الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وداعاً خسرو توفيق انساناً ومناضلاً

أمير الحلو

2006 / 8 / 13
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


في اواخر شهر ايار عام 1963 جرت (استضافتي) في مكان يشبه فندق (خمس نجوم) من حيث البناء ويشبه ما قرأناه عن سجن الباستيل من حيث المحتوى، ولأن الفندق المذكور يحمل اسم (قصر النهاية) فقد كان مزدحماً بنزلائه الذين لم يختاروا المكان بأنفسهم ولكن ( مكانتهم) السياسية العليا وفداحة (جرائمهم) جعلتهم ينزلون في هذا الفندق المميز عن غيره من (الفنادق) التي كانت تضم نزلاء من درجات ادنى سياسياً منا.
وبسبب الازدحام الشديد في جميع (السويتات) والغرف والقاعات، فقد (جرى) رميي في احد الممرات بالقرب من المدخل الرئيس، وبعد ساعات من (الاستقرار ) في موقعي الجديد رأيت احد الاشخاص يفترش الارض بالقرب مني ويبدو معزولاً عن الآخرين، عندما تحدثت معه وجدته دمثاً ولكنه حذر في الوقت نفسه، ومعه الحق فهو لا يعرفني خصوصاً وان المكان (ملغوم) واحتمالات الصعود الى غرفة التعذيب في الطابق الاعلى واردة كما ان احتمالات النزول الى السرداب في الاسفل وهو المخصص للاعدام الفوري واردة ايضاً. وبفعل مرور الوقت بطيئاً وفارغاُ فقد اخذت بالتقرب اكثر من (النزيل) الذي سبقني في افتراش الممر فعرفت ان اسمه (خسرو توفيق) وهو شقيق المناضل الكردي المعروف (دارا توفيق)، وعندما وجد من خلال حدثينا بأنني قريب من الافكار اليسارية والتقدمية ولا احمل افكاراً شوفينية متطرفة اخذ يثق بي يوماً بعد يوم واخذنا نتحدث طويلاًُ في امور سياسية وثقافية وعامة بحرية وثقة. وقد وجدت ان هدوءه يخفي وراءه شخصية ثورية مناضلة ومثقفة، وحذرة ايضاً، فلم اجده يختلط مع (سكان) الغرفة التي تجاورنا والتي كانت تضم قياديين شيوعيين منهم المرحوم نافع يونس والمرحوم الدكتور محمد الجلبي (جرى اعدامهما ونحن في قصر النهاية) وشريف الشيخ والدكتور حسين علي الوردي وحازم مشتاق وغيرهم، وكان يعتذر مني عندما كنت ادعوه للقيام بزيارة (مشتركة) لأولئك الرفاق الذين كنت اجلس معهم يومياً لأستمع منهم وليستمعوا مني حول ما يدور في البلد.
حدثني (الصديق الجديد) و (الزميل في المكان) خسرو توفيق كثيراً عن حياته وافكاره وفتح لي قلبه بالرغم من تكتمه الشديد (حتى في التحقيق والتعذيب) بإغفاله الحديث عن امور كثيرة كان (المحققون) يريدون الحصول عليها. لقد احببت خسرو من كل قلبي وربطتنا علاقة وثيقة بالرغم من اننا كنا نمثل (اتجاهين فكريين مختلفين) في الحسابات التقليدية، ولكننا من خلال المناقشات وجدنا انفسنا في (خندق واحد) معاد للدكتاتورية الحزبية وسياسة القتل والتعذيب وتصفية التيارات الاخرى مهما كانت اتجاهاتها يسارية او قومية او دينية، كما وجدنا ان (خلافاتنا) السابقة كانت مفتعلة وحتى ساذجة غير مبررة وتنطلق من مواقف متطرفة غير موضوعية.
مضت الايام ثقيلة وبطيئة في قصر النهاية وكان الليل فيه رهيباً حين تسمع اصوات الانين الصادر من غرف التعذيب وحين تسمع بإعدام انسان كان معك قبل ساعات (كما حصل معي عندما كنت اساعد الدكتور محمد الجلبي على تناول الطعام لأن يديه ترتجفان بفعل الضرب والتعذيب ثم علمت صباح اليوم التالي انه اعدم في الليلة نفسها)..
وفي تموز 1963 قام البطل حسن السريع بحركته في معسكر الرشيد، وجرت عمليات نقل السجناء السياسيين على اماكن الاخرى وخصوصاًُ (قطار الموت) الذي توجه الى نقرة السلمان يحمل افواجاً من الشيوعيين الذين كانوا في سجن رقم واحد. وبعد ايام جرى نقلنا من قصر النهاية الى سجن رقم واحد، وكان علي ان اودع خسرو توفيق بعد اشهر من الرفقة ليلاً ونهاراً وبعد ان ارتبطنا بصداقة بقيت اعتز بها. بقي خسرو في قصر النهاية حتى تمكن السجناء والمحجوزون من مغادرته في 18 تشرين الثاني 1963. بعد سنوات التقيت بخسرو في دار احد الاصدقاء المشتركين فتذكرنا (ايامنا الخوالي)، وبالرغم من بقائه على هدوئه وحذره الا انه كالعادة كان منفتحاً معي فتحدثنا عن كل شيء بحرية تامة وثقة متبادلة في وقت كان فيه مجرد الهمس (السياسي) المعادي يؤدي الى الاعدام، اتفقنا ان نلتقي ولكن الفرصة لم تسنح لنا، حتى رأيته بعد سقوط النظام السابق يسوق سيارة خدمية في شارع السعدون فأشرت له بالوقوف فوقف (بحذر) ولكن ما ان تعرّف عليّ حتى هبط من السيارة واحتضنني وسألني عن احوالي كما سألته عن اوضاعه بلغني بأنه لديه مكتب في بداية شارع الرشيد في العمارة التي يقع فيها محل (جقماقجي) للتسجيلات الغنائية واتفقنا ان ازوره هناك، وقد وجدته سعيداً بمبادرة الاخ الاستاذ فخري كريم في تشكيل مجلس السلم وانعقاده في كردستان حيث كان الاخ خسرو توفيق من ضمن المدعوين الى الاجتماع.. والحقيقة انني وجدته متعباً ومتضايقاً مما يحدث في البلد على الصعيدين السياسي والامني، كما شعرت ان صحته ليست على ما يرام، وافترقنا على امل اللقاء مجدداً، حتى قرأت خبر وفاته الذي وقع عليّ كالصاعقة، ولم اخف دمعة نزلت من عيني مع شريط الذكريات الطويل الذي كنا (بطليه) في مقر النهاية مفترشين الارض، مرعوبين مع وقع خطى زوار بعد منتصف الليل، وتذكرت (الالم) الذي كنا نتقبله عندما يجري مسح الجراح التي على اجسادنا بمادة اليود الحارقة ولكنها كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة لتضميد الجروح الدامية والمقترحة، كما اتذكر (وصفة) لقشور الرقي التي كنا نمسح بها جلودنا الملتهبة من الحر الشديد، واعترف انها كانت مفيدة اذ كانت تعطي بعض البرودة المساعدة على التخفيف من انتشار البثور والبقع الجلدية...
ذهب خسرو توفيق المناضل والمثقف الثوري والمتواضع الذي لم اسمع انه طالب يوماًُ بمنصب او موقع او دخل بصراع مع آخر يخالفه الرأي.
لقد خسرنا (خسرو) المناضل في هذه الظروف التي نحتاج فيها لأمثاله وخسرنا (خسرو) الصديق في هذه الظروف التي نحتاج فيها للصديق الصدوق.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حركات يسارية وطلابية ألمانية تنظم مسيرة في برلين ضد حرب إسرا


.. الحضارة والبربرية - د. موفق محادين.




.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو


.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza




.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع