الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة المثقف في العالم العربي والإسلامي (نصر حامد أبو زيد نموذجاً)

فارس إيغو

2021 / 7 / 13
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لطالما كان النقد في العالم العربي والإسلامي يمثل مغامرة خطيرة تحفها أخطار الإدانة والنفي وربما القتل بالنسبة للمثقف الذي يتجرأ على محاولة فتح الأبواب والنوافذ الموصدة بإحكام منذ قرون. وكأنّ المستسلمين طوعاً للموت البطيء، يرفضون بإصرار أي محاولات لإيقاظهم من الوهم الكبير الذي ينامون ويستيقظون على وعوده وحلوله المزيّفة.
اندلعت المشكلة مع تقديم نصر حامد أبو زيد ملفه لنيل درجة الاستاذية في قسم اللغة العربية في كلية الآداب جامعة القاهرة، والكتاب الذي أثار المشكلة عام 1992 ـ 1993 هو ((مفهوم النص)) (الذي صدّر سنة 1990) وكان يباع في الأسواق منذ ذلك العام.
السياق التاريخي التي حدثت فيها محنة الرجل كانت أزمة شركات توظيف الأموال الإسلامية، والنقاش المتداول حول الاقتصاد الإسلامي، الطريق الثالث (الإسلامي) بين الرأسماليّة والاشتراكيّة التي كان مصدرهما واحد بالنسبة للإسلاميين، حيث شارك المثقف العضوي نصر حامد أبو زيد في هذا النقاش المحتدم بالمقالات التي كانت تصدر له في جريدة الاهرام المصرية.
لقد تجاوز نصر حامد أبو زيد أستاذه حسن حنفي (المفكر الإسلامي اليساري وصاحب مشروع التراث والتجديد ومن العقيدة إلى الثورة)، لا بل تعدّاه بمراحل في نقد الخطاب الإسلامي، وذلك بالاشتباك مع التيار التكفيري الذي تمدّد بصورة مرعبة منذ نهاية الستينيات من القرن المنصرم في بلدان العالم العربي والإسلامي، وبالخصوص في مصر.
لقد حاول نصر حامد أبو زيد (1943 ـ 2010) التفكير خارج السياجات اللاهوتية الرسمية وشبه الرسمية، وبجرأة يحسد عليها. ويعني ذلك التفكير خارج السياق المهيمن عليه من خطاب السلطة الدينية الرسمية الممثلة بالأزهر المدعوم بالسلطة السياسيّة، وأيضاً خطاب الجماعات والحركات الإسلامويّة والكتاب الإسلاميين السلفيين الذين تكاثروا بطريقة مرعبة في مصر والعالم العربي والإسلامي منذ ما سمي بالصحوة الإسلامية التي تلت هزيمة المشروع القومي العربي في الخامس من حزيران عام 1967.
لقد تحولت الأقسام التي تعنى بالعلوم الإسلامية في الجامعات المصرية من أماكن جامعية للبحث العلمي والتفكير الى أماكن للوعظ الديني، ويرجع ذلك الى ما ذكرناه سابقاً بالتكاثر المرعب للكتاب الإسلاميين السلفيين واستعمارهم كل المراكز والكراسي في كليات الشريعة وفي الكليات المهتمة باللغة العربية والعلوم الإسلامية وحتى علوم الاجتماع في الجامعة المصرية، فانحرفت هذه المؤسسات العريقة الذي كان طه حسين من أوائل من درس فيها من أماكن للتفكير والبحث العلمي الى ثكنات للوعظ الديني والاستثمار السياسي من قبل هؤلاء الأساتذة الذين استثمروا مناصبهم لأهداف دعوية وسياسية لا تمت بصلة الى التعليم والترشيد والتعقيل في أعلى درجاته والذي ستكون مهمته الأساسية تأهيل الكوادر النقدية لمصر لتنهض من كبوتها التي أوقعتها فيها أوهام الثورة المصرية عام 1952.
وليست محنة أبو زيد سوى محنة كاشفة للخراب الذي خلفته فترة رئاسة الرئيس المؤمن ودولة العلم والإيمان وانتشار الجماعات الإسلامية التي أعطيت الفرصة لكي تستعمر الإعلام والجامعات والمدارس والمعاهد وتخرب أجيال بأكملها بالأفكار التي لا تصلح لا لزماننا، ولا حتى لزمن غابر يدّعون أنه صلُح بهذه الأفكار، وهذه أيضاً استيهامات اليوتوبيات المستحيلة وتلاعبها في تأويل التاريخ والانتقائية الغير موضوعية في اختيار الأحداث والشخصيات الدينية والسياسية والذم والتشويه والتعتيم وتكفير كل الرموز والاتجاهات العقلانية والتنويرية في التراث العربي الإسلامي.
