل يافث ابن نوح ! وأن الأقباط هم أولاد مصرايم من نسل حام! على اعتبار أن مصرايم نكح امرأة من بني الكهنة فأنجبت له أولاد بأسماء المدن القبطية ! وكأن امرأة بني الكهنة هذه لم تكن موجودة في بلاد الكهنة ! أي لم يطالها الطوفان !، أو أن بني الكهنة كلهم كانوا في سفينة نوح !.. فكل هذه خرافات يهودية يحاول العقل اليهودي تسكينها في عقول الشعوب الساذجة وتكبيل أفكارها بخيوط عنكبوتية لَزِجة، كي يرسموا خريطة ديمجرافية وثقافية ذات قداسة دينية توراتية، فتصبح بذلك التوراة هي البوصلة الموجهة للأديان من بعدها!، ثم بعد ذلك يرسموا خريطة جغرافية ذات قداسة دينية أيضاً مصدرها التوراة، وحتماً تتبعها خريطة سياسية معاصرة، وبذلك تتمكن اليهودية من تحريك القوميات من العمق دون أن يدري أحد، لأنهم تمكنوا في البداية من تسريب معلومات ذات قداسة دينية حتى استقرت في الوعي الجمعي للشعوب وصارت بمنأى عن الجدل والنقاش، وعلى أساس هذه المعلومات تستقبل العقول معلومات جديدة أرادها اليهود بعينها لهدفٍ بعينه.

وبذلك يضمن اليهود أن هذه الشعوب بعد آلاف السنين لن تقبل أو تهضم معلومات تتناقض مع الموروثات المقدسة، لكن الشعوب نفسها لم تدرك أن مقدساتها هي توراتية الأصل والمنبع، لأنها زُرعت في عقول الأجداد حينما كانوا في عصر اضمحلال وخمول ذهني، وقد استغل اليهود حادث الطوفان وضخموه وفخموه وعظموه إلى درجة الخرافة، وجعلوه يشمل كل شعوب المنطقة نظراً لأنه حادث إلهي والناس بطبيعتها تخضع للحوادث الإلهية، حتى وإن كانت تفسيراتها خرافية، وهذا ما فتح الباب لليهود لجعل الطوفان أسطورة عظمى انطلق من عباءتها أساطير عديدة تحتل عقل وفكر الشعوب كلها، كون الأسطورة الأصلية دخلت من باب الإعجاز الإلهي، وبالمقابل قاموا بتفخيم وتعظيم سلالة نوح في ذات المناطق وأقنعوا جميع شعوب الأرض بأنهم من أحفاد نوح ! ومن ذاك الذي يرفض أن يكون من أحفاد نبي الله نوح !

وفي أذيال هذه القصة الأسطورية لانتشار الطوفان انتشرت حكايات أبناء نوح ليحملوا معهم سلالة خرج منها اليهود فيكون بذلك لهم حظوة بذكر حكايات نوح خاصة أنها وردت في كتابهم المقدس ما يفتح لهم مزيداً من الأبواب لنشر ثقافتهم وتطعيمها بأفكارهم.

وهذه الفكرة – فكرة الانتشار العنكبوتي لأبناء نوح- ظهرت أول الأمر عند الإعداد لمشروع الترجمة السبعونية، وفي الغالب فقد ظهرت بالصدفة، لأن الكهنة حينما عكفوا على ترجمة التوراة إلى اليونانية، فكانوا يقومون بنقل المعنى من اللغة السريانية إلى اليونانية، فاصطدموا بحجر عثرة صغير جعلوه جسراً عظيماً يعبرون به من حياة الخيام والعشش إلى القصور والحضارة ! إذ أن التوراة في تعداد السنين والتواريخ تذكر أعماراً طويلة جداً لا يمكن تصورها لبشر، فأبعد أثر لهيكل بشري وجد في العصور الحجرية القديمة على ضفاف النيل يوضح أن طول قامة الإنسان لم تتغير ولا عمره كذلك، فقد كان الإنسان على مدار التاريخ بذات المواصفات الجينية الوراثية، ولم يكن هناك نظرية تطور قرود إلى بشر، ولا اختزال للبشر أنفسهم لا في أحجامهم ولا في أعمارهم، ولا كانت حياة الإنسان ألف عام، ولا كان طول آدم سبعون ذراع، ولا ستون ذراعاً، إنما كان عمر البشر عادياً جداً، لكن التوراة تقول أن نوح لبث في قومه ألف عام، ويقول القرآن ذلك أيضاً، فهل تصطدم الكتب السماوية بالعلم ! بالطبع لا، وسنفهم أن نوح عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً برغم أن عمره لم يتجاوز المائة سنة بحسابات عصرنا !

