الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بدولار إيمان لو سمحت

محمود الباتع

2006 / 8 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


انحسر المفهوم التتقليدي لصحة الإنسان و المحصور في كونها انعدام المرض. لقد عرفت منظمة الصحة العالمية مصطلح الصحة، بأنها خليط متكامل من الصحة البدنية و النفسية و الإجتماعية و الغذائية و المهنية و الروحية.
بمعنى أن غياب أي عنصر من عناصر الصحة هذه، يعني ببساطة أن الإنسان غير سليم، أو ببساطة أشد أنه مريض.

فلو كان شخص ما يتمتع بصحة بدنية جيدة، و كان سعيداً في حياته ويقيم علاقات متوازنة مع الناس من حوله، و يتناول غذاءً صحياً كاملاً، ويمتلك عملا مستقراً وناجحاً، لكنه لا يتمتع بقيم روحية وعقائدية واضحة، فإن هذا الشخص، و على ذمة منظمة الصحة العالمية يعتبر مريضاً. أو على الأقل لا يتمتع بصحة جيدة.

وبما أن القيم الروحية تنبع من الروح، والتي "هي من أمر ربي"، فإن الخوض فيها يحتم الولوج في منطقة الغيب أو الميتافيزيقا. والميتافيزيقيات هي تلك الأمور الواقعة وراء حدود الطبيعة، والخارجة عن نطاق إدراك الحواس الخمسة للبشر، ولا يمكن إدراكها ضمن النطاق المادي المحسوس.

تراوح تناول البشر لهذه الأمور الغيبية، وبغض النظر عن ماهية هذه الأمور، بين التصديق المطلق بها واعتبارها مسلمات بديهية، وإيصالها غالباً إلى مراتب القداسة، وهو ما نسميه بالإيمان. ونطلق على أتباعه وصف المؤمنين. وللمؤمنين أسبابهم ومنطلقاتهم وقناعاتهم التي يركنون إليها في إيمانهم.

وعلى الضفة الأخرى، يقف من يتناول الغيبيات برفض تام وإنكار مطلق حتى لوجودها، ويرفض الاعتراف بها أو قبولها، ولهم في ذلك منطقهم الخاص بهم. وهذا النهج يسمى بالإلحاد ويعرف أتباعه بالملحدين.

بين الإيمان المطلق و الإلحاد المطلق، يجري بين الضفتين العديد من التيارات التي يختلف تعاطيها مع الغيبيات أو الميتافيزيقيات، بحسب قربها وبعدها من تلك الضفة أو تلك.

كون القضايا الروحية و العقيدية قضايا تتعلق بالغيب وماوراء الطبيعة، فقد كان إخضاعها لقواعد المنهج التجريبي أو الفحص المخبري أمراً غير ممكن، وبناء عليه أصبح من اليسير على أي مشكك أو مغرض إطلاق تهمة الكفر، أو أنعدام الإيمان أو ضعفه، جزافاً على من لايعجبه، حيث لا توجد طريقة تثبت عكس زعمه، وتبقى المسألة خاضعة للأهواء أو وفق القناعات الشخصية.

ظل هذا الكلام صحيحاً حتى تسعينات القرن الماضي، وتحديداً في عام 1997 وفي مدينة سان دييغو الأميركية، عندما لاحظ أطباء جامعة كاليفورنيا، و أثناء فحصهم للمصابين بالصرع الصدغي الدماغي وجود نشاط كهربائي زائد في المنطقة الصدغية من الدماغ (Temporal Lobe)، كان هذا النشاط يؤدي إلى ظهور أعراض وعلامات معينة لديهم تدور حول تعلق المرضى بأفكار روحية ودينية معقدة، يتمسكون بها إلى حد الهوس.

أدت هذه الملاحظة بالعلماء إلى دراسة النشاط الكهربي لمنطقة الفص الدماغي الصدغي لدى أشخاص متدينين غير مصابين بالصرع، ومقارنتها مع مثيلاتها عند آخرين غير مصابين بالصرع ولكنهم ملحدين.
كانت النتائج مذهلة. إذ لوحظ أن النشاط الكهربي لمنطقة الفص الصدغي الدماغي عند المؤمنين، هو أعلى من ذلك الذي عند الملحدين..!

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد استمرت التجارب إلى أن تبين فيما بعد أن تحفيزاً كهربائياً للمنطقة الصدغية من الدماغ لدى مجموعة من الملحدين، أدى بهم إلى الشعور بأشياء غريبة حولهم، أشياء ليست دينية لكن يمكن القول أنها معنوية.
من هذه الأشياء أن بعضهم أحس أثناء التجربة بوجود حركة ما في غرفة الاختبار. وعلى الرغم من كون الغرفة فارغة، وأنهم كانوا يعرفون ذلك، إلا أن أحدهم أكد أنه شعر تماماً بوجود شخصٍ ما يقف إلى جانبه.

أدى التحفيز الكهربي للدماغ إلى الشعور بأشياء غير موجودة، على الأقل ضمن النطاق المحسوس، فهل يؤدي التثبيط الكهربي في المقابل إلى نزع اليقين عن وجود أمر غيبي ما؟ وهل يمكن التحكم في نوع الإعتقاد و قوته عبر التحكم في نوع وشدة واتجاه التيار الكهربي المسلط على الدماغ؟ وهل سيمكن قياس مستوى الإيمان و شدته لدى المرء عبر فحص الكهرباء الدماغية؟

تخيل عزيزي القارئ لو أن العلم توصل إلى نظام معين لضبط الشحنة الإيمانية أو الروحية لدى الإنسان من خلال ضبط الشحن الكهربائي لذلك الفص الدماغي من المخ، كيف سيكون الوضع عندئذِ؟

ربما انتشرت محطات شحن الدماغ انتشار محطات البنزين حالياً، وأجزم أنها ستلقى رواجا كبيرا، و ستكون أسعارها زهيدة، فالأمر يتعلق بفيش للكهرباء و القليل من الأسلاك والتوصيلات لا غير. أما الزبائن فعلى قفا من يشيل.

حينهالا أظن أحداً سيجرؤ على اتهام أحد بالكفر أو عدمه الإيمان، فالفيصل والحكم بينهما هناك في المحطة، والمية تكذب الغطاس، ومن ثم المحكمة و تهمة القذف. وهكذا سيظل كل واحد في حاله و لا يتدخل في ما لا يخصه.

ربما انحسر دور الوعاظ والدعاة قليلاً، لكن لا بأس، ملحوقة، فالله لا يقطع رزقاً. بإمكانهم فتح دكاكين لشحن الفص الصدغي. ويرتاحوا من كثرة الكلام، فما كانوا يطمحون إلى الوصول إليه في سنين، يمكن أن ينجزوه في دقائق فقط. لكن حذار من الشحن الزائد عن المسموح، فالمسألة هنا غش تجاري، ومخالفات التموين بالمرصاد. إشحن ... بس بذمة وضمير، وعلى التسعيرة. أوكي؟

وربما أمكن علاج التطرف الديني عن طريق "تنفيس" الشحنة الكهربية الزائدة في الفص الصدغي للمتطرف، وهكذا يقدم العلم خدمة جليلة أخرى للإنسانية عندما يتمكن من وضع حدٍ للحروب الطائفية والكراهية الدينية، و ينهي تماما صراع الحضارات.

لن تنتهي مشاكل الحياة، وربما نجد حلاً لبعضها. لكن لن يعود مقبولا بعد ذلك أن نرى وجهاً متجهماً بدون سبب، أو شخصا لا يرد التحية لأنه متضايق أو ما شابه، فيكفي إذا انتابك ضيق ما، بدون سبب كما يحدث دائماً، أن تتوجه من فورك إلى المحطة لتطلب من العامل أن يشحن "فصك الصدغي" بـ"ادولار إيمان لو سمحت" !








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في البحرين تنضمّ إلى جبهات ال


.. قطب الصوفية الأبرز.. جولة في رحاب السيد البدوي بطنطا




.. عدنان البرش.. وفاة الطبيب الفلسطيني الأشهر في سجن إسرائيلي


.. الآلاف يشيعون جـــــ ثمــــ ان عروس الجنة بمطوبس ضـــــ حية




.. الأقباط يفطرون على الخل اليوم ..صلوات الجمعة العظيمة من الكا