لقد حاول صاحب مفهوم النص ونقد الخطاب الديني نزع القداسة عن الفكر والتفكير الإسلامي عن طريق التمييز (ولا أقول الفصل كما يقول البعض) بين الفكر الإسلامي والإسلام، وهي طريقة جديدة أسست لها العلوم الفلسفية الهيرمينوطيقيّة (التأويليّة) في مقاربة النصوص، وبالخصوص النصوص الدينيّة المقدسة، والنصوص الثانيّة الشارحة والتفسيريّة. هذه النصوص الأخيرة التي اكتسبت عن طريق التلقين والترديد خلال قرون طويلة، واعتمادها ككتب رسمية في المعاهد والمؤسسات الدينية الإسلامية، نوع من القداسة والهالة العلمية التي لا يمكن مناقشتها، مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكتاب الرسالة للشافعي. لكن، أبو زيد حاول أن يقول بأن كل ما كتبه علماء الإسلام والقرآن في الماضي هو كلام بشري علينا أن نتحاور فيه، ولا نأخذه بأي درجة من التقديس أو التعظيم أو التمجيد، وعلينا أن تكون لنا تفسيراتنا وتأويلاتنا المعاصرة للنص القرآني، كذلك تكون لنا علومنا الإسلامية الأخرى المتجددة بفعل التطورات الكبيرة التي حدثت على صعيد العلوم الإنسانية والاجتماعيّة، وبالخصوص في مناهج قراءة ومقاربة النصوص والأحداث التاريخية.
فالقداسة هي فقط لله، وحتى النص بالنسبة للمعتزلة ليس مقدساً بالمطلق، فالنص فيه جانب لغوي ثقافي، وجانب تاريخي أنه نزّل في عصر ما، بالإضافة الى معانيه المقدسة، والتي هي في حد ذاتها مقدسة، لكن تحتاج أيضاً إلى عملية التفكير للوصول الى معانيها التي لا يمكن أن تُثبت في فهم واحد لعصر محدّد، وهي العمليّة التي ندعوها التأويل، هذه العملية هي عملية بشرية بحتة، قام نصر أبو زيد في كل كتاباته بنزع القداسة عنها.
لنأخذ القضية الكبرى التي كان الشافعي (767 ـ 820) أول من قال بها: لا اجتهاد مع نص، هذه إحدى المقولات التي ترسخت مع الزمن بالنسبة لقراءة وتفسير النص القرآني، وهي ذاتها نوع من الاجتهاد الذي قام به العلماء الإسلاميون في العصر الوسيط، وهم يشكرون على جهودهم العلمية هذه كما يقول أبو زيد. لكن، هل علينا نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين أنْ نكتفي بأخذ هذه القاعدة أخذاً سلبياً، أم نحاول أن ندرسها ونسلط عليها الضوء وفقاً لأحدث ما تعلمناه من مناهج في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة الجديدة؟
إن النص الذي لا اجتهاد فيه هو قطعي الدلالة (بالنسبة للنص القرآني) وقطعي الثبوت والتواتر (بالنسبة للحديث)، ولا ينكر أبو زيد وجود مثل تلك الدلالات في النص القرآني والحديث، لكن هل كل الآيات التي جاء بها القرآن والأحاديث النبويّة هي من هذا النوع؟ لا أحد من علماء الإسلام الكلاسيكيين يقول بهذا الأمر. ألم يأتي في النص القرآني ذاته أن هناك آيات محكمات وآيات متشابهات (هو الذي أنزل عليكم الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات، آل عمران ـ 7)، وعندها يمكننا أن نستخلص، أن الاجتهاد سيبدأ مع النص القرآني، وسوف يستمر الى النوازل الجديدة والتي لم يأتِ على ذكرها النص. هكذا تنفتح كثير من الأبواب أمام الاجتهاد، والذي أقفلته هذه القاعدة في مقاربة وقراءة وتفسير النص القرآني حسب أبو زيد.
