الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


النيل و التطور الحضارى فى مصر (2)

عمرو إمام عمر

2021 / 8 / 1
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


لم تختلف تطورات البيئة المصرية عن غيرها من البلدان الأخرى سواء فى أوروبا أو آسيا ، فالجماعات المحلية التى عرفت بأسماء مختلفة فى العالم فهى تدعى إما بالعشيرة أو القبيلة ألا إن فى الحالة المصرية كانت القرية هى الوصف الأمثل للتجمعات البشرية لم يكن مفهوم القبيلة كما نراه مثلا فى القبائل العربية أو الاسترالية أو الهنود الحمر شكلا ًمسيطراً ، بل كانت العلاقة فى القرية هى علاقة أسر لها مصالح مشتركة لمجابهة المشكلات التى قد تواجهها ، بعد ذلك بدأت تلك القرى تتطور و تكبر لتشكل مدنناً لكل منها حكومتها ، ثم تكونت مقاطعات و كانت كل مقاطعة تتخذ من إله المدينة الكبيرة رمزا لها ، و لم يكن حكام تلك المقاطعات يسمون ملوك ، و مع مضى الزمن بدأت حركة إتحاد بين تلك المقاطعات ، فتجمعت مقاطعات الوجه البحرى فى مملكتين الأولى بالغرب عاصمتها ”بحدت“ بالقرب من دمنهور الحالية و كان إلهها ”حور“ ، و الثانية فى الشرق و عاصمتها ”بوصير“ بالقرب من سمنود و اتخذت من الإله ”أوزير“ رمزا لها ، ثم أندمجت هاتين المملكتين فى مملكة واحدة عاصمتها ”بحدت“ ، و اتخذت من الإله ”حور“ رمزا لها ، و فى الجنوب توحدت المدن و المقاطعات فى مملكة واحدة عاصمتها ”نقادة“ شمال الأقصر ، و اتخذت من الإله ”ست“ رمزا لها …

الحياة فى مصر قبل عصر الأسرات
للأسف الشديد أن جزء كبير من الآثار التى يمكن أن تفسر لنا بشكل كبير طبيعة الحياة خلال تلك الفترة سواء فى صعيد مصر أو فى منطقة الدلتا و ما حولها قد غمرها الطمى عللى أثر الفيضانات و حركة السكان و لم يصل لنا إلا ما كان منها فى المناطق مرتفعة فى الدلتا أو التى على حافتها ، و قد عثر الباحثون على آلاف القطع من الأوانى و الآثار الصغيرة خاصة التى دفنت مع الموتى ، كذلك منازل بعض القرى مثل قرية العامرى و هى فى منطقة ما بين منطقتى المعادى و حلوان الحالية ، و الهمامية و المحاسنة ، كذلك سنجد إنها كانت منازل بسيطة اقرب إلى الأكواخ تأخذ أشكال بيضاوى و مستديرة جدرانها من الطمى و أعواد النباتات ، و الأسقف من القش ، كما عثر على منازل تأخذ شكلا مستطيلا و يعتقد أن هذا الشكل أنتشر فى فترات قريبة من عصر الأسرات ، و كانت تمتاز بقوائم مغروسة فى الأرض تأخذ شكل الأساسات ، على العكس من الأشكال البيضاوية و المستديرة التى كانت على سطح الأرض مباشرة ، كان من الواضح أن الحضارة المصرية قد وصلت إلى درجة متقدمة فالأوانى المزخرفة و حلى النساء و ادوات الزينة و امشاط الشعر المصنوعة من العاج ، كذلك نلمح تطور واضح فى الرسم على الحوائط و صقل الأحجار للرسم عليها و فى نحت التماثيل ، و لاشك إن كل هذا جاء مواكبا لتطورات فى مجال الزراعة و حفر القنوات و الترع ، إذ من النادر ألا تجد لوحة اثرية لأحد حكام أو ملوك الأقاليم فى تلك الفترة الزمنية لا يمسك الفأس يضرب بها الأرض إيذانا بالبدء فى العمل بالأرض بعد الفيضان أو من ضمن القيام بالمراسيم الدينية الخاصة بأحد الأعياد الزراعية ، أو تسجيلا لشق ترعة من الترع ، و هذا يدل على مدى العلاقة ما بين الأرض و النيل و الإنسان المصرى ، كما سنجد رسومات لمنازل أكبر مكونة من طابقين إلا أن الباحثين لم يعثروا على اثر متكامل لها حتى اللحظة …

من الواضح إن مصر لم تكن معزولة عن غيرها من الأمم فنشاهد تاثير الفن السومرى على كثير من الرسوم خاصة فى الآثار المكتشفة فى منطقة الدلتا ، و كان أهم تلك التأثيرات هو ظهور البناء بالطوب و الأختام الأسطوانية إلا إنه لم يستخدم بكثرة ، و لم يظهر إلا فى العهود القريبة من الأسرة الأولى ، و من أهم و أكبر الاختراعات هو الكتابة و بالرغم إن الحضارة السومرية فى بلاد الرافدين قد سبقتها فى ذلك إلا أننا نرى تميزا و إنفرادا فى استخدامها ، و قد توصلت مصر للكتابة قبل عصر الأسرات بفترة زمنية قصيرة مما مكننا من معرفة بعض الحوادث التى جرت قبل الاسرة الأولى ، كذلك أستطاع المصريين استخراج المعادن و طرقها خاصة الذهب و النحاس من مناجم الصحراء الشرقية ؛ عرفت مصر التجارة بين الأقاليم و المدن من خلال النيل فظهرت صناعة القوراب من الخشب و ورق البردى ، كذلك التجارة الخارجية بواسطة سفن اكبر فوصلت إلى شواطىء فينيقيا خاصة ميناء جبيل ، و كذلك القوافل البرية التى وصلت إلى إيران و بلاد الأناضول ، كذلك تخطت القوافل منطقة الشلالات فى الجنوب ، كما أستقبلت المهاجرين عبر الصحراء الشرقية القادمين للإستقرار فى وادى النيل ، كل هذا أستوجب وجود نظام إدارى دقيق لتنظيم العمل و التجارة ، فكان هناك موظفين إداريين للدولة لتسجيل القوافل التجارية و لحساب الضرائب و المكوس ...

وحدة الاراضى المصرية و بناء الدولة
جرت عدة محاولات لتوحيد جنوب و شمال مصر قبل عصر الأسرة الأولى ، إلا إن تلك المحاولات لم تستمر ، ففى حوالى عام 3400 ق.م. استطاعت مملكة الشمال أن تنتصر على الصعيد لتتوحد البلاد تحت حكم الشماليين ، إلا أن هذا الإتحاد لم يستمر طويلا و ثار أهل الصعيد ليعود الإنفصال بين الشمال و الجنوب ، و فى حوالى عام 3200 ق.م. أستطاع ملك الصعيد إخضاع الدلتا لسيطرته ، مرة أخرى لم يستمر أيضاً لتعود الحالة الإنفصالية مرة ثانية إلى أن جاء الملك مينا أو ”نعرمر“ ملك الصعيد و استطاع توحيد الأقليمين الشمالى و الجنوبى ليبنى عاصمة جديدة و اطلق عليها أسم ”من – نفر“ أو الميناء الجميل بالقرب من منطقة عين شمس الحالية ، لتتشكل الأسرة الأولى إيذانا ببدأ عصر تاريخى جديد هو ما أطلق عليه عصر الأسرات …

ملكية الاراضى الزراعية عند الفراعنة
أحتلت قضية ملكية الأراضى الزراعية فى مصر أهمية خاصة ، كذلك إن الجزء الأكبر من تاريخ الإنسان هو تاريخ علاقته بالأرض ، و فى مصر القضية كان لها خصوصيتها نظرا لتواجد نهر النيل و الإعتماد على الزراعة بشكل شبه كامل فى العملية الإنتاجية ، فالأرض قابلة للزراعة و تحتاج إلى الفلاح حتى يظهر إنتاجها ، لذا فلا قيمة للأرض بدون قوة عمل الفلاح ، فالجهد الذى يبذله فى إعداد الأرض و رعايتها و شق الترع و المصارف و إنشاء السدود و القناطر ، و أدوات إنتاجه من آلات و ماشية و بذور هو الذى يعطى للأرض قيمتها و أهيمتها ، و من هنا كانت الملكية فى الغالب مشاعية(1) فى فترة ما قبل الدولة ، حيث يعمل كل سكان القرية فى الارض و يتم توزيع الناتج على العاملين كل بقدر عمله ، إلا إن تلك المشاعية لم تستمر على حالها مع عصر الدولة الموحدة ، و يقول يعقوب أرتين ”إن رقبة أطيان القطر المصرى دامت أربعين قرنا قبل المسيح و اربعة عشر قرنا بعده ملكا لملك مصر ، ففى عهد الفراعنة و فى زمن الفرس و فى عصر اليونان ، و فى حكم الرومان ، و فى أيام العرب و فى سلطنة الترك و مدة المماليك ، أما المنفعة فكان الحكام يوجهونها لمدة سنة أو بضع سنين لمن يختارونه من القادرين على زراعة الأرض“(2) ؛ لا نستطيع القول أن الملكية الفردية كانت منعدمة فى مصر الفرعونية إلا إنها فى الأغلب الأعم(3) محدودة للغاية فلم تعرفها مصر بشكل واضح إلا فى عهد الاسرة الثالثة و ما بعدها ، و التى اتخذت شكل إما اراضى تم وقفها للمعابد و الكهان ، أو أراضى حيازة – حق إنتفاع أو هبة - لكبار موظفى الدولة و المقربين من الملك ، أو بشكل منح بعضها لمدى حياة الممنوح و البعض الآخر كان يورث ، و كان فى أحيان يتم منح اراضى للمزارعين من قبل الدولة إلا أن الجانب الأعظم من الأراضى كانت الدولة تقوم بزراعتها من خلال موظفى الدولة و الفلاحين الأجراء – مقابل أجور عينية - ، بالأضافة إلى الأرقاء و العبيد ؛ نلاحظ إن هناك علاقة ما بين حيازة الأرض و بين تأدية الخدمات للدولة ، و هذا يؤكد سيطرة الدولة على كافة الأراضى ، و قد وضح هذا فى أواخر عهد الأسرة الرابعة مع زيادة تكاليف بناء الأهرامات ، اضطرت الدولة دفع جزء من مرتبات الموظفين بشكل عينى ، أو بمنحهم قطع من الأرض لزراعتها ، و فى عصور ما قبل الأسرات كانت الصراعات ما بين القرى أو ما بين الأقاليم صراعات على المياه و الأرض لذا كان لابد من وجود قوى كبرى تنظم العلاقة بين الجميع فكان لابد أن تتشكل الدولة التى هى إنعكاس لواقع المجتمع و صراعاته عند درجة ما من تطوره ، قد يتورط فى تناقضات مع ذاته و لكى لا تتفاقم الأزمة فى أن تتضارب المصالح المتنافرة – و هى فى حالتنا السيطرة على المياه و الأرض – كان لابد لقوة تقف فوق الجميع و تنفصل عنه لتشكل الدولة ، فالاراضى الواقعة ضمن وادى النيل الضيق تتكون من تربة مائلة للسواد تترسب فى طبقات من الرمال الناعم تتفاوت درجة سماكته من منطقة إلى أخرى ، و المنطقة الواقعة بين خطى عرض 24°، و 31° درجة تكاد لا تسقط الأمطار فيها و بالتالى تعتمد إعتمادا كليا على نهر النيل ، الذى يبدأ مع الإنقلاب الصيفى و يبلغ أقصى فيضانه فى فترة الاعتدال الخريفى ، إذا فنهر النيل و مياهه هو شريان الحياة ، فيمكننا القول إن الدولة هنا مرتبطة بجريان النهر و الحفاظ عليه و رعايته و الدفاع عنه …




____________________

هوامش

1) لا توجد وثائق نستطيع الإستناد إليها بخصوص شكل الملكية خاصة فى عصور ما قبل الإسرات إلا أنه من المرجح كانت الملكية مشاعية بين أهالى كل قرية.

2) يعقوب أرتين – الأحكام المرعية فى شأن الأراضى المصرية – القاهرة 1889

3) لم يتم العثور على سجلات نستطيع منها التعرف على المساحات




المصادر

• أحمد فخرى ”مصر الفرعونية – موجز تاريخ مصر ن اقدم العصور حتى عام 332 قبل الميلاد“ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب (سلسلة مكتبة الأسرة 2021 )
• د. محمد مدحت مصطفى ”نشأة و إقرار الملكية الفردية للأراضىى الزراعية فى مصر “ ، رؤية للطباعة و النشر ، الطبعة الأولى 2013
• إبراهيم عامر ”الأرض و الفلاح – المسألة الزراعية فى مصر“ ، مطبعة الدار المصرية للطباعة و النشر و التوزيع ، الطبعة الأولى 1955
• دكتور سليم حسن ”موسوعة مصر القديمة ، فى عصر ما قبل التاريخ إلى نهاية العصر الإهناسى (الجزء الأول) “ ، مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – نسخة إليكترونية 2012
• دكتور سليم حسن ”موسوعة مصر القديمة ، فى مدنية مصر و ثقافتها فى الدولة القديمة و العهد الإهناسى (الجزء الثانى) “ مؤسسة هنداوى للتعليم و الثقافة – نسخة إليكترونية 2012
• فرنسوا دوما ”حضارة مصر الفرعونية“ ، ترجمة ماهر جويجاتى – المجلس الأعلى للثقافة ”المشروع القومى للترجمة” ، الطبعة الأولى 1998








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تناور.. «فرصة أخيرة» للهدنة أو غزو رفح


.. فيديو يوثق اعتداء جنود الاحتلال بالضرب على صحفي عند باب الأس




.. مراسل الجزيرة يرصد آخر تطورات القصف الإسرائيلي في جميع مدن ق


.. حماس: تسلمنا المقترح الإسرائيلي وندرسه




.. طالب يؤدي صلاته وهو مكبل اليدين بعدما اعتقلته الشرطة الأميرك