الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جورنيكا - رائعة بيكاسو الخالدة

تحسين الناشئ

2021 / 7 / 10
الادب والفن


(ان قدميك تغوصان الى أعماق الأرض، ورأسك يرتفع الى أقصى ما يصل اليه بصرنا في السماء، انك عظيم .. انك أعظم الناس)

هذا ماقاله شاعر الحرية (بول ايلوار) عن بيكاســــــــــو


بيكاســو – عملاق الفن الحديث

ليس من السهولة بمكان التحدث عن انسان عظيم مثل بيكاسو وسبر أغوار عبقريته، فهذا الفنان كانت له في كل مرحلة من مراحل حياته الفنية الطويلة، جولات وصيحات مدوية من الأبداع لازال صداها قائما الى اليوم. انه فنان متفرد في كل شيء، امتلك جرأة قل نظيرها بين الفنانين مكنته من التمرد والثورة على كل التقاليد والقيود التي تكبل حرية الفنان وتحد من انطلاقه نحو الأبتكار والتجديد والخلق الفني الحداثوي غير التقليدي، فلم يتقيد مطلقا بالنظريات الجامدة التي رآها عاجزة عن تحقيق طموحاته الجمالية، ولم يتبع الأساليب العتيقة التي ماكانت لتناسب عصره المليء بالمنجزات العلمية والأدبية والفنية المبهرة، فانطلق بموهبته الفذة وتجاربه التي لاتقف عند حد، نحو افاق جديدة من التصورات والرؤى الذهنية والممارسة العملية، آفاق لم تطأها ريشة ولا خيال فنان من قبل، يقوده في ذلك عزم وإصرار كبيرين في محاولة لتغيير أنماط الفن في عصره، وكان له ما اراد.

ان طريقة بيكاسو في التعبير او في بلورة قناعاته لتشكيل رموز ومفردات اعماله تختلف عن اية طريقة اخرى، والكيفية التي ينظر بها الى الأشياء متحسسا محتواها ومستخلصا معانيها هي كيفية متجذرة عميقا في شعوره وفي ذاكرته الطرية المتجددة دوما، ومايطرحه هذا الفنان في لوحاته وفي مجمل اعماله الفنية المتجددة والمتعددة الأساليب يختلف كثيرا عما يطرحه غيره من الفنانين. فحين يجسد الآخرون القيم الجمالية التقليدية التي دأبت طوال قرون على مخاطبة البصر والأحاسيس دون الفكر، فأن تلك القيم بالنسبة لبيكاسو تكون قد ولّت واَفلَت وانحسر زمانها وصارت غير منسجمة مع تطور الحياة والفن، اذ كانت تحدوه رغبة كبيرة لأدراك نفسية الأنسان وفهم المؤثرات المحركة لها، كما كانت تمتلكه رغبة عارمة للتجديد ولتطوير وسائل وأساليب العمل بالشكل الذي يبلور منهجيته ورؤيته و يحقق له سيطرة كاملة على اشكاله. يقول بهذا الصدد "اردت من خلال الخط واللون ان اتغلغل واتقدم في ادراكي للشكل" .

ولعل احدى مزايا بيكاسو الفنان هي عدم تقيده بأسلوب او نهج جمالي محدد، فكان يرفض تماما مسألة قولبة الفن، أي اخضاعه الى قوالب جاهزة ذات نمط محدد سلفا، قوالب تعمل على استنساخ نفسها مرة بعد مرة لتعيد تكرار صورها ضمن سياق واحد، الأمر الذي يُضفي على النتاجات الفنية طابع الرتابة والملل. كما كان يرفض الأنقياد الى قوانين محددة من شأنها تقييد حريته وقدرته على الأبداع والتجديد. فهذا الفنان كان يترك لنماذجه فرصة التغيير مع الحدث والمكان والزمان، مانحا نفسه حرية التصرف بالشكل والأسلوب وفقا لأحساساته وقناعاته. ان نهجه العملي كان يتمثل في اختزانه الأشكال والصور المرئية في ذاكرته لتختمر مع افكاره ومدركاته الحسية وقيمه الجمالية ثم تلد شكلا جديدا في منحى مغاير لما كانت عليه في عالمنا، شكل آخر فيه صدق الأحساس والتعبير وصدق التجربة وعنفوانها. فالفن عنده ليس تطبيقا عمليا لقانون من قوانين الجمال، بل هو مايستطيع الدماغ والغريزة ادراكه في ماوراء القانون.

ان شخصية بيكاسو تتشابك وتتلاحم بعمق مع احداث الحياة ومأسي البشرية لتكشف له بالتالي عن خليط متجانس من الرؤى والأفكار التي تتجسد اخيرا في اعماله الفنية بهيئة منجز ابداعي، ولهذا السبب كانت لغة التعبير في اعماله لغة عميقة لايمكن فهمها واستيعاب خصائصها بسهولة. يقول بيكاسو بصدد تجاربه وبحثه الدائم عن صيغ متجدده للتعبير "اللحظة الفنية التي تستثيرني هي اشبه بلحظة درامية تنقلني من محاولة الى اخرى، حتى لو كانت هذه المحاولات لا تصل الى غاياتها ولكنني على ثقة من ان بعض اعمالي قد بلغت غاياتها". والفن بالنسبة لبيكاسو هو تجربة للتعبير عن الحقيقة، ولهذا اعطى الصدق والحقيقة الأسبقية على الجمال التصويري. ولاشك ان الفن الحديث يدين بالولاء المطلق لبيكاسو، لذلك اقترن هذا الفن باسمه دون سواه، فما من فنان استطاع ان يُحدث انقلابا في اساليب الفن وصيغ التعبير كتلك التي أحدثها بيكاسو، فكان فنه ثورة كبرى ضد كل ماهو تقليدي ومألوف، فخلق فنا يغور في جوهر الأشياء ليستخلص أسرارها الروحية والحسية وليكشف للعالم روعتها واصالتها.

ولد بابلو رويز بيكاسو في مدينة مَلَقا Malaga جنوب اسبانيا عام 1881، وامتلك منذ صباه موهبة فذة في الرسم تطورت سريعا في سنوات حداثته. بدأ حياته الفنية رساما واقعيا كغيره من الفنانين مستخدما تقاليد الرسم الأسباني الكلاسيكي والواقعي وانجز عددا من اللوحات الرائعة قبل تجاوزه العشرين من العمر. وكان بيكاسو قد اتخذ لنفسه قانونا ومبدأ في الفن، جوهره ان حرية التعبير الفني هي لغة الفنان في القرن العشرين، وان الألتزام بخدمة قضايا الأنسان هي الهدف والغاية من وجود الفنان. لهذا كان الأنسان ولاشئ سواه الثيمة الرئيسية والمهمة في اعماله وتحديدا الأنسان المعذب المضطهد المتمثل في نماذج الفقراء والأمهات البائسات والأطفال المرضى والمشردين الذين اتخذ منهم ومن صور معاناتهم مواضيعا دائمة لأعماله منذ بدأ مشواره الطويل مع الفن. كما اعطى هذا الفنان الثوري أهمية عليا للقيم الروحية والمشاعر الأنسانية جنبا الى جنب مع التعبير الحر للواقع المرئي.

ان الحديث عن رائعته الخالدة جـورنيكا Guernica هو حديث عن أروع إنجازاته الفنية وعن اشهر عمل حداثوي في القرن العشرين. وما اتصفت به لوحة الجورنيكا من مزايا فنية متقدمة وما تضمنته من قوة تعبير وقدرة على التأثير في المشاهد (المتلقي) جعلها على الدوام محط اهتمام الباحثين والدارسين والفنانين وعلى مستويات عدة، فتناولوها بالبحث والدراسة والنقاش ولم يتركوا فيها صغيرة او كبيرة دون ان يتطرقوا اليها بكثير من التفصيل.

فما قصة اللوحة؟
في يوم السادس والعشرين من نيسان عام 1937 وخلال فترة الحرب الأهلية الاسبانية 1936 – 1939 ، تعرضت مدينة صغيرة تابعة لمقاطعة الباسك الأسباني اسمها – Guernica – لهجوم جوي شنته عليها طائرات الفاشية بأيعاز من Franco Francisco (فرانسيسكو فرانكو) الجنرال الأسباني وزعيم حزب اليمين الدستوري، اسقطت خلاله الطائرات المغيرة وابل من القنابل في قصف استمر على مدى ساعات، ولم تبرح الطائرات سماء تلك المدينة الصغيرة اِلا بعد ان حولتها الى أنقاض وخراب وركام من الجثث، فقد أسفرت الغارة الوحشية عن مقتل حوالي (2000) شخص من المدنيين العزل.

كان بيكاسو في باريس حين سمع انباء قصف الجورنيكا، وقصف هذه المدينة بالنسبة له كان اكثر من اعتداء على اسبانيا، وهي جريمة ارتكبت من قبل البربرية ضد الأنسان، والأنسانية بالنسبة لبيكاسو هي واقعه الجوهري، لذا فأن انسانيته وواجبه كفنان كانتا تحتمان عليه ادانة هذا العدوان والفاشية التي كانت وراءه، وان شكل ادانته المقرر لابد ان يكون عملا فنيا استثنائيا يجسد حجم المأساة وبشاعة الجريمة، عمل يُعلن من خلاله صرخته ضد العدوان والقتل وليبقى ماثلا امام العالم كله كوثيقة ادانة ضد الحروب.

فما هي الظروف التي رافقت تنفيذ هذا العمل الجبار، وكيف سارت خطوات عملية الأبداع؟
لاشك ان التعبير عن حدث مأساوي بهذا الحجم هو عملية صعبة وطويلة، اذ كيف ينبغي تجسيد الحدث بواقعيته العبثية وبمعناه الشامل من خلال الرسم؟ بأي صيغة سيتم التعبير عن صدمة الناس ومواجهتهم للموت والهلاك الفجائي مثلما تمثل في الحدث الحقيقي؟
وكيف ينبغي التعبير عن غضب وألم الفنان نفسه وادانته للمجزرة الوحشية؟

قرر بيكاسو أولا ان يجعل حجم اللوحة استثنائيا لكي تحتوي كل تفاصيل الحدث بصورته التراجيدية، ولكي تكون ساحة كافية للتعبير ولتجسيد الأشكال بوضعياتها الدراماتيكية المؤثرة، فكانت ابعاد اللوحة حوالي 11.5 x 25.5 فـوت، اي ( 345 x 765 سم) وهي تعتبر احدى اكبر اللوحات حجما في تأريخ الفن.
كما قرر أستخدام الألوان المحايدة فقط (Neutral Colors) – الأبيض والرمادي والأسود – ليمنح الحدث قوة تعبيرية كبيرة وبُعدا مؤثرا للمأساة، متجنبا استخدام الألوان الأخرى (الرئيسية) لكي لا تطغي جمالية اللون بصريا على شدة الفاجعة، فالألوان بطبيعتها تجمّل الشكل وتسر الأنظار وتلطف الأجواء وهذا مالايريده بيكاسو هنا. اما ايقاع وبناء اللوحة فتم وضعهما تبعا لفكرتها، فعلى جانبي اللوحة هنالك وجهين يتطلعان الى السماء وهما في حالة صراخ وتألم، وفي الجانب الأيمن من اللوحة يظهر رجل رافع يديه الى الأعلى وهو يصرخ بألم في مواجهة الهلاك وكأنه يناشد المعتدين الرحمة، ويظهر امامه وجهان بشريان مضطربان متوتران يبدوان وكأنهما يهرعان الى الأمام لتلافي الخطر. وهنالك ايضا يد ممسكة بمصباح زيتي تمتد الى وسط اللوحة، وفي جانب اللوحة الأيسر نرى أماً مفجوعة تحمل بين يديها طفلها الميت، والى جانبها يجثم ثور وقد رسمت ملامحه بتعبير كئيب.

ومن يستقرئ هذا العمل بتمعن يلاحظ بوضوح تحرك اللوحة (الأشكال) من اليمين الى اليسار، اي من المرأة الساقطة والمنزل المحطم الى الثور والشخص الساقط الذي ينظر الى الوراء بفزع. اما مركز اللوحة فيحتله الحصان الذي يمثل النموذج السلبي للقهر والمعاناة في رأي بيكاسو. وعند قدمي الحصان يجثم رجل مقطوع الأطراف، ثم هنالك الأم التي تحمل جسد طفلها الميت بين ذراعيها وعيناها تناجي قوى السماء طالبة العون والرحمة. وثمة امرأة اخرى تخرج شبه عارية من البناء المحطم وهي في حالة ذهول وكأنها تبحث عن شئ وقد فاجأتها الكارثة، كما يوجد في المشهد طائر (حمامة) يبدو وكأنه يهوي صريعا الى الأرض.

استخدم بيكاسو في تنفيذ هذا العمل اسلوبه المعروف في رسم الأشكال (النماذج) ، طريقته المبسطة في تجريدية شديدة الأختزال وبسمات عامة، اي الأقتصار على رسم الأجزاء المهمة والأستغناء عن التفاصيل. فمثلا أبقى في وجهي الأم والرجل المتطلعين الى السماء الشيء الذي يعبر عن الصدمة والبشاعة، الفم المفتوح (العويل وصرخات الألم) وفتحات الأنف الواسعة والعيون المنسحبة الى اعلى الجبهة، تلك الملامح القاسية المركزة اضفت على الوجوه المرسومة قوة تعبيرية مأساوية كبيرة عكست هول الحدث.

في هذه اللوحة لجأ بيكاسو الى التصوير المجازي ( الجزء بدلا من الكل) فهنالك رقبة ورأس الثور فقط، ورأس الرجل المتجه نحو السماء أو نحو النافذة ويداه المرفوعتان الى الأعلى، اما الجسد فلا وجود له لكونه لايخدم المحتوى الدرامي للوحة، وهكذا تم تجسيد كل النماذج والأشكال الاخرى. والملاحظ ان اغلب وجوه الضحايا تتجه نحو السماء وكأنها تنشد الخلاص من محنتها الى حيث الفضاء الرحب والهواء الطلق. او ربما كانت علامة احتجاج وتوسل او استصراخ لضمير الجناة الذين استباحوا المدنية، او لعلها تمثل حركات وصرخات ألم عفوية، وقد تكون معبرة عن كل ذلك مرة واحدة.
ان أسلوب بعثرة ملامح الوجوه الذي عرف به بيكاسو والذي كان أحد أبرز ابتكاراته الفنية في تحقيق التعبير المطلوب، هذا الأسلوب اِتخذ في هذا العمل مداه الأوسع وحقق جدواه وضرورته، ففي هذا العمل كان ينبغي التلاعب بالملامح الى الحد الذي يغني المحتوى الدرامي للحدث وليحقق التعبير المأساوي في الوجوه المجسدة، الى اقصى حد. ان هذا الأسلوب الذي ابتكره بيكاسو كوسيلة تعبير شديدة التأثير والأيحاء وادرك مغزاه واهميته في مسألة إعادة بناء الأشكال، كان ضروريا في هذا العمل بالتحديد. اما وجوه النساء فالملاحظ انها اصبحت بعد عام 1927 مختزلة ومعبرة في اغلب حالاتها عن القلق او الألم او الرعب، مثلما يبدو ذلك جليا، على سبيل المثال، في لوحته الشهيرة (المرأة الباكية) التي ترمز الى الحرب الأهلية الأسبانية ومآسيها، لقد تخلى بيكاسو فيما بعد عن القيم التقليدية للجمال الأنساني وراح يركز على الجانب التعبيري من خلال تبسيط الحجوم وتماسك البناء واعطاء طاقة أكبر للشكل والتركيز على المشاعر الأنسانية.

في هذه اللوحة رُسمت أجسام النماذج بصورة مسطحة وقد تغيرت مواضع العيون وملامح الوجوه، ويُلاحظ ان ضوء المصباح قد تسلط على الأعضاء المشوهة من اجل تكثيف الأحساس بفظاعة الحرب، كما يُلاحظ عدم وجود اي أثر للمعتدين فكان التركيز على الضحايا. ويبدو كذلك التشويه المأساوي المقصود للأجسام والوجوه وكأن الفنان يريد الوصول الى اقصى ما يمكن ان يتوصل اليه فن الرسم من تعبير عن الفضائع والآلام. ان القوة الكبيرة من المشاعر التي تبدو على سمات الوجوه انما تدعو للتساؤل: هل تعبر صرخات الأشخاص او حركة يد الأم التي تحاول حماية طفلها الميت، أو اليدان المرفوعتان الى الأعلى بأصابعهما المتباعدة، فهل تعبر تلك الإيماءات والحركات عن الفجيعة، ام عن الرعب، الذهول، الصدمة، الاحتجاج، مواجهة الموت... ام انها تعبر عن كل ذلك دفعة واحدة؟

ولعل التباين الصارخ بين مشاعر الأم المتصاعدة وحالة الثور المتجهم اللامبالي بالحدث، يشكل احدى اقوى الصور الدراماتيكية المؤثرة في اللوحة. ويرى الناقد الفني الروسي دنيبروف D. Denibrouv "ان ماقصده بيكاسو بهذا التباين هو تجسيد المعاناة الأنسانية لسكان القرية من جهة، واللامبالاة الوحشية للطيارين الألمان من جهة اخرى." وهنالك رأي آخر يقول ان الثور في هذه اللوحة قد يكون رمزا للشعب الأسباني، اذ لم يكن فيه اي تلميح او اشارة في كونه رمزا للمهاجمين الألمان، هذا من جهة ومن جهة اخرى ان الثور واقع ضمن الدائرة التي تحوي الأشكال المشمولة بالقصف والمرتكزة على الأرض وليس خارجها، اي انه مشمول بالقصف ايضا. لهذه الأسباب تبدو صورة الثور وكأنها رمز للشعب الأسباني الذي وقف مذهولا أزاء الأعتداء وقد أُسُقط في يده ولم يكن بأمكانه رد الهجوم عن المدينة المنكوبة.

قد تبدو هذه اللوحة متناقضة مع الواقع من ناحية الشكل، وفيها تحليق بعيد عن الذائقة وخارج عما هو مألوف للرؤية، وقد يُفاجأ بها المشاهد فيعتبرها غير مقبولة جماليا لأحتوائها على الكثير من الغرائبية خصوصا من ناحية الشكل، وهذا الأمر يعيه بيكاسو بدقة، والجورنيكا ليست اول عمل له من هذا النوع فقد سبقها العديد من الأعمال في الرسم والنحت طرح فيها نماذجه واشكاله المحطمة والمركبة والممسوخة، الجديدة في تركيباتها، والغريبة في توصيفاتها. فمثل هذه الصور ذات الطابع الحداثوي رايناها في اعماله السابقة واللاحقة، منها على سبيل المثال لوحة آنسات افينون ولوحة المرأة الباكية .. فالمشاهد لمثل هذه الأعمال الفنية الحداثوية قد يرى فيها ابتعادا عنيفا عن الواقع وتحليقا خارج نطاق المألوف.
غير ان الفنان بطبيعة الحال دائم التجريب وقد يعتمد أسلوبا في التعبير استثنائيا مغايرا لإسلوبه المعروف وحسبما تقتضي منه الضرورة، فالفن يستدعي التجديد دوما وفي ذلك حالة انتعاش يندفع من خلالها الفن الى افاق اكثر اتساعا وحيوية. والمهم في الأمر ان بيكاسو لم يهدف هنا لتقديم عمل فني جميل مبهج للعيون، مُسِرّ للمشاعر كالأعمال الفنية المتداولة، بل كانت غايته صنع وثيقة تأريخية تجسد المأساة وتدين العدوان على السكان الآمنين العزل. اضافة لهذا، لم يكن بيكاسو مهتما يوما بالجانب الجمالي التقليدي ولم يُعره اهتماما في لوحاته، فهذا الفنان الثوري كان يؤمن ان الفن رسالة إنسانية سامية ووسيلة من أهم وسائل المجابهة والرد والتحدي.

ان تمثيل الأشكال بهذا الوقع المأساوي هو بمثابة صرخة ضد الحروب ومآسيها وادانة لكل عدوان يُعرّض حياة الآمنين الى الخطر، فلوحة الجورنيكا بما تضمنته من تعبير صارخ لهول الكارثة وللحظة الهلاك التي يواجهها الأنسان الأعزل، انما هي رسالة غضب وتنبيه، وكأن الفنان يريد القول ان الحرب ليست سوى لعبة قذرة وضعها القدر بين يدي الأنسان. كما انها في الوقت ذاته رسالة عطف ومؤازرة مع ضحايا الحروب، ولعل اللوحة تعبر ايضا عن جميع مآسي العنف التي واجهتها البشرية في العصر الحديث.

خلال الحرب العالمية الثانية تم نقل اللوحة من باريس الى متحف (متروبوليتان) الشهير في نيويورك حفاظا عليها خشية تعرضها للتلف بسبب اهوال الحرب خصوصا بعد احتلال النازيين لفرنسا، وقد طلب بيكاسو بعد انتهاء الحرب، تمديد فترة بقاء اللوحة هناك حتى عودة الديمقراطية الى بلده اسبانيا، وتم اعادة اللوحة فعلا الى اسبانيا عام 1981 بعد مرور ست سنوات على وفاة الدكتاتور فرانسيسكو فرانكو، وثماني سنوات على وفاة بيكاسو (توفي عام 1973). واللوحة اليوم تحتل اهم جناح في متحف (برادو) او رينيا صوفيا في مدريد، وهنالك نسخة منها بنفس الحجم تزين مدخل مبنى الأمم المتحدة في نيويورك.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المخرج الاردني أمجد الرشيد من مهرجان مالمو فيلم إن شاء الله


.. الفنان الجزائري محمد بورويسة يعرض أعماله في قصر طوكيو بباريس




.. الاخوة الغيلان في ضيافة برنامج كافيه شو بمناسبة جولتهم الفني


.. مهندس معماري واستاذ مادة الفيزياء يحترف الغناء




.. صباح العربية | منها اللغة العربية.. تعرف على أصعب اللغات في