الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل اخطأ الحداد؟

محمد مهاجر

2021 / 7 / 29
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


هل اخطأ الحداد
-
حرفة الحدادة هي من أقدم الحرف في التاريخ ومع ذلك لم تتطور كثيرا. وبالمقابل استطاعت المجتمعات الحديثة ان تطور الصناعات المعدنية بشكل مختلف حتى أصبحت هي الركيزة الأساسية في مجالات الصناعة والزراعة والبناء وغيرها. والحداد تقليديا يحصل على معرفته عن طريق التجربة, وفى البدء يجد مساندة من معلمه. فهو يسخن الحديد او غيره من المعادن ثم يبدا في الطرق والتشكيل. والذين يحصلون على شهادات علمية يعرفون حقيقة اثر الحرارة على تمدد الأشياء بما فيها المعادن. وهم يجرون التجارب في المعامل ويحصلون على المعرفة النظرية من المحاضرات والكتب والأبحاث وغيرها. فهل يجوز لنا ان نعتبر ان المعرفة التي يتحصل عليها الحداد هي معرفة غير حقيقية؟

قد يستطيع الحداد ان يفسر للناس ما يحدث للحديد بكلمات بسيطة وواضحة وقد تكون غير مقنعة, وفى الجانب الاخر فان طلاب العلوم والمهندسين والعلماء والفلاسفة لهم طرق ومناهج أخرى, فهم يستخدمون المنهج العلمى لاثبات العلاقة بين الحرارة وتمدد الحديد. وحين جاء الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت بنظرية ثنائية الجسم والعقل تمت مواجهته بنقد عنيف. وقد رفض ديكارت المنهج التجريبى وادعى ان الناس والاشياء لهم اجسام مادية ثلاثية الابعاد وهى الحقيقة المادية الوحيدة. وقد شكك ديكارت في الشكليات الثانوية للمادة مثل اللون والطعم والرائحة والصوت والاحساس بالحراة والبرودة وغيرها, وبالتالي شكك فى المعرفة المتحصلة عن طريق الحواس. والسبب في الشك الديكارتى هو ان الحواس يمكن ان تخدع الانسان, واتى بكثير من الأمثلة لكى يثبت فرضية خداع طريق الحواس.

ان الحياة اليوم مليئة بالكثير من الأمثلة التي تدل على اعتماد الانسان على حواسه في تحصيل المعرفة, فالناس قد يحسبون ان هنالك برك ماء او واحات في الصحارى حتى اذا اقتربوا وجد بعضهم ان الذى ظنوه لم يك الا سرابا, بينما يجد القليل منهم ان ما شاهدوه هو الماء نفسه. وعلى الرغم من صحة ادعاءات ديكارت حول خداع الألوان وكذلك خداع الاشكال الناتج من تاثير الضوء والبعد وزاوية الرؤيا واثرها على التشكل وغيرها من مظاهر الخداع, فان التفسير المادى لهذه الظواهر ظل مقنعا.

ان منهج الشك في المعرفة المادية يجب ان يمارسه الانسان على نفسه حسب منهج ديكارت, وقد طبقه بنفسه حين افترض انه غير موجود. وفى نهاية المطاف استنتج ان الذى يفكر في لسانه وما يتذوقه ويده وما تلمسه واذنه وما تسمعه, وان التى تتحرك هى الرجل والتي تنظر هي العين والشفتيين تخرجان الأصوات, وكل ما يحدث هو من نفس ولنفس الشخص المفكر, بمعنى ان المفكر والمفكر فيه شيء واحد. وقد اطلق مقولته الشهيرة "انا افكر اذن انا موجود". وكانت نظرية ديكارت تقول بان الانسان يتكون من جسم وهو شيء مادى, وعقل وهو شيء غير مادى. وهو في مذهبه الثنائى هذا ظل يشكك في المعرفة المتحصل عليها عن طريق الحواس. وهو في الحقيقة محق بعض الشئ, فمثلا لا يمكن ان نفترض ان الرؤيا المباشرة شرط لاثبات وجود الأشياء.

لقد اثبت علم الفلك الحديث ان النجوم تقع على بعد شاسع من كوكبنا. وحسب موسوعة بريتانيكا فان اقرب نجم للارض ينقص بعده قليلا عن أربعة وربع من السنوات الضوئية. واذا علمنا ان السنة الضوئية تعادل تسعة ونصف تريليون كيلومتر تقريبا, فللفرد ان يدعى ان الحسابات الفلكية صحيحة لكن هناك احتمال ان الذى يراه هو نجم قد انفجر في زمان سابق ولم يعد كما كان. ويضيف موقع بريتانيكا ان المركبة الفضائية تحتاج الى 43 الف سنة لكى تقترب من ذلك النجم. ووفقا لهذه الحسابات فان الشخص الذى يذهب الى النجم بريتانيكا سيعود الى كوكبنا بعد 86 الف سنة. ويتضح من الأمثلة انفة الذكر ان التشكيك في اعتماد المعرفة المادية وحدها امر ممكن, بل قد يكون سهلا, ومثال لذلك التشكيك في نظرية ديكارت القائلة بثنائية العقل والجسم .

هنالك الكثير من النظريات والافتراضات التي تشكك في الاعتماد على طريقة وحيدة للحصول على المعرفة. وقد افترض الفلاسفة وضعا يتم التمكن فيه من فصل الدماغ عن الجسد, ووضعه بعيدا عن صاحبه, فهل يتمكن صاحب الدماغ حينئذ من معرفة الأشياء؟ وكيف يثم التواصل بين الدماغ وصاحب الدماغ. ان التشكيك في كيفية ووسائل المعرفة لم يبدأ بنظرية ثنائية الجسم والعقل ولم ينته عندها. وقد تحدى الفلاسفة التجريبيون والعلماء نظرية ثنائية العقل والجسم واتوا بفرضية تقول ان التفكير هو وظيفة من وظائف الدماغ. ومن أمثال هؤلاء الفلاسفة والعلماء جون لوك وديفيد هيوم ونيوتن وغيرهم, وهم الذين وضعوا قواعد المعرفة التجريبية. والقواعد تتعلق بماهية المعرفة وكيفية التحقق منها وهل هي حقيقية ام لا؟ بمعنى اخر ان تكون المعرفة هي ايمان حقيقى اتى عن طريق معرفة حقيقية تم الحصول عليه بطرق علمية واخلاقية. والتي يسهل في حالة المعرفة المادية.

ان المعرفة التي يتحصل عليها الحداد هي معرفة حقيقية لكن يسهل رفضها بسبب عجز صاحبها عن صياغة افتراضاته بصورة علمية. فالمعرفة تتطلب ان يكون الشئ موضوع الدراسة هو شيء حقيقى وان صاحبه يؤمن بانه حقيقى وان يتمكن صاحبه من الاتيان بالادلة المنطقية والعلمية التي تثبت صحة ادعاءه. وبالنسبة للحداد فقد يتمكن من اثبات الأولى والثانية لكن يجد صعوبة في الثالثة. اما الطبيب المتخصص فانه يستطيع ان يستقرئ المرض قبل البدء في إجراء التحاليل والفحوصات, واحيانا كثيرة تاتى نتيجة الفحص مؤيدة لفرضياته. ان الاستقراء والاستنباط هما وسيلتان علميتان لاثبات الحقائق وهما مرتبطتان ببعضهما ارتباطا عضويا, فالاولى تؤدى الى الثانية والعكس صحيح.

ان الكثير من الناس يتحصلون على المعرفة عن طريق النقل من الاخرين دون تمحيص او تفكر وهذا الطريق قد يؤدى الى منزلقات خطيرة, فنجد مثلا ان الكثير من قادة الحركات الإرهابية الدينية بما فيها الإسلامية, كانوا أناسا عاديين, بل كان بعضهم ينتمى الى تيارات فكرية معتدلة, ولكنهم وقعوا في براثن الإرهاب في نهاية المطاف. واذا فكرنا بطريقة صحيحة يمكن ان نستنتج انهم لقد سلكوا الطريق الخطأ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صابرين الروح.. وفاة الرضيعة التي خطفت أنظار العالم بإخراجها


.. كاهنات في الكنيسة الكاثوليكية؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. الدكتور قطب سانو يوضح في سؤال مباشر أسباب فوضى الدعاوى في ال


.. تعمير- هل العمارة الإسلامية تصميم محدد أم مفهوم؟ .. المعماري




.. تعمير- معماري/ عصام صفي الدين يوضح متى ظهر وازدهر فن العمارة