الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة الفارغة

عدي مروان ورده

2021 / 7 / 9
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إحدى السمات الأساسية لهذا العصر هو وجود منظومة أفكار جمعية فاعلة كالأديان التقليدية على الرغم من انتشار حقائق عامة تعارض بعمق ما تطرحه هذه المنظومات الجمعية وما يطرحه الإرث الديني التقليدي, لم تتعايش المجتمعات في العصور السابقة كما نفعل نحن اليوم مع منظومة أفكار جمعية متعارضة مع حقائق عامة متداولة على نحو واسع ويتم تدريسها في كثير من الأحيان جنباً إلى جنب مع الإرث الديني, فنحن أمام هويات جمعية متعارضة مع قسم لا بأس به مما يتم تداوله في الحيز الأكاديمي أو التعليمي وفي الحيز العام, ويتم استحضار الإرث النفسي لهذه الهويات الجمعية في المجال الجيوسياسي, وأجرأ أن أزعم بأن غالبية المجتمعات بشكل لاواعي لا تتعامل مع السيناريوهات والأفكار التي ينقلها الإرث الديني كمصدر لفهم حقيقة التاريخ وطبيعة الوجود وإنما تستثمر فيها للتعبئة النفسية والهوياتية.
الموروث الإبراهيمي كنقطة انطلاق أساسية للهويات الجمعية الكبرى والناظم للخارطة الحضارية في مناطق شاسعة للعالم والذي تعرض لزلزال الثورة الصناعية المدوي ولموجات الأفكار الحداثية والذي انحسر على مستوى التعبئة الجيوسياسية بعد إعلان كمال أتاتورك نهاية الخلافة العثمانية, تم دفعه بشكل مكثف مرة أخرى إلى الحيز الجيوسياسي مع إعلان قيام دولة إسرائيل والتي أساسها الفكري والثقافي قائم على سيناريوهات تاريخية من صلب الموروث الإبراهيمي والذي ساهم بدوره في طغيان الأطر المطروحة في القصص الإبراهيمي بكل تشعباته على صياغة علاقات مجتمعات المشرق فيما بينها وعلاقاتها مع المجتمعات الأخرى وذلك أدى أيضاً إلى انحسار مشروع القومية العربية إلى فكرة المواجهة الشعبية وتهميش كبير لمسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية و فصل السلطات إهمال تام لقضايا الإنماء الثقافي العربي ومُساءلة مفهوم الانتماء وتطويره وإحلال علاقات المواطنة بدل من علاقة الطوائف فأتت الطائفية السياسية والإسلام السياسي( بشقيه الشيعي الخميني والسني الأصولي والذي أصبح بشدة متصارع مع الأول ولكن متداخل ومتحالف معه في تقاطعات هامة ) كناظم جاهز للعلاقات والصراعات في المنطقة ومستوعب في كثير من تفاصيله من قبل المجتمعات المحلية ولا يحتاج إلى جهد من أجل تبيئته، وتحول شرق المتوسط إلى مركز إشعاعي هوياتي يمد اليمين المسيحي في الغرب والمقاتل الأفغاني في الشرق بطاقة شحن نفسية لهذه الهويات.
أمام قوة إغراءات التعبئة التي تقدمها الانتماءات على امتداد الخارطة الحضارية والتي يصادف أنها كثيراً ما تتعارض مع حقائق علمية وتاريخية وحتى مع حقائق أخلاقية أصبحنا في أكثر فترة حضارية يكون فيها محتوى الأفكار في التفكير الجمعي أو التفكيرات الجمعية المستخدمة للتعبئة النفسية والمعنوية أو لتلبية الوظائف النفسية بشكل عام متعارض مع حقائق علمية وقيم عقلية وأخلاقية تُدركها نفس التفكيرات الجمعية أو على الأقل تقر بالمعايير الموضوعية التي على أساسها بنيت وإن كانت لا تقر بها كنتيجة على سبيل المثال إذا كانت حقائق علمية أو تاريخية أو أدلة موضعية تدين أو تطعن فكرة دينية أو تاريخ جماعة إثنية أو موقف سياسي فإن غير المقرين بالنتيجة لا ينكرون بالضرورة موضوعية المنهج العلمي أو ضرورة التقييم الموضوعي من ناحية المبدأ، إذاً فإن التفكيرات الجمعية التي تمثل انتماءات أصبح أصحابها يحملون في نفس الوقت أفكار تفرغ هذه الانتماءات من مضمونها وقد يقول البعض أن عدم التناسق في الفكر الجمعي كان دائماً حاضراً وإن كان بنسب مختلفة، ولكن ليس بهذه الكم الذي يتضاعف تطرداً مع تراكم الإنجازات العلمية والتغيرات العالمية، نحن في أكثر فترة حضارية يكون فيها الفكر الجمعي مفتقراً إلى هذا الكم الكبير من التناسق.
المعادلات التي تفرضها الانتماءات على الصراعات الحضارية والسياسية والثقافية وعلى موازين القوى حول العالم تجعل من الصعب إذا لم يكن قريباً من المستحيل جعل تفكير الفرد وسلوكه ونموه النفسي حيادياً عن هذه الانتماءات، وكلما كان لهذا الانتماءات آثر على حياة الفرد اليومية كلما كانت لها بصمات أكثر في انعكاس الأفكار على حياته النفسية، وعلى الأخص إذا راكم التفكير الجمعي ذاكر نفسية حول الانتماء الجمعي وحول علاقته بالذات والآخر ومن هنا يزيد الشرخ في التفكير الجمعي وفي التفكير الفردي المنضوي تحت مظلته نتيجة تعايشهما مع قيم عقلية وعلمية قد تتناقض مع أكثر التقييمات بديهيةً عند كليهما، والسبب لعدم انهيار هذه التفكيرات الجمعية على الرغم وجود هذه التصدعات الكبيرة فيها هو استناد هذه التفكيرات على سعي أفرادها إلى تناسق تراكمات الذاكرة النفسية حول الانتماء أكثر من السعي إلى تناسق معرفي وبما أن التراكم النفسي حول الانتماء يتم تلقيه من قبل الأفراد بشكل جمعي وآلية تنسيقه مطروحة في الحيز العام أيضاً بشكل مورث جمعي متراكم فإنه يخلق آليات سلسة لإنتاج أو إعادة إنتاج فكر جمعي وهوية جمعية بينما السعي إلى مخزون أفكار متناسق معرفياً يتم على الصعيد الفردي وآليات تنسيقه ليست جمعية وبالتالي تختلف أشكال تنسيقه من فرد إلى آخر وهذا ما يخلق عقبات أمام تشكل فكر جمعي متناسق معرفياً على صعيد المجتمع على الأخص في الدول التي لا توجد فيها مؤسسات لتطرح منظومات معرفية جديدة بقوة وباستمرارية ضمن الحيز العام للمجتمع ويكون النقاش العام فيها لتحليل الواقع محكوم بتقييمات مستهلكة ومُحيدة عن الشرارات المعرفية.
وهذا أحد الأسباب أن المجتمعات المعاصرة لم تقم بإعادة صياغة تفكير جمعي وهويات جمعية من أجل خارطة حضارية جديدة على الرغم من انتشار مفاهيم وأفكار تجعل من خلق هكذا مسار أمراً موضوعياً، وأحد الأسباب الأخرى هو أن الأرضية الصلبة للنزعة ضد التقييمات المادية والقيم الاستهلاكية لم تزل حبيسة الإرث الديني التقليدي وأن ديناميكيات سير الحياة الحالية تهمش الحضور الأخلاقي والروحي في سلوك الفرد وأن معظم التقييمات التي أتت على خلفية الثورة التقنية والعلمية أكدت على وظيفية الأخلاق في البنى الاجتماعية وعلى ذاتيتها وليس كرافعة موضوعية لقيمة الفرد، ولا يوجد اليوم آليات تحوي حد أدنى من الضمانات بأن اتباع الاعتبارات الأخلاقية سيؤمن قوة دفع للصعود في السلم الاجتماعي والمهني، ومعظم ما نراه اليوم يؤكد على أن امتلاك مقومات مادية هو الضامن الموضوعي لحصول الفرد و المجتمعات على درجة مكانة أعلى.
الفرويدية والماركسية واللتان تُعتبران إحدى التشكيلات الأكثر فاعلية في البُنى الفكرية المعاصرة، اعتبرتا أن جميع التمظهرات النفسية الجمعية والتمثيلات الثقافية والقوى المحركة للمجتمعات له صلة بالدوافع العضوية وتكون إما صلة مباشرة أو صلة عبر سلسلة من التفاعلات انطلاقاً من الدوافع العضوية وبالتالي وفقاً لهذا البنى فإن الأخلاق والمفاهيم الروحية هي تقاليد ثقافية طارئة لدى النوع الإنساني وأوجدها لخدمة تشكيلاته الاجتماعية لا تتعدى حدوده وليست لها أي سمات كونية، والأمر نفسه يطبق على مفهوم أو فكرة المعنى أي أنه من نتاج المجتمعات البشرية وأنه مفهوم ذاتي وليس حقيقة موضوعية، عالم الفيزياء االفلكية الأمريكي نيل ديجراس تايسون ضمن السلسة الوثائقية "الكون" وفي معرض حديثه عن أحد الانقراضات الكبرى أو يسمى بالنفوق العظيم الذي شهده كوكب الأرض نتيجة اصطدام نيزك بالأرض، قال إن الكون لا يكترث لكل هذه الكوراث التي تعرضت لها الحياة على الأرض وهذا يندرج ضمن البنية الفكرية التي نشأت مع الثورة العلمية والتي أزاحت المعنى من حقيقة مدركة إلى نتاج ذاتي ووظيفي لخدمة الفرد والمجتمع والتي مهدت الطريق للانتقال من النزعة الإنسانية والرومانسية في القرن التاسع عشر إلى التنظير في الفكر العدمي في النصف الثاني من القرن العشرين مع تأمين أرضية صلبة للتقييمات المادية والقيم الاستهلاكية التي أرخت بثقلها على الأفراد والمجتمعات.
البنى الفكرية المعاصرة لم تنتج منظومة قيم شاملة بل اعتبرت القيم طارئة وذاتية ونسبية وتختلف من بيئة إلى أخرى ولا يمكن إنتاج هوية حضارية تخلق مسار لخارطة حضارية جديدة من دون منظومة قيم شاملة متناسقة معرفياً مع ما يتم تداوله في الحيز العام ، على سبيل المثال الانتقال من الوثنية إلى المسيحية أزال تدريجياً من الذاكرة الجمعية الفكر الوثني والكثير من الأديان المحلية في الأماكن التي ثبتت فيها المسيحية أقدامها والأمر نفسه تم مع الإسلام الذي رفض فكرة التجسيد وأعطى مفهوماً أكثر تجرداً عن الإله وأنتج خارطة حضارية غيرت الفكر الجمعي في المناطق التي انتشر فيها ومازلنا نرث السمات الأساسية لتلك الحقبة حتى اليوم، الشيوعية كانت أول منظمة فكرية شمولية معاصرة حاولت إنتاج خارطة حضارية جديدة ولكن مع الانهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفيتي عادت الهوية الأثوذكسية بقوة إلى روسيا، ولم تنتج البنى الفكرية المعاصرة منظومة متكاملة من المعايير للتعامل مع أنماط الحياة والسلوكيات التي أنتجتها الحياة المعاصرة على سبيل المثال انتشرت كثيراً عمليات التجميل بين النساء الذين لا يعانون من تشوهات خلقية وبالنسبة للقيم الدينية التقليدية فإن المعايير متمحورة حول السلوك ولا تقر بالمظهر الخارجي، في حين أن المظهر الخارجي أصبح يلعب دوراً استثمارياً كبيراً في بعض المجالات ضمن الحياة المعاصرة، وكم أنها لم تنتج أخلاقيات شاملة تعبئ الإنسان معنوياً واعتبرت أن السعي وراء حياة روحية بالأساس هو له قيمة ذاتية وليس قيمة معرفية وأن الأمر يزيد سوءً عندما يكون السعي إلى حياة روحية انطلاقاً من المنظومة الدينية الموجودة في بيئة الفرد المحلية وهي المتوفرة أمام عموم الناس والتي في معظمها تتناقض مع بديهيات علمية.
أصبحت التفكيرات الجمعية الحالية غير متناسقة معرفياً وتحمل اتجاهات أخلاقية متعاكسة وهشة أمام المزاج العام وعرضة للتقلبات أكثر من أي حقبة مضت وأصبح الفكر الجمعي مُؤطر ضمن بنيتين أساسيتين وهما حياة روحية تؤدي وظائف نفسية وتعبوية وغير متناسقة معرفياً وبنية فكرية متناسقة معرفياً مع الحقائق المعاصرة ولكن تؤمن أرضية صلبة للتقييمات المادية والقيم الاستهلاكية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مكافآت خيالية للمنتخب العراقي بعد التأهل للأولمبياد... | هاش


.. تحدي القوة والتحمل: مصعب الكيومي Vs. عيسى المعلمي - نقطة الن




.. ألعاب باريس 2024: وصول الشعلة الأولمبية إلى ميناء مرسيليا قا


.. تحقيق استقصائي من موريتانيا يكشف كيف يتم حرمان أطفال نساء ضح




.. كيف يشق رواد الأعمال طريقهم نحو النجاح؟ #بزنس_مع_لبنى