الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عقيدة الدين في بلاد الرافدين

عضيد جواد الخميسي

2021 / 8 / 5
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


في بلاد الرافدين القديمة كان معنى الحياة بالنسبة للفرد ؛ أن يعيش بتوافق دائم مع الآلهة ، وأن القصد من خلق البشر ؛ كان لجعلهم شركاء مع آلهتهم في صّد قوى الفوضى ، والسعي في الحفاظ على سلامة المجتمعات .

أسطورة بلاد الرافدين
وفقاً لأسطورة الخلق في بلاد الرافدين ( إينوما إيليش ) ؛ بدأت الحياة بعد صراع ملحمي بين الآلهة الأكبر والأصغر سنّاً .
في البداية كانت هناك فقط دوّامات مائية في حالة من الفوضى ، وغير متمايزة بين مذاقيها العذب والمُرّ . فُصلت هذه المياه إلى مصدرين رئيسيين : مصدر ذكري " أبسو" ؛ وهو الماء العذب ، ومصدر أنثوي "تيامات" ؛ وهو الماء المالح ، ومن اتحادهما معاً ولِدت الآلهة الأخرى .
كانت الآلهة الصغيرة تنشر الصخب والفوضى في كل مكان جرّاء نشاطها اليومي ، إلى درجة أثارت فيها غضب الآلهة المسنّة ؛ وخاصة أبسو. وبناء على نصيحة مستشاره ؛ قرر التخلّص منهم . عند ذاك ؛ صُدمت تيامات بمؤامرة أبسو وحذرّت أحد أبنائها (إيا) ، إله الحكمة والذكاء منها .
بمساعدة إخوانه وأخواته ، قام إيا بتنويم أبسو ثم قتله. من جثة أبسو؛ خلق إيا الأرض وبنى منزله الخاص (على الرغم من أن الأساطير اللاحقة تفيد من أن " أبسو " تعني المنزل المائي للآلهة أو عالم الآلهة) .

قررت تيامات المستاءة من موت زوجها أبسو في الانتقام له من أبنائها . واجه إيا وإخوته والدتهم تيامات والمتحالفين معها من المخلوقات المتوحشة في تلك الحرب ، وقد كان قائد حملتها الهجومية ؛ عشيقها " قوينگو Quingu" .
تمكنت تيامات وقواتها من تحقيق النصر على الآلهة الأصغر سنّاً في أول المعركة ، وبعد الهزيمة التي مني بها الآلهة الشباب ، تقدّم " مردوخ "إله الرياح والعواصف الكبيرة بعرض الى رفاقه الآلهة ؛ أقسم فيه مردوخ من أنه سيهزم تيامات في حال جعْلهِ ملكاً عليهم . وافقت الآلهة على ذلك ، ودخل مردوخ في معركة حاسمة مع تيامات ، فتمكن من قتلها ؛ ومن جسدها خلق السماء ، ثمّ استمرّ في إنجاز مفاصل النشوء الأخرى ؛ وذلك عندما خلق البشر من بقايا جسد قائد الهجوم " قوينگو" ؛ كمساعدين للآلهة .

كتب البروفيسور "دي . بريندان نيگل "، التعليق التالي حول هذه القصة :
"على الرغم من انتصار الآلهة الشباب الواضح ، إلاّ أنه لم يكن هناك ضمان ؛ من أن قوى الفوضى قد لا تستعيد نشاطها وتقلب جهود الخلق المنظّم للآلهة. لذا فقد كان ضرورة مشاركة الآلهة مع البشر في كبح جماح الفوضى المدمرّة ، وكان لكل منهما دوره الخاص في هذه المعركة الدرامية . أمّا مسؤولية سكان مدن بلاد الرافدين ؛ فهي مهمّة من خلال تزويد الآلهة بكل ما تحتاجه لإدارة النظام الكوني " .

المدن والمعابد والآلهة
يعتقد سكان بلاد الرافدين القدامى ؛ أن الآلهة قد اهتمّت بشركائها البشر في كل جانب من جوانب حياتهم ، وذلك من خلال تلبية دعواتهم في الصلاة ؛ ابتداءً من ديمومة الصحة والثراء والرخاء إلى أبسط متطلبات الحياة . وتتركز حياة سكان بلاد الرافدين حول آلهتهم . وبالتالي ؛ فإن المعابد التي شُيدّت ؛ كانت منازلهم على الأرض .
كان لكل مدينة وعند مركزها ؛ معبداً يخصّ الإله الراعي فيها . أشهر مدينة مقدسة في بلاد الرافدين ، كانت "نيپور" ، حيث أجاز الإله إنليل حكم الملوك وأشرف على المعاهدات والمواثيق .
كانت نيپور مركزاً مهماً جداً ؛ بحيث لم تمتد لها يد التخريب في الفترة المسيحية ، باعتبارها مركز ديني مقدّس ، ولكن خلال الفترة الإسلامية ؛ حصل الدمار فيها حوالي عام 800 ميلادية ،أي بعد أقل من مئة عام على ظهور الإسلام .
كان معبد الإله الراعي أو الإلهة الراعية للمدينة هو الأكبر في المدينة ، ولكن كانت هناك معابد ومزارات أصغر للآلهة الأخرى على مدار التاريخ القديم . إذ كان يُعتقد ؛ من أن المعابد التي تم إنشاؤها ، هي بمثابة السكن الحقيقي للآلهة ، وقد تم تصميم معظم المعابد بثلاث غرف ، جميعها ذات نقوش وزخارف مبالغ بها كثيراً ، وأبعد غرفة وأوسعها في بناية المعبد ؛ كانت غرفة الإله أو الإلهة ، حيث الإله يقيم في شكل تمثاله أو تمثالها ، وفي كل يوم ، كان كهنة المعبد يقومون بتلبية احتياجات الإله.
كتب "نيگل" ، وصفاً دقيقاً للنشاط اليومي الذي يمارسه الكهنة في المعابد؛ كما ورد في المقطع أدناه :
" يومياً ؛ وعلى صوت الموسيقى والتراتيل والصلوات ، يتم غسل تمثال الإله وتبديل ملابسه ، وتعطيره وتغذيته ؛ من قبل المنشدين والراقصين من الكهنة .
مع أدخنة البخور الكثيفة المتصاعدة ؛ توضع قبالة تمثال الإله ؛ وجبات من الخبز والكعك ، وفواكه كثيرة مع وعاء من العسل على طاولة الطعام ، وإلى جانبها ؛ طاولة متنوعة من أقداح البيرة والنبيذ والماء .. في أيام الأعياد ؛ يتم نقل تماثيل الآلهة على ظهور العربات الخشبية ؛ في موكب رسمي عبر فناء المعبد ، ومن ثمّ الى شوارع المدينة ؛ مصحوبة بالغناء والرقص ".

حظيت آلهة كل مدينة بهذا الاحترام والتبجيل العظيم ، وكان يُعتقد في أنهم بحاجة إلى جعل جولات المدينة مرة واحدة في السنة على الأقل ، وذلك بنفس طريقة التنقل التي يتبعها الملوك أو الحكّام المخلصين والذين يبدأون بها من قصورهم في تفقد مدنهم بانتظام .
يمكن للآلهة حتى زيارة بعضهم البعض في أوقات متفاوتة ، وفق ما ذكر في حالة الإله "ناپو" الذي كان يُنقل تمثاله مرة واحدة في السنة من "پورسيبا" (اليوسفية حاضراً) إلى بابل ؛ لزيارة والده الإله "مردوخ " . حيث يتم تكريم مردوخ نفسه ، في احتفال مهيب خلال مهرجان السنة البابلية الجديدة عندما يُنقل تمثاله إلى خارج المعبد ، وعبر شوارع مدينة بابل . عند نهاية اليوم ، يتم نقله إلى منزل صغير خاص خارج أسوار المدينة ، حيث يمكنه الاسترخاء مع الهواء المنعش ، والاستمتاع ببعض المناظر الطبيعية الخلاّبة التي من حوله !. طوال تلك المسيرة الحاشدة ، كان الناس يهتفون " إينوما إيليش "؛ تكريماً لانتصار مردوخ الكبير على قوى الفوضى في تلك الملحمة الاسطورية .

بلاد الرافدين والعالم السفلي
لم يكن سكان بلاد الرافدين يوقرّون آلهتهم فحسب ، بل أيضاً أرواح أولئك البشر الذين رحلوا إلى العالم السفلي . كانت جنّة بلاد الرافدين (المعروفة باسم "دلمون" للسومريين ) ؛ أرض الآلهة الخالدة ، إلا أنها لم تحصل على نفس الدرجة من الاهتمام الذي يتلقّاه العالم السفلي . كان العالم السفلي في بلاد الرافدين ، حيث تذهب أرواح المتوفين من البشر ، أرض مظلمة ، وكئيبة ، ولن يَعود منها أحد ، ومع ذلك ، فإن الروح التي لا يجرى أداء مراسيمها وطقوسها بشكل صحيح أثناء الدفن ؛ يمكن أن تجد طريقها لإحداث البؤس في نفوس الأحياء .
بما أن القتلى من الناس (بسبب الحروب أو الجرائم الجنائية ) ، غالباً ما يتم دفنهم تحت أرض المنزل أو بالقرب منه ، فقد كان هناك مزار صغير لهؤلاء الموتى داخل كل منزل تقريباً (أحياناً معابد صغيرة خاصة في منازل الأثرياء ، كما عثر عليها في مدينة أور ) ؛ حيث تُقدم القرابين والنذور اليومية من الطعام والشراب غفراناً لأرواح الراحلين .
هناك قناعة راسخة لدى الناس في بلاد الرافدين ؛ وهي إذا كان الفرد قد قام بواجبه على أكمل وجه ؛ تجاه الآلهة والآخرين في المجتمع ، وكان يواجه باستمرار بعض المصدّات المسيئة في حياته اليومية ؛وجب عليه استشارة مستحضراً للأرواح أو عرّافاً لقراءة الطالع ؛ لبيان ما إذا كان أحد قد أساء إلى أرواح الموتى بطريقة مقصودة أو بغيرها .

القصيدة البابلية الشهيرة " لدلول بل نميقي" عام 1700 قبل الميلاد (المعروفة باسم " لأمجدنَ ربّ الحكمة " بسبب تشابهها مع كتاب سفر أيّوب المقدس ) ؛ يذكر لنا هذا العمل الأدبي البابلي من خلال بطله " تاپو ـ يوتول ـ بل " (المعروف سومرياً باسم " لالوراليم " ) ؛ عن مدى شكوكه في سبب معاناته ، إذ سأل العرّاف عن سبب مصائبه : "استَشرتُ مُستحضّراً للأرواحِ ، لكنّهُ لَم يَفهَمني " ، و ؛ " لماذا تحدث الأشياء السيئة للناس الطيبين ؟ " . . الأمر نفسه كان قد تكرر في سفر أيّوب . أمّا عن شخصية لالوراليم ، فهو يؤكد ؛ أنه لم يفعل شيئاً مسيئاً لأي إنسان وإله أو روح ، ليستحق كل تلك المصائب التي يعاني منها.

العرافة وقراءة الطالع
كانت العرافة جانباً هامّاً آخر من عقائد بلاد الرافدين ، التي تم تطويرها إلى أقصى درجات الاهتمام في المجتمع الرافديني . يشير رقيم طيني أثري الى (كبد كبش) ، الذي عُثر عليه في مدينة ماري ، وعادة ما يفسّر العرّاف طبيعة الرسائل المذكورة في هذا الجزء من أحشاء ذلك الكبش .
بالنسبة إلى بلاد الرافدين ؛ كانت العرافة طريقة (علمية) في تفسير وفهم الرسائل من الآلهة ضمن السياقات المكانية . مثلاً ؛ إذا سلك نوع محدد من الطيور سلوكاً غير عادياً ، فكان هذا يعني شيئاً ما يفهمه العرّاف جيّداً ، بينما إذا كان سلوكه طبيعياً ، تفسيره عند العرّاف ؛ من أن الآلهة كانت تقصد شيئاً آخر مختلف تماماً عن الحالة الأولى .
مثال آخر ؛ قد يتم تشخيص رجل يعاني من أعراض مرضية معينة من قبل عرّاف بطريقة خاصة ؛ بينما امرأة تعاني من نفس الأعراض يتم تشخيصها بطريقة أخرى ، وذلك بناءً على كيفية قراءة العرّاف للعلامات الظاهرة على المريض .
كان لدى حكّام المدن عرّافين خاصّين (مثلما لدى الملوك وحاشيتهم أطبائهم الشخصيين) ، بينما كان الأشخاص الأقل ثراءً ، يعتمدون على الخدمات التي يقدمها العرّاف المحلّي .

قدّمت الأساطير والحكايات والأعمال الأدبية الأخرى المتعلقة بآلهة بلاد الرافدين ؛ العديد من الأحداث المثيرة والرموز والشخصيات التي يعرفها القرّاء في العصر الحديث ؛ على سبيل المثال ؛ قصة الإنسان الأول ( أدابا ) ؛ حكاية الطوفان الكبير ( آطرا ـ هاسيس ) ؛ قصيدة شجرة الحياة ( إنانا وشجرة هولابو ) ؛ حكاية الرجل الحكيم ( أسطورة إتانا ) ؛ قصة الخلق ( إينوما إيليش) ؛ اسطورة البحث عن الخلود ( ملحمة گلگامش ) ؛ حكاية موت وإحياء الآلهة ( رحلة إنانا إلى العالم السفلي ) .
أصبحت تلك الأعمال الأدبية من بين مختلف النصوص الأخرى ؛ أساس الأساطير والحكايات اللاحقة التي تداولها الرافدينيون في مناطق واسعة ؛ والتي تفاعل الناس معها (إيماناً في حقيقتها) ، وعلى وجه الخصوص في أرض كنعان ( فينيقيا ) ؛ عندما كان كهنتها يسوّقون الروايات التي تضم الآن الكتب المعروفة ؛ تحت مسميات (العهد القديم) ، و(العهد الجديد)، وجعلها مقدّسة .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دي . بريندان نيگل ـ تأريخ المجتمع والثقافة ج7 ـ بيرسون للنشر ـ 2009 .
ستيفاني دالي ـ أساطير بلاد الرافدين ـ مطبعة جامعة أكسفورد ـ 2009 .
جيريمي بلاك ـ الآلهة ،العفاريت ، الرموز ، في بلاد الرافدين القديمة ـ مطبعة جامعة تكساس ـ 1992.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس.. تناقض في خطاب الجناحين السياسي والعسكري ينعكس سلبا عل


.. حزب الله.. إسرائيل لم تقض على نصف قادتنا




.. وفد أمريكي يجري مباحثات في نيامي بشأن سحب القوات الأمريكية م


.. شاهد: شبلان من نمور سومطرة في حديقة حيوان برلين يخضعان لأول




.. إيران تتحدث عن قواعد اشتباك جديدة مع إسرائيل.. فهل توقف الأم