فقد كان القوم يعدون الأيام بدورات القمر وليس الشمس، وكانت كل دورة قمرية تمثل سنة كاملة، والدورة القمرية 30 يوم (ليل ونهار) وبالتالي لو حسبنا (ألف سنة إلا خمسين عاماً ) سنجد الألف سنة بهذا التعداد يعني ألف شهر قمري = 83,3 أي ثلاثة وثمانين سنة شمسية كاملة 365يوم، والخمسين عاماً = 4,16 ؛ أي أربعة سنوات تقريباً بحساباتنا لو كان العام هو ذاته السنة، وهو أمر مقبول أن يستمر نوح عليه السلام في دعوة قومه ثلاثة وثمانين عاماً متواصلة ثم يأتي الطوفان يكتسح الإقليم، ثم تأتي أربعة سنوات بلا مطر حتى تجف الأرض والبرك والمستنقعات وتعود الحياة إلى وضعها الطبيعي.

إنما لو قلنا أن نوح عاش ألف عام بحساباتنا وأن قومه كانوا من ذوي الأعمار الديناصورية ! فهذا الكلام لا يستقيم من نتائج المكتشفات العلمية التي تثبت أن قوم نوح ومن قبلهم كانت أطوالهم وأعمارهم متقاربة مع عصرنا. خصوصاً لو عرفنا أن هناك حوليات أكدية قديمة وسجلات آشورية تذكر أن فترة حكم الملك استمرت ألف سنة وأحياناً مائتي سنة ! فهذه السنوات لا يمكن تفسيرها على أنها كانت 365 يوم أبداً، إنما كان لديهم تقويم آخر يعدون على أساسه سنوات كلما تكرر حدث فلكي ما بشكل رتيب منتظم ومتعاقب، والأقرب للمنطق هنا أن هذه الشعوب كانت تقيم حساباتها على أساس الشهر القمري باعتباره سنة.

وبالتالي فالقرآن عندما يتحدث عن شعب معين كان يعتبر السنة 30 يوم، فإن القرآن هنا يقصد السنة وفقاً لحسابات هؤلاء القوم وليس وفقاً لحساباتنا نحن، وعندما تحدث عن سفينة نوح، فبالتأكيد أنه كان يقصد سفينة نوح التي كان جميع عظامها ولحمها من الخشب حتى الدُسُر (المسامير) من الخشب ولا يقصد تايتانيك التي هي حديد في حديد في زجاج، وذات محركات بخارية، حتى وإن استخدم مسمى سفينة، فلا بد أن نفهم نحن معنى السفينة في عرف القوم لا في عرفنا نحن. حتى أن الله تعالى استخدم كلمة (بحر) في أكثر من موضع وأكثر من سياق بمعنى مختلف في كل سياق، فـ(البحر) الذي غرق فيه فرعون ليس هو (البحر) الذي غرق فيه يونس، ليس هو البحر المقصود في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ 43/النحل.

وكذلك في كلمة الأرض، وقد ورد لفظ (الأرض) في القرآن الكريم على عدة معان، منها:
(الأرض) بمعنى (الجنة)؛ من ذلك قوله سبحانه: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ 105/الأنبياء. ونحو ذلك قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّـهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖفَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ 74/الزمر.
)الأرض) بمعنى أرض (مكة)؛ من ذلك قوله سبحانه: ﴿ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ﴾ 97/النساء. قال البغوي: يعني أرض مكة. ونحو ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ 76/الإسراء، المراد بـ(الأرض) هنا مكة على أصح الأقوال، وقيل: المدينة. وقوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ أي مكة.
)الأرض) بمعنى أرض (المدينة)، من ذلك قوله سبحانه: ﴿قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّـهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ 97/النساء. قال القرطبي: المراد بـ (الأرض) في الآية: المدينة. ونحو ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ 56/العنكبوت. قال مجاهد: إن أرضي المدينة واسعة، فهاجروا، وجاهدوا فيها.
)الأرض) بمعنى أرض (مصر)؛ من ذلك قوله تعالى: ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ ۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ�/ يوسف.

وثمة العديد من الآيات التي ورد فيها لفظ (الأرض) مرادٌ منه أرض نطاق إقليمي محدد، وكل هذا يختلف مطلقاً عن المقصود في قوله تعال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ ٢٢/ البقرة. وبالتالي فإن سياق الآيات هو الذي يحدد نطاق كلمة (بحر) وكلمة ( الأرض) وكلمة (سنة) إذا اختلف حسابها من قومٍ لآخر عبر الزمن، ولا يحتم ذلك أن تكون معنى السنة في كل الآيات هي تفسير مباشر لقوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ �/ التوبة. لأن الله هنا يتحدث عن التقويم الشمسي عند بداية خلق الكون، ولم يتحدث عن طول السنة التي اتخذها قوم سنة هجرية 355 يوم، واتخذها قوم آخرين سنة شمسية 365 يوم ، واتخذها السومريون القدامى عشرة أيام أو عشرين يوم وهكذا .

وهو ذات المعنى الذي يؤكده القرآن بقوله: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ �/الحج، وهو ما يعني أن تعداد السنوات يختلف عند الله عما نعتمده نحن في حساباتنا، أو ما كان يعتمده الأقوام الآخرون في أزمان التاريخ. فقد قام النص القرآني بإعادة تبيئة السَنة بمفهومها التوراتي داخل الحساب القمري ووظفها كوحدة لقياس مدد اللبث بالقيمة المحلية لقوم نوح وزمنهم. وكان لكل قوم تعداد مختلف، حتى أن أيام الأسبوع كانت عند العرب سبعة، بينما عند أجدادنا الأقباط كان الأسبوع عشرة أيام. ويقول الدكتور محمد شحرور:" في معنى قوله:﴿ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا ﴾ ) رب العالمين استعمل وحدتين مختلفتين في قياس الزمن يعني إذا قلت أنا: (الساعة عشرة إلا خمسة) هل يعني ذلك : (الساعة خمسة)؟! فالوحدة الأولى (ساعة) والوحدة الثانية (دقيقة). هلّا هُون (في الآية) استعمل وحدتين: الوحدة الأولى (سنة) والوحدة الثانية (خمسين عام) – يقصد (عام) لأن لفظ "خمسين" تعداد للوحدة وليس منها ". وكل هذا حكاية عن عصر نوح ونظام التقويم عندهم، وحتماً هو مختلف عن باقي الشعوب والأمم لأن في هذه العصور لم يكن هناك اتصال وتبادل حضاري وثقافي بين الشعوب، بل لم تكن الشعوب تعرف أن هناك شعوب غيرها تسكن خلف البحار أو الجبال إلا بعد عصر الاستكشافات الجغرافية في الألف الثاني بعد الميلاد.

ولكن اليهود عند الترجمة السبعونية اصطدموا بحجر عثرة عند ترجمة هذه السنة التي هي بحسابات قوم نوح كانت شهراً قمرياً (30 يوم) واسمها (سنة) بينما التقويم اليوناني كان يعتمد السَنة الشمسية التي هي 365 يوم، وكذلك التقويم القبطي القديم 365 وربع. وكان اليهود في العصور اللاحقة يعتمدون التقويم بالعد القمري والكبس لتكملة سنة شمسية. وكل ذلك اسمه (سنة) . ومفهوم السنة (من السُنّة، أي الناموس الكوني أي تتابع أحداث الكون بشكل نمطي رتيب ومنتظم) فالسنة تعني انتظام وفق نمط رتيب وعادي وليس فيه أي شيء استثنائي, يعني حين يقول ربنا سَنة فهو يتحدث عن شيء مألوف متكرر بشكل ثابت وروتيني، وكانت نصوص التوراة التي تحدثت عن قوم نوح تشير إلى تلك السنة القصيرة (30 يوم قمري). فقام اليهود بترجمة السَنة التوراتية إلى سَنة يونانية مع غض البصر عن فارق الأيام، حيث أن السنة التوراتية (30 يوم تتجدد مع دورة القمر) بينما السنة اليونانية (365) يوم تتجدد مع تجدد دور الشمس والفصول الأربعة، وسار سياق النص وكأنه طبيعي ومقبول عقلاً، أو أنهم حاولوا ضبطه بطريقة ما كانت ممكنة، لأنهم لم يجدوا سنة يونانية طولها 30 يوم فقط، ولم يشاؤوا ترجمة الكلمة إلى عبارة تفسيرية كبيرة أينما وردت في نص التوراة، فاختاروا أن تكون السنة التوراتية مقابلها سنة يونانية للتسهيل، فأصبح بذلك تاريخ اليونان (ألف سنة مثلاً = 365000 يوم. بينما تاريخ اليهود خمسة آلاف سنة مثلاً وفي حقيقتها تساوي: 150000 يوم فقط.

وهذا ما يمكن أن نتبينه من كلام المؤرخ اليهودي يوسيفوس حينما يحاول التضليل والتشويش وإدخال السنة التوراتية في السنة اليونانية ، فيقول في باب بعنوان: "علم بيان التواريخ من سبي بني إسرائيل فصاعداً" ، يقول:" من سبي بني بختنصر لبني إسرائيل إلى الإسكندر ألف وثلاثون سنة، ومن ملك داود إلى ملك الإسكندر سبعمائة وأربعون سنة، ومن خروج بني إسرائيل من مصر إلى الإسكندر ألف وست وأربعون سنة ، ومن إبراهيم إلى ملك الإسكندر ألف وثمان مائة وثلاث وخمسون سنة ومن فالق إلى الإسكندر ألفان وثلث مائة وأربع وتسعون سنة، ومن الطوفان إلى الإسكندر ألفان وتسع مائة وخمس وعشرون سنة ..

ولو لاحظنا أن المدة الزمنية التي وضعها يوسيوفس بين سبي بختنصر لبني إسرائيل (ألف وثلاثون سنة) مستحيلة التصور العقلي إلا إذا كان يوسيفوس هذا مخبولاً في عقله، لأن عصر بختنصر يسبق عصر الإسكندر بما يقارب 200 سنة شمسية فقط، ما يعني صراحة أن يوسيفوس كان يستخدم تعداداً آخر توراتياً غير معروف.. أما الغريب أنه يعود لضبط البوصلة على التقويم اليوناني فيقول: (ومن ملك داود إلى ملك الإسكندر سبعمائة وأربعون سنة)، ولو فحصنا هذا التأريخ لوجدناه دقيقاً جداً لأن مملكة داواد كانت حوالي عام 1000 ق.م، وميلاد الإسكندر 360 ق.م ، فالتأريخ بهذه الطريقة على التقويم اليوناني الشمسي غاية في الدقة.. ويكمل كذلك بقوله ( ومن خروج بني إسرائيل من مصر إلى الإسكندر ألف وست وأربعون سنة)، وهذه المدة لو حسبناها بالتقويم اليوناني الشمسي لوجدناه قريباً من الواقع. لكن مسألة مرور ألف عام بين سبي بني إسرائيل وملك الإسكندر، هذه تؤكد أن هناك تقويم توراتي آخر غير معروف، واستخدمه اليهود لدمج تاريخهم وتقويمهم في التقويم اليوناني.

ثم راقت لهم الفكرة فقاموا بتوسيعها وتطبيعها على كافة محاور التوراة؛ ثقافياً وديمجرافياً وجغرافياً، فأصبحت أرض مصر التي كانت عشرة كيلو متر مربع جنوب غرب جزيرة العرب، صارت هي إمبراطورية إيجبت بمساحة مليون كيلومتر مربع، وبعدما كانت عشيرة نوح تقيم في مجموعة عزب ونجوع متقاربة في إقليم جنوب غرب الجزيرة، صاروا منتشرين في عدة دول وإمبراطوريات متقاربة في جنوب غرب الكرة الأرضية، بذات معدلات التضخم والفوارق بين السنة التوراتية (30 يوم) والسنة اليونانية (3650 يوم). وبذات مقياس الرسم للخرائط الجغرافية والأفكار والأحداث التاريخية ..

وعلى هذا النهج اتبعوا فلسفة التضخيم للأحداث والأزمان بداية من حدث الطوفان الذي استطاعوا توظيفه بنجاح.. فمسألة السفينة (الفلك) وما حملت على ظهرها من أنواع الحيوانات من مختلف بقاع الأرض وأتباعه الذين آمنوا به فهي مسألة خرافية، وتفنن المفسرون في وصفهم لهذه السفينة، قالوا أن طول السفينة ألف متر وعرضها خمسمائة متر وارتفاعها 25 مترا. معتمدين طبعاً على الرواية التوراتية التي صورت سفينة نوح باعتبارها حاملة طائرات في تقود الأسطول السابع الأمريكي، وأن الطوفان أتى على الأرض كلها وغمرها برمتها بجبالها وسهولها وحصل فيها فناء ... قصة طويلة وعريضة !.

قال الله تعالى: ﴿ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ ﴾ 37/هود. وقال أيضاً: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ۙ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ ۖ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا ۖ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ﴾ 27/المؤمنون.. إذن، صناعة الفلك كانت بأمر الله سبحانه وتعالى وبوحي منه (نبوءة خطرت في ذهن نوح). وبالطبع كانت الصناعة بلغة عصرها وتقنياته، فما هي المواد الأولية الداخلة في صناعته؟ والجواب في الآية التالية:﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ﴾(13)القمر

وفي المعاجم العربية:
- الدِّسارُ : حَبْلٌ من لِيفٍ تُشَدُّ به ألواحُ السفينةِ والجمع : دُسُرٌ
ففي زمن سيدنا نوح عليه السلام كان المستوى الإنتاجي بسيط جدا فلم يكن هناك مسامير ولا حبال بل كان يستعمل القش والألياف النباتية للربط وهي الدسر.
﴿فأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ (119) الشعراء
- فلَكَ ثَدْيُ الفَتَاةِ : اِسْتَدَارَ فَصَارَ كَالفَلْكَةِ
- الفَلَكُ : التل المستدير و حوله فضاء
- الفَلَكُ : المدار يسبح فيه الجرم السماوي
فمعظم المعاجم العربية تشير الى الفلك بأنه شيء مستدير. حتى الفلك السماوي سمى فلك لنه يبدو مستديراً ..

فالسفينة الضخمة المزعومة ما هي إلا فُلْك وهو جسم خشبي مُكعبر، (تقوم بدور قوارب النجاة في عصرنا) والفلك مشتق من فعل "فَلَكَ" أي الاستدارة وهذا الفلك عبارة عن عوّامة مائية وبدون مجاديف ولا شراع أو دفة للتوجيه، ففي عهد نوح لم يتوصلوا الى هذه التقنية فنحن نتحدث عن صناعة بدائية، وكانت عملية التحكم به متروكة للتيار المائي حسب اتجاهه الطبيعي﴿ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ �/الحاقة. وكانت برعاية الله سبحانه وتعالى﴿ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ �/القمر.

أما الطوفان فلم يشمل كل الأرض وإنما كان محلي أصاب فقط قوم نوح والمناطق التي يسكنون فيها وربما تكون مناطق سهلية يشقها نهر، وهذا الطوفان عبارة عن عاصفة قوية أو إعصار ضرب هذه المناطق، ونحن نعرف في وقتنا الحاضر مدى القوة التدميرية لمثل هذه العواصف وما تخلفه من دمار وإغراق مدن بكاملها.. وجاء بعد قوم نوح سلالة العماليق التي انتشرت في المنطقة، يقول تعالى: " إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ". ولكن اليهود جعلوا كل سكان المناطق المجاورة خلفاء قوم نوح، حتى أوروبا صاروا من بقايا العماليق ! على اعتبار أن حام سكن أفريقيا وسام سكن الشام ويافث سكن غرب أوروبا !

وهذا التقسيم والتوزيع الديمجرافي سيتبعه بطبيعة الحال توجيه أيديولوجي بشكل تلقائي يكونون بذلك قد تحكموا في المنطقة بالكامل وفي الأفكار التي ستدور في عقول أبناء هذه الشعوب فيما هو قادم من الزمان !! فكما قاموا بإلغاء خلق الله لحواء كإنسان موازي لآدم، وجعلوه هو الأصل دونها وهي تكملة له متفرعة عنه، قاموا بإلغاء كل قوميات شعوب المنطقة وجعلوا سلالة نوح هي الأصل وكل الشعوب جاءت متفرعة عنها وتكميلاً لها، كي يتمكن الأصل من التحكم في الفرع بسهولة، فكانت توزيعة أبناء نوح هذه هي البوابة التي من خلالها يمكن التحكم في زمام الأمور. ومن هنا بدأت رحلة اللعب بعقول أبناء هذه الشعوب، وبظاهرة الانتشار الوبائي كالعادة، ليس فقط في نشر هذه الفلسفة الأبوية للشعوب وإنما بتدعيمها بإطلاق المسميات المحلية وفق هذا التوزيع الديمجرافي، وعلى هذا الأساس تم توزيع أسماء البلاد والشعوب...

كما يؤكد الكتاب الغربيين أن المجلس الأعلى للمجمع اليهودي في ذلك الوقت صادق على هذه الترجمة اليونانية رغم سوء ترجمتها وتوسلوا لمترجميها بأعذار لا يقبلها عاقل، فالنص الأصلي في التوراة (سفر التكوين21:21) يقول:
(וישב במדבר פארן ותקחלו אמו אשה מארץ מצרים)
ومعناه:(( وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ مِصْرَايم)). .. وتعني: أن السيدة هاجر زوجة إبراهيم سكنت في واحة فاران (مكة الآن) واتخذت لنجلها إسماعيل زوجة من قرية مصرايم .. والتي هي بالطبع على مرمى البصر من واحة فاران ..
لكن الترجمة الأولى إلى اليونانية جاءت على هذا النحو:
καὶἔλαβεν،καὶ κατῴκησενἐν τῇ ἐρήμῳ τῇ Φαραν .αὐτῷ ἡ μήτηρ γυναῖκα ἐκ γῆς Αἰγύπτου
ومعناه:(( وَسَكَنَ فِي بَرِّيَّةِ فَارَانَ، وَأَخَذَتْ لَهُ أُمُّهُ زَوْجَةً مِنْ أَرْضِ إيجبتوس)).

أي تم وضع كلمة Αἰγύπτουكمقابل لكلمة ( מצרים – مصرايم) ، في حين أن ذلك لا يعد ترجمة إطلاقاً وإنما استبدال كلمات لا علاقة لها ببعضها، فلا يوجد أي صلة بين قرية مصرايم و إمبراطورية إيجبتوس، لا من حيث المعنى اللفظي، فالأولى عبرية والثانية هيروغليفية، ولا من حيث الجغرافيا، فالأولى قرية أو واحة جنوب مكة، والثانية إمبراطورية جنوب البحر المتوسط، ولا من حيث التاريخ بالطبع.. ولو كانت كلمة (مصر-مصرايم) معروفة في هذا الزمن كاسم لبلاد وادي النيل سواء قديم أو معاصر لما كان الكهنة في حاجة إلى حذف "مصرايم" ووضع "إيجبت" أو كانوا على الأقل –كعادتهم- أضافوا الاسم القديم إلى الجديد بحيث تخرج الترجمة مثلاً (مصرايم التي هي إيجبت) أو (مصر التي هي إيجبت) إنما هذا يؤكد أن كلمة مصرايم هي كلمة توراتية عبرية خالصة لم يكن لها وجدود في بلاد وادي النيل ومثلها لفظة "مصر" باللسان العربي وإلا كان الكهنة قد استخدموها لتجنب التناقض والعوار في الترجمة.

وهذه كانت المرة الأولى في التاريخ التي يقترن فيها اسم (مصر = Egypt)، كان الأمر في البداية انتقالاً من "مصرايم" إلى " إيجبتوس" خلال ترجمة التوراة من السريانية إلى اليونانية، ومن هذا التاريخ عُرفت الدولة باسمين معاً، ليس أحدهما ترجمة للآخر ولا صلة بينهما من حيث المعنى، ولا أحد يعرف أي علاقة بينهما، وكل الصلة بينهما أن الأول (مصرايم) ورد في النسخة الأصلية للتوراية السريانية للدلالة على اسم القرية التي عاش فيها بني إسرائيل مع فرعون، والثاني (إيجبتوس) ورد في النسخة اليونانية للتوراة المترجمة كدلالة على البلد التي عاش فيها فرعون موسى وبني إسرائيل.. والأول يعني اشتقاق من اسم مصرايم ابن حام ابن نوح الذي سكنت عشيرته منطقة رعي حملت اسم العشيرة "مصرايم" خلف جبال السراة جنوب غرب الجزيرة العربية، والثاني اشتقاق من الجذر الهيروغليفي ( أي جبت) إيجبت؛ ويعني أرض الإله، ونطقه اليونانيون إيجبتوس. وبقي مصرايم مخفياً في نصوص التوراة، والظاهر علناً للناس هو إيجبتوس الذي ورد في ترجمة التوراة اليونانية، وعلى مدار هذا التاريخ بعد ذلك لم يعد ممكناً لأحد أن يستبعد واحد من الاسمين، لأن الرابط بينهما هو العقيدة اليهودية، فأحدهما ورد في النص السرياني للتوراة، والآخر ورد في التوراة اليونانية.

ويثبت بذلك أن نتاج الترجمــة كــان تحويــل اســم علــمٍ هــو (مصــرايم –מצרים) إلى اسم عَلَم آخر هو(إيجبتوس Αἰγύπτου ) ! وإيجبت هذه بلاد عريقة يعرفها القاصي والداني في العالمين القديم والحـديث، كمـا تُعـرف أسمـاء بـلاد الهنـد والصـين وفـارس وفرنسـا وأمريكـا. وهـي عينـها إيجبت أو إيقبط كما ينطقها اللسان العربي أو مـا يعـرف في الغـرب اليـوم بإيجبـت Egypt، أما كلمة مصرايم هذه فلم يكن لها أي وجود واقعي في عصر ترجمة التوراة، ولم يكن أحد يعلم عنها شيئاً لأنها كانت من القرى العربية البائدة مثل قوم عاد وهود وثمود وإرم ذات العماد..إلخ. ونتيجة هذا التزوير القديم اسـتندت كـل الترجمـات التوراتيـة الـتي صـدرت لاحقـاً إلى "الســبعونية" ولــيس مــن الأصــل الســرياني، فنقلت اسم بلد فرعون "إيجبت" وليس مصرايم"، فلــو اطلعــت علــى جميــع الإصــدارات التوراتية التي يتداولها الغرب المعاصر لن تجد اسم مصرايم بل ستجد إيجبت.

وفيما يلـي بعـض الأمثلـة لنصـوص بلغـات مختلفـة لـنفس المقطـع الـذي حللنـاه سـابقاً لتجـد كيـف تربعت "إيجبت" مكان مصرايم في النص التوراتي:
المقطع 12 :12 من سفر التكوين في التوراة المترجمة إلى الألمانية :
(GLB) under wohnte in der Wüste Pharan ،und seine Mutter nahm ihm ein Weib aus Agypten land

المقطع 12 :12 من سفر التكوين في التوراة المترجمة إلى الفرنسية :
(FDB) Et il habita dans le désert de Paran- et sa mère lui prit une femme du pays d Egypte

المقطع12 :12 من سفر التكوين في التوراة المترجمة إلى الانجليزية :
(KJV) And he dwelt in the wilderness of Paran: and his mother took him a wife out of the land of Egypt

ومثال أكثر تحديداً: يقول د. أحمد داود " في طبعة الكتاب المقدس الصادر عن دار المشرق عام 1876 نقرأ في نبوءة عاموس ما يلي: إن السيد رب الجنود هو الذي يمس الأرض فتذوب وينوح جميع الساكنين وتطمو كلها ثم تنضب كنهر مصر" وهذا المقطع نفسه من السفر نجده في طبعة الكتاب المقدس الصادرة عن دار الكتاب المقدس في العالم العربي عام 1979 وقد تحول من " نهر مصر " إلى نهر النيل".! برغم أن نهر مصر هو نهر ينحدر من جبال السراة إلى السهول باتجاه الغرب ويستمر جريانه حتى البحر الأحمر، وقد جف ونضب ماءه فعلياً كما ذكرت التوراة (...ثم تنضب كنهر مصر" ) وهذا كان السبب في فناء قرية مصر هذه لأن نهرها نضب وجف ماءه فتصحرت المنطقة وهجرها سكانها إلى السهول والوديان المنزرعة .. بينما نهر النيل لم ينضب قط!

وفي نصٍ آخر تقول التوراة: ‎فَرَدَّ الرَّبُّ رِيحًا غَرْبِيَّةً شَدِيدَةً جِدًّا، فَحَمَلَتِ الْجَرَادَ وَطَرَحَتْهُ إِلَى بَحْرِ سُوفَ. لَمْ تَبْقَ جَرَادَةٌ وَاحِدَةٌ فِي كُلِّ تُخُومِ مِصْرايمَ‎.‎(خروج 10:19) .. (لاحظ بحر سوف: أي بحر البوص أو الحلفا ؛ نبات مائي اسمه بالإنجليزية Reed) فلو كان يقصد نهر النيل لنطقه بحر النيل أو نهر النيل كما قرر أن يميزه بوصف ميداني هو نوع النبات الذي ينمو فيه، فوصف نهر النيل بأنه "النيل" أكثر علمية وشهرة وتمييزاً من وصفه بأنه نهر الحلفا، فهل يكون اسمه نهر النيل ويقول بحر سوف أو بحر البوص؟! لكن المترجمين غيروا الكلمة من Reed إلى Red لتصبح بذلك البحر الأحمر وينتهي الأمر !

.... في المقال القادم سنعرف كيف انتقلت خريطة أسماء القرى والنجوع الإسرائيلية من غرب الجزيرة العربية إلى مجموعة إمبراطوريات الشرق الأوسط كله ... ( إيجبت وسوريا وفينيقيا وأكاديا والإغريق..إلخ ) لنعرف كيف كان اسم (مصر) اسماً لقرية عربية قذرة ثم أصبح اسماً لأعظم دولة في التاريخ نشأت في وادي النيل هي (إيجبت ) ويستمر مع إيجبت حتى يومنا هذاوكيف انتقل اسم قرية (بئيروت) من جنوب اليمن ليصبح اسماً للعاصمة اللبنانية بيروت شمالي سوريا ! .وكيف انتقل اسم مستنقعات (يردن ) جنوب غرب الجزيرة ليصبح اسماً لدولة الأردن بالشام ! وكيف انتقل اسم قرية (ذات عرق) من جوار مكة ليصبح اسماً لإمبراطورية أكاديا العظمى ! وكيف انتقل اسم قرية ذامسق ليصبح اسماً للعاصمة دمشق ! وكيف انتقل اسم قرية ( قدس) ليصبح اسما للحاضرة البهية إيلياء ، وكيف انتقل اسم قرية (يونان) من شرق اليمن ليصبح اسماً لدولة الإغريق العظمى ! وكيف انتقل اسم جبل لبنان جنوب غرب اليمن ليصبح اسماً للدولة الفنينيقية العظمى ! ! وكيف تغيرت كل أسماء قرى ومدن وإمبراطوريات المنطقة بالكامل في وقت قياسي وفي هذا التاريخ تحديدً الذي يعود لعصر البطالمة ! .. غداً نكشف سر (حلف البطالمة واليهود )

رابط المصدر:
https://www.neelwafurat.com/itempage.aspx?id=egb248820-5263951&search=books








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي