الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المسيحية الإثيوبية

داليا سعدالدين
باحثة فى التاريخ

(Dahlia M. Saad El-din)

2021 / 7 / 8
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


يروى لنا سفر أعمال الرسل، الفصل الثامن، أن المسيحية دخلت إلى إثيوبيا خلال القرن الأول الميلادى عن طريق وزير الملكة "كنداكة"، حيث كان فى زيارة للقدس حينها، وقابل المبشر فيليب الذى دعاه للوحدانية والإيمان، وبالفعل آمن الوزير، وتم تعميده، ومن ثم اصبح مسيحيا وعاد ليبشر بالمسيحية فى المملكة الحبشية آنذاك، وهناك خلاف حول تأسيس أول كرسى كنسى فى إثيوبيا، فيذكر المؤرخ أرشيبالد روبرتسون أن تاريخ ترسيم "فيرمنتيوس" مطرانا لإثيوبيا مرتبط بصدور "مرسوم التجديف" فى مجمع سيرميوم سنة 357م، ومن ثم قيام الإمبراطور "قنسطنطيوس" بتعيين الأسقف أريوسى ﭼورݘ الكبادوكى على الإسكندرية فى نفس السنة، واستعان فى ذلك بنص خطاب أرسله الإمبراطور إلى بلاد أثيوبيا ”ضد فرومنتيوس أسقف أكسوم“، وقد وجهه الإمبراطور إلى أمراء وحكام أكسوم عاصمة أثيوبيا، فى حين يذكر الأب المتنيح "متى المسكين" فى كتابه "حقبة مضيئة فى تاريخ مصــر - بمناسبة مرور 16 قرناً على نياحته القديس أثناسيوس الرسولى البابا العشرون، الطبعة الثانية 2002"، أن بداية تأسيس الكرسى الأسقفى لأثيوبيا وإنتشار المسيحية كان حوالى سنة 330م، أى خلال فترة الخدمة الأولى للبابا أثناسيوس (328 إلى 335م)، حيث رسّم "فرمنتيوس" كأول أسقف على أثيوبيا، والذى عرفه الإثيوبيين بأسم " أبونا سلامة الأول "، وتُحيى الكنيسة ذكراه فى 18 كهيك/ 14 ديسمبر من كل سنة.
إلا أنه لا بد من عدم اغفال فترة الصراع بين اتباع كل من إثناسيوس وآريوس ، خاصة بعد مجمع نيقية المسكونى الأول 325م الذى أدين فيه "آريوس" بتهمة الهرطقة، إلا أنه فى سنة 335م تمت تبرئته فى مجمع صور المحلى، وفى سنة 381م تم تحريم كل أشكال المذهب الآريوسى وأتباعه فى مجمع القسطنطينية الأول، وكذا ما حدث فى مصر من اضطهاد دينى خلال القرون الأولى للميلاد، فليس من المستبعد فرار مئات المؤمنين إلى الجنوب، وعليه فقد يكون بعض المؤمنين من الأقباط وصلوا إلى المملكة الحبشية/ إثيوبيا آنذاك فى وقت مبكر وتم لهم أولى مراحل التبشير، وهو ما قد يفسر كون ارتباط الكنيسة الإثيوبية بالكنيسة الأم فى الأسكندرية حتى سنة 1959، إلا أن كل ذلك ليس مجال الحديث هنا، فكل ما يهمنا هو الوقوف على المسيحية فى إثيوبيا.
عموما، للديانة المسيحية فى إثيوبيا طابع خاص، فمثلا الاستناد إلى اعتبار كتاب "إينوك" واحد من الأسفار القانونية للكنيستين الإثيوبية والإريترية؛ ومن ثم مكمل للعهد القديم، ذلك إن "إينوك" هو أحد أجداد "نوح"، ويعتبر كاتب تلك الأسفار . أما الإثيوبيين فيساوون فى أحيان كثيرة بين كتاب "كيبرا ناجست/ جلال الملوك" وبين الكتاب المقدس نفسه، الذى يعتبر أن "الإثيوبيين هم شعب الله المختار"، ففى الاعتقاد الإثيوبى أن ملوك إثيوبيا الأوائل هم من نسل كهنوتى مقدس، إذ ينتسبون إلى "منليك الأول" الذى هو ابن الملك "سليمان بن داوود" ملك إسرائيل، المرتبط فى النسب بالسيد المسيح عليه السلام؛ إذ تقول الرواية أن الملك اليهودى "سليمان" تزوج من ملكة الإثيوبية "ماكيدا" التى حلت محل الملكة "بلقيس" ملكة "سبأ" فى التراث اليهودى والإسلامى ، فجلال الملوك لدى الإثيوبيين يتم فيه التأكيد على تمجيد الأسرة الملكية الإثيوبية المسماة بالأسرة السليمانية، وإثبات أحقيتها فى العرش اللإثيوبى وإقناع الشعب بكونهم منتسبين إلى أصل كهنوتى مقدس، الأمر الذى يجعل مجرد التفكير فى التمرد والثورة على الأسرة الحاكمة هو كفر ومعارضة للمشيئة الإلهية.
وقد اختلف فى زمن تأليف كتاب "كبرا نجست" ما بين القرنين السادس والثالث عشر الميلاديين، إلا أن معظم الآراء قد اتفقت على كتابته فى القرن الثالث عشر ، وهو يحتوى على خلط واضح بين الموروثات الشعبية والمادة الأسطورية، فيعود أصل بعض النصوص إلى العهد القديم وإلى مصادر مصرية وإسلامية، وأيضًا إلى كتب الأبوكريفا، التى هى الأسفار التى لم تقبل بين الكتب المقدسة- وأبوكريفا العهد القديم قبل بها الكنيستان الأرثوذكسية والكاثوليكية، فى حين يرفضها اليهود والبروستانت، أما أبوكريفا العهد الجديد فهى الأناجيل والرسائل وسواها من الأسفار، التى لا تقر الكنائس المسيحية بأنها من الكتب المقدسة، ويعتقد الباحثون المختصون فى اللغة الجعزية أن الكتاب به جانب من المعتقدات الدينية الأخرى، إلا أن مادته تمثل جزءًا من التراث الشعبى الإثيوبى، لذا يرونه عملاً أدبيًّا متكاملاً.
أما عن الأسطورة الرئيسية فى الكتاب مصدرها دينى، إذ ذكرتها الكتب المقدسة، وهى لقاء "سليمان بن داوود" ملك إسرائيل بملكة "سبأ، غير أن الكتاب الإثيوبى هنا قد جعلها ملكة إثيوبية، وأن الملك "سليمان" قد تزوجها وأنجب منها ولدًا دعاه "منليك"، الذى من نسله تسلسل كل ملوك إثيوبيا، كما أن الأسطورة تسوى فى بعض الأحيان بين "يسوع المسيح" نفسه و"منليك بن سليمان"، إذ تظهره فى صورة بالغة القداسة فهو الذى يشبه أباه تمامًا، كما أنه ممثل مملكة "داوود" الأرضية المتمثلة فى عرش إثيوبيا فى مقابل مملكة "داوود" السماوية، التى على رأسها "يسوع المسيح".
كما يؤكد الكتاب على أن "منليك الأول" حين زار أباه فى "أورشليم" قد قام بسرقة "التابوت المقدس" ومعه اثنا عشر كاهنًا، ويجب هنا ملاحظة أن عدد الكهنة الذين أسس بهم "منليك الأول" مملكته؛ إذ هو نفس عدد الأسباط الذين يتكون منهم "شعب الله المختار"، وهو الشعب اليهودى بنى إسرائيل الأول من ناحية، كما أنهم نفس عدد تلاميذ "السيد المسيح" عليه السلام، فللعدد هنا قدسية خاصة، فمن القضاة أسس"داوود" مملكته الأرضية، ومن أبنائهم أسس "منليك الأول" مملكته أيضا. ومما ذكر فى العهد القديم أن " التابوت المقدس" قد اختفى بالفعل فى عهد "سليمان" الملك، وهذا هو المدخل الذى بنيت عليه الأسطورة الإثيوبية، وما ذكر فى العهد القديم يقول بأن "التابوت" مسكن الرب، فهو المكان الذى كان يكلم من خلاله بنى إسرائيل، والرواية الإثيوبية أكدت أن "التابوت" حين تمت سرقته كان يطير فى اتجاه إثيوبيا، وعليه فإن الرب قد غادر "أورشليم" لأنها لم تحفظ وصاياه وعهده، واختار الإثيوبيين دون الأمم لأنهم أقبلوا عليه، ووفقًا لذلك فقد أصبحوا هم "شعب الله المختار".
وللبكر والبكورية قدسية واضحة فى روايات العهد القديم، فقد انتزع "يعقوب" البركة من أخيه "عيسو"، الابن البكر للنبى "إسحاق"؛ إذ تحايل "يعقوب" عليه فأخذ منه بكورته - سفر التكوين 25 (27-34)، ثم تحايل على أبيه "إسحاق" لأخذ البركة التى كان "إسحاق" ينوى إعطاءها لبكره "عيسو"- سفر التكوين 27 (1-40). إلا أن "منليك الأول" وهو ليس فقط بكر الملك "سليمان" فحسب بل وريثه أيضا فى أفريقيا، فتجعل الرواية للملك " سليمان" ثلاثة أبناء أحدهم "منليك" نفسه، والثانى "رحبعام" والثالث هو ابن فى روما من امرأة رومية، وهذه الرواية تهدف إلى ربط إثيوبيا المسيحية ببيزنطة المشتركة معها فى العقيدة من ناحية، كما تقسم العالم كله بين "منليك الأول بن سليمان" وأخيه الذى هو فى روما، ذلك لأن كليهما قد اتبع "السيد المسيح" عليه السلام ولأنهما أخوة فى الإيمان به.
فالإثيوبيين هم " شعب الله المختار" لأنهم اتباع المسيح وأحباب العذراء "مريم"، التى يصورها الكتاب فى صورة لؤلؤة تنتقل من أجساد القديسين إلى الأبكار من أولادهم، الذين لهم قدسية، فتخرج من "شيث" بن "آدم" إلى "إبراهيم"، ومنه لم تنتقل إلى بكره "إسماعيل" ، بل انتظرت لتخرج إلى "إسحاق"، ثم واصلت حتى جاءت إلى "يسى" ثم "داوود" "فسليمان"، وأخيرًا وصلته إلى "منليك بن سليمان" "الطاهر المقدس" وشعبه الطاهر، ويمكن لنا هنا استنتاج عدم خروج تلك اللؤلؤة من إبراهيم إلى بكره إسماعيل بن "هاجر المصرية"، ذلك أن البكر "إسماعيل" ليس نقى السلالة، بحسب المعتقد اليهودى، إذ إن والدته مصرية وليست عبرانية، وعليه تكون بركة العذراء قد انتقلت إلى "إسحاق بن سارة العبرانية"، لأن دمه نقى، حيث إن النقاء السلالة فى المعتقد اليهودى ينسب للأم وليس للأب، ولإن العذراء يهودية، فقد تخيرت الدم اليهودى لا المصرى، لذا انتقلت إلى "إسحاق" اليهودى الدم، بدلا من "إسماعيل" المصرى الدم.
ومما سبق يمكن استنباط عملية التوفيق بين التراثين اليهودى والمسيحى فى المفهوم الإثيوبى للديانة المسيحية، فقد عرفت الهضبة الإثيوبية الديانة اليهودية من خلال جماعات يهودية، ربما تكون جاءت من الجزيرة العربية زمن حركة الاستيطان الأولى، أو يحتمل أنهم وفدوا من مصر عبر مملكة "مروى"، وحتى العصور الوسطى، حيث كان اليهود متجمعين فى المنطقة الواقعة شمال بحيرة "تانا" متمثلين فى جماعتى "الفلاشا وبيتا إسرائيل"، حيث ظلوا مقيمين قرونًا يقاومون كل صور الضغط محتفظين بتراثهم الدينى، رغم كونهم لا يختلفون عن جيرانهم فى اللغة أو المظهر الجسمانى.
هذا الربط بين التاريخ الدينى والدين القائم، وما يلقيه الدين من قدسية على أحداث أو قصص لشعب ما، كما أن القول بكون هذا الشعب بعينه هو المختار من قبل الله دون غيره من شعوب الأرض، فلا أقل من أن يشعر هذا الشعب بكونه متميزًا عن بقية الشعوب، خاصة وأنه فى المعتقد الدينى الشعبى قد تم اختياره من قبل الرب نفسه، عوضًا عن "بنى إسرائيل" الذين لم يفوا بعهدهم مع الرب.
على كل حال فقد تأثر الإثيوبيين بهذه الميزة، إذ اعتبروا أنفسهم شعبًا مختارًا فعلا من قبل الرب، وهو الأمر الذى كان له عظيم الأثر فى علاقتهم بشعوب الجوار، فقد توسعوا على حساب أراضى الشعوب الأخرى، بل واعتبروا ذلك حربًا مقدسة، إذ ورد فى خطاب "منليك الثانى” إمبراطور إثيوبيا إلى ملوك الدول الأوروبية ورؤسائها عام 1891: (.... لقد ظلت إثيوبيا جزيرة مسيحية لمدة 14 قرنًا من الزمان وسط محيط من الملحدين الكفار....).
إلا أن ميزة الجنس هذه لم تكن فقط موقوفة على غير المسيحيين، بل إنها انسحبت أيضًا إلى المذاهب المسيحية الأخرى، فلم يسمح لهم ببناء الكنائس الخاصة بهم فى الهضبة الإثيوبية، حتى إنه خلال عهد "منليك الثانى" - 1889 إلى 1913 - لم يكن مسموحًا للكاثوليك والروم والأرمن من المسيحيين بإقامة الكنائس، وأنهم حينما عرضوا مطالبهم على الحكومة بشأن بناء كنائس خاصة بهم جاءهم الرد بأنهم جميعًا مسيحيون، وأنهم يمكنهم أن يصلوا فى كنائس الإثيوبيين، فلا لزوم لبناء كنائس أخرى، وبالتالى فلم يتقدم المسلمون بطلب لإنشاء جامع خوفًا من أن تمنعهم الحكومة، حتى إن المسلمين الذين بلغ عددهم حوالى ألفى مسلم - آنذاك - فى العاصمة "أديس أبابا" لم تكن لهم مقبرة خاصة بهم، فكانوا يدفنون موتاهم فى منازلهم وحدائقهم، ناهيك عن أن الإثيوبيين المسيحيين وقتها كانوا لا يشاركون الإثيوبيين المسلمين مائدة طعام، وأن كلاً من الفريقين لا يتناول شيئًا من ذبائح الآخر ولا من آنيتهم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمريكا تزود أوكرانيا بسلاح قوي سرًا لمواجهة روسيا.. هل يغير


.. مصادر طبية: مقتل 66 وإصابة 138 آخرين في غزة خلال الساعات الـ




.. السلطات الروسية تحتجز موظفا في وزارة الدفاع في قضية رشوة | #


.. مراسلنا: غارات جوية إسرائيلية على بلدتي مارون الراس وطيرحرفا




.. جهود دولية وإقليمية حثيثة لوقف إطلاق النار في غزة | #رادار