يقول الإسلاميون جميعهم قولاً واحداً: الأمة لا تنفك عن دينها. لنجاريهم، ولو مؤقتاً عن عدم الخوض في كلمة ((الأمة)) ذات الدلالات العموميّة الفضفاضة، لنقول لهم، بأنّ الأمة لا تنفك عن دينها لا يمكن أن تُمارس من قبلهم إلا بالطريقة التأويليّة. بلغة أخرى، لا يمكن لأي شخص مهما بلغ علمه، ولأي جماعة مهما بلغها رصيدها من السلطة والهيمنة أن تهيمن معرفياً على تفسير النص، وهذا لا يعني أن يكون التأويل سفينة تسير في البحر دون ربان أو دفة قيادة ما (انظر ابن رشد في خصوص تعريف التأويل). لكن، من ينافسون العلماء اليوم في تفسير النصوص الدينية هم نخبة من المفكرين المسلمين المجددين والمحدثين الذين لا يمكن لأحد أن يستنكر عمقهم ورصانتهم في معرفة العلوم والنصوص الإسلاميّة. بينما في الواقع، أننا نجد هؤلاء (ومن بينهم نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون والجابري وغيرهم كثيرون) قد تعرضوا ويتعرضون للأذى والتكفير والإرهاب من قبل الأصوليين والسلفيين من داخل المؤسسة الرسمية ومن خارجها.
إن مناقشة الأصوليين والسلفيين لكتابات أبو زيد تمت بطريقة التربص البوليسية، وليس بالطريقة الأكاديمية، التي تقوم على طرح الإشكاليات التي حاول أبو زيد أن يفتحها ويتناولها بالنقاش. وكعادة، هؤلاء الأصوليون والسلفيون ـ الذين يستعمرون كلية العلوم في القاهرة، وبدأوا أيضاً في الوصول الى الجامعات المصرية ـ أنهم يبحثون عن إثارة المشاكل بالتربص وإثارة الجمهور وتحريضه ضد التيارات التجديدية والحداثيّة في الفكر الإسلامي عن طريق الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بسبب تواطؤ السلطات السياسية معهم، ووقوف المؤسسة الرسمية في أغلب الأوقات ضد التيارات التجديديّة، وكذلك استعمال منابر الخطابة الدينية والجوامع لأغراض إثارة الغرائز والأحقاد وعرض الإشكاليات أمام الجمهور بطريقة اختزالية وتحريضية ليصلوا الى أغراضهم في النيل من سمعة هذه الشخصيات الجريئة التي تحاول إدخال جرعة من النقد في الفكر الإسلامي. والأخطر من ذلك، الطعن في تديّن هؤلاء وفحص القلوب والضمائر، هذا ما يمكن تسميته بمحاكم التفتيش الدينية، والتي بدأت عملها في العالم العربي والإسلامي منذ عام 1925 مع محنة علي عبد الرازق في كتابه الإسلام وأصول الحكم، وتلتها بعد سنة تقريباً، أي عام 1926، محنة طه حسين في كتابه في الشعر الجاهلي، وتتالت من ثمّ المحن مع الشيخ الأزهري أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله في رسالته ((الفن القصصي في القرآن)) عام 1947، التي أشرف عليها الخولي، ووقف موقفاً شجاعاً ومشرفاً ضد شاهري سيوف التكفير من والي الكوفة عبد الله القسري إلى التكفيريين الجدد، إلى أن وصلنا الى المحنة التي عاناها المفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، والهدف هو دائماً إرهاب الأقلام الحرة، وإخراس كل من يخالف الخط الرسمي الذي حدّده هؤلاء الأصوليون والسلفيون الذي يملؤون الشاشات ضجيجاً بأصواتهم العالية والمنفرة للآذان، والذين لا يريدون الاستماع الى صوت العقل، ولا رؤية الواقع العربي والإسلامي المأساوي، والذي كانوا شركاء في صناعته منذ قرن تقريباً مع السلطات السياسية التي تعاقبت على السلطة منذ أول انقلاب عسكري دفع بالعسكر والأمن الى حلبة السياسة والتي لم يغادروها الى يومنا هذا إلا في تونس، التي ما زالت إلى الآن هي الاستثناء الوحيد في هذا العالم العربي الممتد على رقعة 14 مليون كيلومتر مربع، وعدد ساكنيه قد يتجاوز النصف مليار نسمة في مدى قريب ومنظور.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا


.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم




.. لم تصمد طويلا.. بعد 6 أيام من ولادتها -صابرين الروح- تفارق ا


.. كل سنة وأقباط مصر بخير.. انتشار سعف النخيل في الإسكندرية است




.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب