الحوار المتمدن
- موبايل
الموقع
الرئيسي
حوار مع جان بول سارتر حياة من أجل الفلسفة
الحسن علاج
2021 / 8 / 6الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
حياة من أجل الفلسفــــــــــــــــة
حوار مع جان بول سارتر
ترجمة : الحسن علاج
في 1972 ، ارتأى بول أ . شيلب Paul A.Schlipp) (، الذي كان يشرف على تسيير مجموعة مكتبة الفلاسفة الأحياء بالولايات المتحدة ، تأليف مجلد حول سارتر ، وقد منحه هذا الأخير تعهدا بسيرة ذاتية قصيرة مع العمل على ضم ما يناهز الثلاثين نصا نقديا تعالج كل مظاهر فلسفته . وفي وقت لاحق ، أصيب سارتر بالعمى ، ولم يستطع الوفاء بوعده ، فتم الاتفاق باستبدال السيرة الذاتية بحوارات استغرقت سبع ساعات تقريبا ، أجريت بتاريخ 12 و19 ماي 1975 ، بمشاركة أوريست بوتشياني Oreste Pucciani) ( ، وهو أستاذ بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلس ، سوزان غروينهيك (Susan Gruenheck) ، أستاذة بالكوليج الأمريكي بباريس ، وميشال ريبالكا Michel Rybalka) ( الذي أعد مع ميشال كونطا Michel Contat) ( كتابات سارتر ونشر أعماله في دار نشر لابلياد . رفض سارتر توقع مواجهة فيلسوف جامعي فرنسي .
قامت سوزان غروينهيك بنقل وترجمة النص الكامل لتلك الحوارات ، وأعدها ميشال ريبالكا ، وظهر في أكتوبر 1981 في الجزء التالي : شيلب بول أ. طبعة فلسفة جان بول سارتر . مكتبة الفلاسفة الأحياء ، جزء 16 . Open Court pub. Co.) (
تم نشر هذه المقتطفات للمرة الوحيدة بالفرنسية في المجلة الأدبية الفرنسية عدد 182 مارس 1982 ، وترجع في أصلها إلى النص الأصلي الفرنسي ، مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة ، وقد قام بانتخابها ميشال ريبالكا ؛ وقد كُرست على الخصوص لإعادة رسم سيرة حياة فلسفة سارتر مع العمل على إسقاط الجوانب التقنية للغاية للحوارات . وقد تم جمع فقرات غير منشورة بالفرنسية حول الماركسية ، الماوية ووعي الحيوانات .
ـ ميشال ريبالكا . تمثل مشروعكم الأول في الكتابة واحتراف الأدب ؛ كيف جئتم إلى الفلسفة ؟
ـ جان بول سارتر . لم أكن مهتما إطلاقا بالفلسفة في حصة الفلسفة . كان لدي أستاذ اسمه شابرييه (Chabrier) وكان يُلقب " كوكي فيلو " ( سخيف جدا ) ؛ لم يغرني البتة بالميل إلى الفلسفة . كما أن تلك الرغبة لم أشعر بها أيضا في الأقسام التحضيرية بالمدرسة العليا للأساتذة ؛ فأستاذي ـ الذي كان يُسمى بيرن Bernes) ( ـ كان صعب المراس ولم أكن أفهم ما يقول .
وقد اتخذت القرار في الأقسام التحضيرية ، بمعية أستاذ جديد ، هو كولونا دي إستريا Colonna d’Istria) ( ، وهو شخص ذو عاهة ، ضئيل ، ضئيل جدا ، جريح . يُقال في الأقسام التحضيرية أنه تعرض لحادث سير سيارة أجرة فاقترب منه الحشد قائلا : " يا له من هول ! " واستمر الوضع ، في واقع الحال على هذا الأمر .
كان أول موضوع بحثٍ قدمه ، ملحا على قراءة برغسون ، هو : " ما هي الديمومة ؟ " لذلك قمت بقراءة [كتاب] بحث في المعطيات المباشرة للوعي وهذا ما منحني بالتأكيد ، وبشكل مفاجئ الرغبة في تعاطي الفلسفة . فقد عثرت في هذا الجزء على وصف لما كنت أعتقد أنه حياتي النفسية . استوعبته فأصبح موضوع تفكير بالنسبة لي . قلت في نفسي سأختار الفلسفة ، متصورا ، بكل بساطة ، هذه الأخيرة مثل وصف منهجي للحالات الداخلية للإنسان ، للحياة النفسية ، كل ذلك سيشكل منهجا وأداة لأعمالي الأدبية . كنت أداوم دائما على كتابة الروايات وأحيانا بعض المقالات ، لكنني كنت أعتقد أن اجتياز امتحان شهادة التبريز في الفلسفة لكي أصبح أستاذ فلسفة ، سوف يقدم لي يد العون في التعامل مع موضوعاتي الأدبية .
ريبالكا . في ذلك العهد ، كنتم تعتبرون بالفعل ، الفلسفة مثل أساس للعمل الأدبي . لكن ألم تكن الحاجة أيضا إلى ابتكار فلسفة من أجل تقديم تفسير لمعيشكم ؟
سارتر . الاثنان معا . كانت لدي رغبة في تقديم تأويل لمعيشي ـ حياتي الداخلية ، مثلما دأبت على تسمية ذلك حينذاك ـ وكان ينبغي لهذا أن يشكل أساسا لأعمال كان من الممكن التعامل مع أشياء لا أدري ما هي لكن بالتأكيد التعامل مع أشياء أدبية بحتة .
ـ ريبالكا . في عام 1924 ، عند التحاقكم بالمدرسة العليا للأساتذة اتخذتم قراركم .
ـ سارتر . اتخذت قراري : كنت سأتعاطى الفلسفة كمادة للتدريس . كنت أتصور الفلسفة كوسيلة ، لكني لم أكن أرى فيها مجالا ، حيث يكون بمستطاعي إنجاز عمل شخصي . بدون شك ، كنت أعتقد أني سأستمد منها حقائق جديدة ، بيد أنها سوف لن تسوغ لي التواصل مع الآخرين .
ـ ريبالكا . هل يتعلق الأمر إذن بتحول معين ؟
ـ سارتر . لا ، لكن ثمة شيء جديد جعلني أتخذ الفلسفة كموضوع للدراسة على محمل الجد . قاعدة وأساس ما كنت أعتزم كتابته ، لم تكن تبدو الفلسفة بالنسبة لي كشيء ينبغي عليه أن ينكتب من خلال ذاته ولذاته ، إني أحتفظ بملاحظات في هذا الشأن ، إلخ . فحتى قبل قراءة برغسون ، كان لدي اهتمام بما كنت أقرؤه وأكتبه من " أفكار " كانت تبدو لي أفكارا فلسفية . كان بحوزتي مفكرة طبيب ، مقسمة أبجديا ، كنت قد عثرت عليها في المترو كنت أسجل فيها تلك الأفكار .
ريبالكا . لنرجع إلى الوراء . هل كان ثمة تقليد فلسفي في عائلتكم ؟
سارتر . لا على الإطلاق . جدي الذي كان مدرسا للغة الألمانية ، لم يكن يعرف شيئا عن الفلسفة بل فقد كان يزدريها . أما بالنسبة لزوج أمي ، وهو مهندس تخرج من مدرسة البولتكنيك ، لم تكن الفلسفة بالنسبة إليه سوى فلسفة للعلوم ، إلى حد ما .
ريبالكا . هل كان في اتخاذكم للقرار ثمة تأثير بعض الأصدقاء مثل نيزان ؟
ـ سارتر . لا ، بالرغم من أن نيزان ، لا أدري لماذا ، اختار الفلسفة في نفس الوقت مثلي وأصبح مبرزا في الفلسفة سنوات فيما بعد . لقد قام بالتحول مثلي في نفس الوقت وقد لعبت الفلسفة بالنسبة إليه نفس الدور مثلي إلى حد ما .
ـ ريبالكا . ألم تتداولا ؟
ـ سارتر . نعم ، بطبيعة الحال .
ـ أوريست بوتشياني . هل ثمة في قراءتكم الأولى لبرغسون ما أثار اهتمامكم بالفلسفة ؟
ـ سارتر . إن ما أذهلني هي المعطيات المباشرة للوعي . كان ثمة أستاذ جديد في السنة الأولى وهو الذي قام بتوجيهي نحو دراسة الذات ، منذ ذلك الحين ، ركزت على معطيات الوعي ، دراسة ما يحدث في الدماغ ، الطريقة التي كانت تتشكل من خلالها الأفكار ، كيف كانت تظهر المشاعر وتختفي ، إلخ . لدى برغسون وجدت تأملات حول الديمومة ، الوعي وحول ما يشكل حالة وعي ، إلخ ، وقد أثر فيّ ذلك بالغ التأثير بالتأكيد . إلا أنني سرعان ما انفصلت على وجه السرعة عن برغسون إذ إني تخليت عنه في غضون السنة الدراسية بالمدرسة العليا للأساتذة .
ـ ريبالكا . علاوة على ذلك ، فقد قمتم بمهاجمته في [كتاب] المخيال بشكل شرس وهو ما لامكم عليه ميرلو بونتي .
سارتر . لم أكن في أي وقت من الأوقات برغسونيا ، على أن أول لقاء لي ببرغسون كشف لي طريقة في دراسة الوعي التي جعلتني أتخذ قرار دراسة الفلسفة .
ريبالكا . يركز عملكم الفلسفي الأهم ، شهادة الدراسات العليا الذي قمتم بتقديمه سنة 1927 ، على الصورة . لماذا هذا الاهتمام دون غيره ؟
سارتر . لأن الفلسفة في النهاية كانت تفيد بالنسبة لي ، علم النفس . فقد تخلصت من هذا المفهوم فيما بعد . توجد الفلسفة ، ومن ثم فلا وجود لعلم النفس ، لا وجود لهذا الأخير ، فذلك يعتبر ثرثرة أو بذل مجهود من أجل إنشاء ماهية الإنسان من خلال المفاهيم الفلسفية .
ريبالكا . من هم الفلاسفة الذين أثاروا انتباهكم ، بعد برغسون ؟
ـ سارتر . حسناً ، إنهم الفلاسفة الكلاسيكيون : كانط ، أفلاطون أكثر ، وخصوصا ديكارت . إني أعتبر نفسي فيلسوفا ديكارتيا ، على الأقل في [كتاب] الوجود والعدم .
ـ ريبالكا . هل اشتغلتم على هؤلاء المؤلفين بشكل نسقي ؟
ـ سارتر . نسقيا تماما ، بما أنه كان ينبغي عليّ تحضير مقرر الإجازة والتبريز ؛ والفيلسوفان اللذان أحببتهما ، ديكارت وأفلاطون ، على سبيل المثال ، حضرت دروسهما بالسوربون . بعبارة أخرى ، فإن التكوين الفلسفي الذي تلقيته طيلة تلك السنين هناك يعتبر تكوينا مدرسيا . علاوة على ذلك شيء طبيعي ، بما أن المرء ينهي تعليمه بواسطة التبريز . وبمجرد حصوله على شهادة التبريز ، يصبح أستاذا للفلسفة وكل شيء يكون على ما يرام .
ـ ريبالكا . هل ثمة تأثير لنيتشه ؟
ـ سارتر . أتذكر أني قدمت عرضا حوله عند برانشفيك Brunschvicg) ( ، إبان السنة الثالثة في المدرسة العليا للأساتذة . أثار انتباهي ، مثل كثيرين آخرين ، بيد أنه لم يمثل شيئا ذا بال بالنسبة لي .
ـ ريبالكا . يبدو لي هذا متناقضا . فمن جهة ، ثمة إحساس أنكم كنتم تحت تأثير جاذبية معينة بما أنكم ، في أمبيدوكليس ، انكسار تماهيتم مع نيتشه مع شخصية " فريدريك المثير للشفقة " . إلا أنه ، وفي الفترة نفسها ، قمتم بإلقاء قنابل مائية على نيتشويي المدرسة صائحين : " هكذا بال زرادشت ! "
ـ سارتر . أعتقد أن ذلك يسير على أحسن ما يرام . ففي [رواية] أمبدوكليس ، كانت لدي رغبة في استعادة تاريخ نيتشه ـ فاغنر ـ كوزيما روائياًّ ، مانحا إياه شخصية أكثر وضوحا . ليس الفيلسوف نيتشه هو ما كنت أرغب في تشخيصه ، بل حياته كإنسان بكل بساطة : فقد كان مغرما بكوزيما وفي نفس الوقت صديقا لفاغنر . أصبح فريدريك طالبا في المدرسة العليا للأساتذة فتماهيت معه أخيرا ؛ كانت لدي مرجعيات أخرى للشخصيات الأخرى . لم آت على إنهاء تلك الرواية الصغيرة أبدا .
ـ ريبالكا . وماركس ؟
ـ سارتر . قمت بقراءته ، إلا أنه لم يلعب أي دور في ذلك الحين .
ـ بوتشياني . هل قرأتم هيغل أيضا ؟
ـ سارتر . لا . تعرفته من خلال أعمال ودروس ، لكني لم أدرسه إلا في وقت متأخر جدا ، في عام 1945 .
ـ ريبالكا . لعلنا نتساءل في أي تاريخ تموضع اكتشافكم للجدل .
ـ سارتر . متأخرا . بعد الوجود والعدم .
بوتشياني : (مندهشا ) . بعد الوجود والعدم ؟
ـ سارتر . نعم . فقد كنت على علم بالديالكتيك منذ المدرسة العليا للأساتذة ، لكني لم أستعمله . ثمة فقرات تتشابه إلى حد ما بالديالكتيك في الوجود والعدم ، لكن الطريقة لم تكن جدلية بتعيين الاسم وكنت أعتقد بعدم وجود ذلك . غير أنه ابتداء من 1945 ...
ريبالكا . ثمة العديد من الانتقادات التي تجزم بكونكم كنتم ، منذ البداية جدليا ...
سارتر . ذلك شأنها . لم أر الأشياء من هذا القبيل .
بوتشياني . ومع ذلك ثمة جدلية في [كتاب] الوجود والعدم تخص الشيء في ذاته والشيء لذاته ؟
سارتر . نعم ، لكن في هذه الحالة ، ثمة ديالكتيك لدى كل المؤلفين ، ثمة في كل مكان تناقضات تعترض بعضها بعضا ، تتحول إلى شيء آخر ، إلخ .
ريبالكا . غالبا ما تمت مؤاخذتكم لعدم تعاطيكم للفكر العلمي والإبستيمولوجيا . هل يشغل هذان الأخيران حيزا في تكوينكم ؟
ـ سارتر . نعم ، كان لزاما عليّ دراستهما بالمدرسة العليا ( حيث كانت تفرد للعلوم عناية كبيرة ) ، ومن ثم كان ينبغي عليّ ، من أجل دروسي الخاصة ، قراءة أعمال خاصة . على أنه ، في النهاية ، فإن ذلك لم يشكل أبدا بالنسبة إلي شيئا ذا أهمية كبيرة .
بوتشياني . وكيركيغارد ، متى اكتشفتموه ؟
ـ سارتر . في عام 1939 ـ 1940 . من قبل ، كنت على علم بوجوده ، لكنه كان مجرد اسم بالنسبة لي ، ولست أدري لماذا ، كان يبدو لي هذا الاسم منفرا . وبخصوص الاثنين ، أظن ... فقد صرفت النظر عن قراءته . ولأجل مواصلة هذه السيرة الفلسفية ، كنت أرغب في القول أن ما يشكل أهمية بالغة بالنسبة لي ، هو الواقعية ، بمعنى فكرة أن العالم مثلما كنت أراه كان موجودا وأن الموضوعات التي كنت أدركها كانت تتمتع بواقعية معينة . لذلك فإن هذه الواقعية لم تعثر على تعبير جدير بالقبول لأنه ، كان ينبغي ، كي يكون واقعيا ، أن يمتلك في نفس الوقت ، فكرة للعالم وفكرة للوعي ـ تلك كانت تحديدا مشكلتي . ظننت أنني وجدت حلا ، أو شيئا من هذا القبيل عند هوسرل ، أو بالأحرى كتيب ظهر بالفرنسية حول أفكار هوسرل .
ريبالكا . كتاب ليفيناس ؟
ـ سارتر . نعم ، قرأت ليفيناس قبل ذهابي إلى برلين بسنة . وفي نفس الفترة ، رامون آرون ، الذي عاد من ألمانيا ، وقد أكد لي من جانبه أنها فلسفة واقعية . فقد كان ذلك أبعد ما يكون عن الدقة ، إلا أن رغبة عارمة كانت تحدوني في معرفتها وقد ذهبت إلى ألمانيا سنة 1933 . وهناك قرأت كتاب أفكار ممهدة لعلم الظاهريات الخاص وللفلسفة الظاهرياتية Ideen) ( في النص واكتشفت فعلا الظاهراتية .
ـ ريبالكا . يرى البعض سارتر ظاهراتيا وسارتر وجوديا . هل تعتقدون أن ثمة ما يبرر هذا التمييز ؟
ـ سارتر . لا ، لاأرى اختلافا . لقد جعل هوسرل من ال" أنا " je) (ال"ذات " منl’égo) ( ، معطىً داخليا للوعي ، في حين أنه ، منذ سنة 1934 ، قمت بكتابة مقال بعنوان تعالي الذات ، وفيه اعتبرت أن الذاتégo) ( هي أشبه ما تكون بموضوع للوعي ، لذلك فإنه يتم استبعادها من الوعي ؛ ولقد احتفظت بوجهة النظر هذه إلى حدود الوجود والعدم ، وسوف أحتفظ بها في الوقت الراهن ، إلا أن ذلك لن يشكل موضوع تأملاتي في هذا الوقت .
ـ بوتشياني . تشكل مسألة الذات تعقيدا بالنسبة للكثيرين من نقادكم .
ـ سارتر . يتشبت هؤلاء بالتقليد . فلماذا تنتمي الذات إلى العالم الداخلي ؟ فلو كانت موضوعا للوعي ، فهي تكون في الخارج ؛ فإذا كانت توجد ضمن الوعي ، فإن هذا الأخير يكف عن أن يكون نافذ البصيرة ، أن يشكل وعيا لذاته ، كي يصادف موضوعا بداخله . يوجد الوعي بالخارج ، ليس ثمة شيئا داخليا للوعي .
ـ بوتشياني . تتأتى الصعوبة في كون أنه ليس شيئا ...
ـ سارتر . لا ، ولا أنتم أيضا ، فأنتم لستم شيئا ، وأنتم أيضا تشكلون موضوعا لوعيي ، ليست الذاتية في الوعي ، إنها الوعي ؛ ومن خلال ذلك بالإمكان العثور على معنى للوعي الذي هو موضوعية في الذات . تعتبر الذات موضوعا يلامس الذاتية ، لكنها لا توجد في الذاتية . لا يمكنها أن تشكل شيئا في الذاتية .
ـ بوتشياني . تكتب سيمون دو بوفوار أن ذلك يستمر في أن يشكل واحدا من اعتقاداتكم الأكثر حزما . هل هو اعتقاد أم واقعة ؟
ـ سارتر . أعتبر ذلك واقعة . ففي التفكير اللاتأملي ، لا أصادف الذات البتة ، ذاتي ، فأنا أصادف ذات الآخرين . يكون الوعي اللاتأملي متخلصا تماما من الذات التي لا تظهر إلا في الوعي التأملي أو على الأصح في الوعي الحصيف ، لأن الوعي الحصيف يعتبر بالفعل شبه موضوع بالنسبة للوعي التأملي . فوراء الوعي الحصيف ، باعتباره هوية مشتركة بين كل الحالات التي تلت وعيا حصيفا ، ثمة هذا الموضوع الذي سيُدعى ذاتا .
ـ ريبالكا . في أولى كتاباتكم الفلسفية ، لما كتبتم ، على سبيل المثال ، الخيال أو المخيال ، هل كانت لديكم طموحات في الأسلوب ؟
ـ سارتر . لم يكن لدي طموح في الأسلوب من أجل الفلسفة . أبدا . أسعى إلى الكتابة بوضوح وهذا كل شيء . قيل لي أنه ثمة فقرات مكتوبة بشكل جيد . ذلك ممكن ؛ عندما يتم الشروع في الكتابة بشكل واضح ، ففي العمق تتم الكتابة بطريقة معينة . فأنا لست حتى فخورا بتلك الفقرات ، إن وجدت . كنت أرغب في الكتابة بالفرنسية بكل بساطة ؛ ولم أقم بفعل ذلك دائما ، على سبيل المثال ، في [كتاب] نقد العقل الجدلي ( حيث يُعزى ذلك إلى مميزات عقار الكوريدران الذي كنت قد تناولته ) .
ـ ريبالكا . ماهو تعريفكم للأسلوب ؟
ـ سارتر . لقد سبق لي الحديث عن الأسلوب في مكان آخر ، في مقابلات . الأسلوب هو أولا الاقتصاد : يتعلق الأمر بجعل جمل أو معان عديدة متعايشة حيث تعتبر الكلمات مثل تلميحات ، مثل موضوعات أكثر من كونها مفاهيم . ففي الفلسفة ينبغي على كلمة ما أن تدل على مفهوم ، وعلى هذا الأخير فقط . الأسلوب هو علاقة معينة للكلمات فيما بينها ، والذي يحيل على معنى ، معنى لا يمكن الحصول عليه من خلال الإضافة البسيطة للكلمات .
ـ ريبالكا . غالبا ما يتم طرح السؤال لمعرفة هل ثمة استمرار أو قطيعة في فكركم .
ـ سارتر . ثمة تطور ، ولا أعتقد بوجود قطيعة . أعظم تغيير في تفكيري هو الحرب : 1939 ـ 1940 ، الاحتلال ، المقاومة ، تحرير باريس . كل هذا مكنني من الانتقال من فكر فلسفي تقليدي إلى أفكار حيث الفلسفة والفعل ، حيث النظرية والتطبيق مترابطان : فكر ماركس ، كيكيغارد ، فكر نيتشه ، أفكار الفلاسفة الذين من خلالهم يمكن فهم فكر القرن العشرين .
ـ بوتشياني . ومتى تدخّل فرويد ؟
ـ سارتر . عرفته منذ كنت طالب فلسفة . من ثم فقد قرأت بعض كتبه : أتذكر قراءة كتاب علم النفس المرضي في السنة الأولى بالمدرسة العليا للأساتذة ، وأخيرا ، كتاب تفسير الأحلام قبل مغادرة المدرسة . لكنه صدمني لأن الأمثلة التي يسوقها في كتاب علم النفس المرضي هي أبعد ما تكون إلى حد كبير من فكر عقلاني وديكارتي . فقد تحدثت بخصوص هذا في مقابلة خصصتها لفائدة المجلة السياسية New Left Review) ( .بعد ذلك قمت ، أثناء سنوات أستاذيتي بتعميق مذهب فرويد ، علاوة على ذلك ، فقد انفصلت عنه من خلال فكرته عن اللاشعور . حوالي سنة 1958 ، توقع مني جون هيوستون Jhon Huston) ( العمل على إنجاز فيلم حول فرويد ؛ إلا أن ذلك تعثر بما أنه لم يتم اختيار أحد ما لا يؤمن باللاشعور لإنجاز فيلم على شرف فرويد .
ـ ريبالكا . قال روبيرت دونون كامينغ إنكم ميالون إلى المبالغة في عدم استمرار فكركم : فأنتم تعلنون كل خمس أو عشر سنوات كونكم تغيرتم ، وأنكم لن تسعوا إلى فعل ما قمتم بفعله . فلو تمت العودة إلى المثال الذي استشهدتم به بعد قليل ـ وهو مثال الدفتر الصغير الذي كان بحوزتكم أثناء الدراسة والذي أصبح في رواية الغثيان دفتر العصامي ـ فمن الجلي أنكم تفكرون ضد نفسكم .
ـ سارتر . لكن ليس الأمر على هذه الشاكلة : لقد فكرت ضد نفسي في نفس اللحظة ، والفكر الذي نجم عن ذلك كان فكرا ضد الفكر الأول ، ضد ما كنت سأفكر فيه تلقائيا . لم يسبق لي أن قلت إنني أتغير كل خمس سنوات . إني أعتقد ، خلافا لذلك ، أنني عرفت تطورا مستمرا انطلاقا من رواية الغثيان وانتهاء بنقد العقل الجدلي . إن أعظم اكتشافي ، هو التفاعل الاجتماعي أثناء الحرب ، لأنه أن تكون جنديا في الجبهة ، هو أن تكون حقيقة ضحية لمجتمع يحتفظ بك هناك حيث لا ترغب في أن تتواجد به ويمنحك قوانين لا ترغب فيها . لا يوجد الاجتماعي في رواية الغثيان ، لكنه بالكاد يُرى .
ـ ريبالكا . وعلى هذا المستوى ، فإن الوجود والعدم ، كان يعتبر نهاية حقبة بالنسبة لكم ؟
ـ سارتر . قطعا . إن ما هو أسوأ في الوجود والعدم ، هوالفصول الاجتماعية بحصر المعنى ، حول ال" نحن " ، بخلاف الفصول حول ال" أنت " والآخرين .
ـ ريبالكا . يتساءل موريس نتانسون (Maurice Natanson) بالضبط ، ماهي العلاقة بالنسبة لكم بين الأنطولوجيا والسوسيولوجيا .
ـ سارتر . لاوجود لتلك العلاقة في الوجود والعدم ، إنها توجد بالذات في نقد العقل الجدلي ...
ـ ريبالكا . هل تعتبرون بهذا الخصوص مفهوم الندرة كأنطولوجيا ؟
ـ سارتر . لا . إنه ليس مفهوما أنثروبولوجيا أيضا ؛ فهو يظهر بمجرد وجود حياة حيوانية ، إذا صح التعبير .
ـ ريبالكا . طرح نتانسون السؤال : " هل يمتلك [مفهوم] الشيء لذاته le pour-soi) ( صيغة جمع أم جنسا ؟ "
ـ سارتر . لا ، طبعا . فلا وجود سوى للشيء لذاته ، ملكك ، خاصتي ، على أن هذا يشكل صيغة جمع الشيء لذاته .
ـ بوتشياني . تكمن قوة نسقك ، في كونها شيدت على أنطولوجيا . فكيف توصلتم إلى مفهوم الأنطولوجيا هذا ؟
ـ سارتر . كنت أرغب في أن يمتلك فكري معنىً بالنسبة للكينونة . أعتقد أن فكرة الأنطولوجيا كانت موجودة في ذهني نظرا لتكويني الفلسفي ، الدروس التي كنت أتابعها . تتساءل الفلسفة حول الموجود والموجودات ...فكل فكر لم يتوصل إلى التساؤل حول الوجود ليس فكرا مقبولا .
ـ بوتشياني . أتفق معكم تماما ، لكني أرغب في تذكيركم بأن فكرا علميا معينا ( فلاسفة دائرة فيينا ، على سبيل المثال ) يرفض تماما ، كنوع من حلم يقظة ، مفهوم الوجود بأتمه .
ـ سارتر . أعرف ذلك ، لكني أظن تحديدا ، لما يتم الانطلاق من هذا ، فإن المرء نفسه يتعاطى الفلسفة . بعبارة أخرى ، أنا لا أعتقد أن فكر فلاسفة فيينا ( وفكر من هم يقتربون منهم ) يعتبر فكرا مقبولا وأنه قدم نتائج مقبولة في النهاية . لابد من الانطلاق من الوجود أو الارتقاء إليه ، مثل هايديغر . لابد في كل الأحوال وضع الوجود موضع تساؤل ؛ يقود هذا إلى أفكار أكثر تفصيلا حول قضايا الفلسفة الحالية .
ـ ريبالكا . مثلما طالب نتانسون بذلك ، ينبغي التوفر على وجهة نظر مرتدة إلى الماضي وبإمكان المرء أن يناقش في الوقت الحاضر الوجود والعدم دون التطرق إلى الجدل ؟
ـ سارتر . يطرح ذلك مشكلة عويصة ، وهو معرفة كيف ينبغي العمل من أجل تأويل فيلسوف ميت ، في حوزته فلسفات عديدة . كيف العمل من أجل الحديث ، أن نجعل ، من شيلينغ ، ماهي القيمة التي تُمنح إلى فلسفته الأولى وكيف يتم فهمها بالنسبة للثانية ؟ معرفة بالضبط ماهي مصادر أول فلسفة باعتبارها فلسفة أولى ومصادر الثانية ، معرفة إلى أي مدىً تدخل الأولى في صراع مع الثانية ، إنها مسألة صعبة للغاية والتي لا أزال لم أجب عنها تماما .
ـ بوتشياني . لكن ، فبدون الأنطولوجيا الأساسية ، أتساءل هل كنتم ستمتلكون القدرة على طرح القضية الاجتماعية كما طرحتموها في نقد العقل الجدلي .
ـ سارتر . لا أظن ذلك . إن ما يميزني حقا عن ماركسيّ ؛ وهو ما يمثل تحديدا بالنسبة لي هو تفوقي على الماركسيين ، هو طرح سؤال الطبقة ، المسألة الاجتماعية ، انطلاقا من الوجود الذي يتجاوز الطبقة ، بما أن ذلك يتوجه أيضا إلى الحيوانات والموضوعات الجامدة . فانطلاقا من هناك يمكن الشروع في طرح قضايا الطبقة ، وقد اقتنعت بهذا .
ـ ريبالكا . يتم التساؤل غالبا ماهي مكانة الاستثيقا في فلسفتكم . هل لديكم استثيقا ، فلسفة للفنون ؟
ـ سارتر . إذا كان لدي واحدة ( ولدي القليل منها ) ، إنها موجودة تماما في ما أكتبه وبالإمكان العثور عليها . لم أكن أحسب أن الأمر يستحق وضع استثيقا مثلما فعل هيغل .
ـ سوزان غروينهيك . هل خطر ببالكم وضع فلسفة للغة ؟
ـ سارتر . لا . ينبغي على اللغة أن تدرس بداخل فلسفة ما ، لكن لا يمكن أن تشكل أساسا لفلسفة ما . أعتقد أنه يمكن استخلاص فلسفة للغة من فلسفتي ، على أنه لا توجد فلسفة للغة يمكن فرضها عليها .
ـ غورينهيك . للعودة إلى قضية أدب / فلسفة ، هل لازلتم تعتبرون الأدب مثل تواصل ؟
ـ سارتر . نعم ، إني لا أرى حتى ماذا يمكن أن يصبح شيئا آخر . لا يكتب المرء قط ، أو بالأحرى لا ينشر مطلقا أي شيء مهما يكن لا يكون لصالح الغير .
ـ ريبالكا . هل تعتقدون أن الفيلسوف ـ يماثل في هذا الشيء الكاتب ـ يمتلك تجربة متميزة من أجل نقلها ؟
ـ سارتر . لا ، ربما . يتمثل دوره في إبراز منهج ، منهج لإدراك العالم انطلاقا مما هو أنطولوجي .
ـ غروينهيك . يسعى كامينغ Cumming) ( إلى البرهنة على أن هذه الطريقة لطالما شكلت لديكم جدلا .
ـ سارتر . بادئ ذي بدء لم أكن جدليا ولم أشرع في الاهتمام في الحقيقة بالقضية إلا في عام 1945 . فقد تعمقت في الديالكتيك ابتداء من كتاب القديس جونيه وأعتقد أن نقد العقل الجدلي هو عمل جدلي حقيقة . الآن ، بالإمكان التسلي دائما بإبراز أنني كنت جدليا في وقت سابق دون معرفتي بذلك ؛ ويمكن إبراز حالة مثيلة بهذه أن برغسون كان برغسونيا في سنواته الست ، عندما تناول مزبّدة .
ـ غروينهيك . هل تعتقدون بوجود تركيبات ؟
ـ سارتر . نعم ، تركيبات جزئية ، في جميع الأحوال ؛ لقد برهنت على ذلك في نقد العقل الجدلي .
ـ غروينهيك . إنكم ترفضون تركيبا تاما كما أفترض ؟
ـ سارتر . تاما ، نعم . لكن تركيبا في عهد سابق ، مثلا ، لا . تمتلك حقبتنا تركيبها الخاص ، وهو ما سأقوم بشرحه في الجزء الثاني من نقد العقل الجدلي . وما من شك أنه يتوجب تجاوز نوع من التركيب الذي أتوفر عليه في الجزء الأول ، من أجل الوصول إلى تركيبات تؤثر في ذاتها والتركيبات الأخرى . نستطيع في كل لحظة ، كل واحد منا ، وضع تركيبات . فعلى سبيل المثال ، أستطيع وضع تركيب لكم أنتم الثلاثة وبطريقة ما أضع تركيبا لنفسي ، وأنتم تستطيعون فعل الشيء نفسه . إلا أن تلك التركيبات ليست في مستوى التركيب الشامل ، وليس بمقدور أي شخص فعل ذلك أبدا . فإذا كنا ستة ، يمكننا البداية مجددا ، لكن لو كنا ألف شخص ، فلن يكون لذلك أي معنى يذكر . لابد إذن من البحث عن طريقة لإدراك تلك التركيبات .
ـ بوتشياني . ومع ذلك قلتم في الوجود والعدم بأن الوعي تركيب .
ـ سارتر . نعم ، بطبيعة الحال . غير أن وعي كل واحد هو الذي يعتبر تركيبا لما يَرى . فأنا أعتبر تركيبا بالنسبة لكل ما أرى ، بالنسبة لكم أنتم الثلاثة ، لكن لثلاثتكم في علاقتكم بي . لكنني لست تركيبا لما يحدث في الشارع ولا أراه . ( في هذه الأثناء يُسمع دوي صفارات الإنذار في الشارع ) . فبما أنني لا أصدق إلا الأوعاء الفردية وليس وعيا جمعيا ، فإنه يستحيل عليّ تقديم وعي جمعي ، باعتباره تركيبا تاريخيا .
ـ ريبالكا . لقد عرفتم نقد العقل الجدلي مثل عمل موجه ضد الشيوعيين والذي يدعي لنفسه أنه عمل ماركسي .
ـ سارتر . ضد الشيوعيين ، لاشك في ذلك . إلا أن ماركسي هي عبارة لجأت إلى استعمالها مخففة إلى حد ما في تلك الأثناء .
في ذلك الحين ، كنت أعتبر نقد العقل الجدلي بوصفه ماركسيا ، كنت مقتنعا بذلك . لكني تراجعت عن ذلك : أعتقد في الوقت الحالي بأن نقد العقل الجدلي هو أقرب إلى الماركسية في بعض المستويات ، لكنه ليس عملا ماركسيا .
ـ ريبالكا . أجريتم في كتاب مسائل في المنهج ، تمييزا بين الإيديولوجيا والفلسفة ، وهو تمييز يزعج النقاد .
ـ سارتر . لأنهم يرغبون في أن يكونوا كلهم فلاسفة ! لقد احتفظت بالاختلاف لكن القضية شديدة التعقيد . ليست الإيديولوجيا فلسفة مُشكلة ، مفكر فيها ومنعكسة ، إنها مجموعة من الأفكار التي هي أساس الأفعال المستلبة التي تعمل عكسها ، التي لا يتم التعبير عنها وتنسيقها بشكل كامل أبدا ، ولكنها تظهر في الأفكار المتداولة لفترة زمنية معينة ومجتمع معطىً . تمثل الإيديولوجيا سلطات ثم إنها تكون فعالة . ينظم الفلاسفة أنفسهم لمناهضة الإيديولوجيات ، بما أنها تعكسهم بصفة جزئية ، مع نقدها وتجاوزها . نلاحظ وجود الإيديولوجيا راهنا حتى لدى أولئك الذين يصرحون بوجوب وضع حد للإيديولوجيات .
ـ بوتشياني . أنا بدوري أزعجني هذا الاختلاف : كنت أرى وجودية نقد العقل الجدلي مثل بحث تركيبي للماركسية وتجاوز ، في حين أنكم قلتم أن الوجودية ما هي إلا جزءا من الماركسية .
ـ سارتر . نعم ، ذلك هو الخطأ . لن يكون ذلك جزءا بسبب فكرتي عن الحرية ثم إنها أخيرا فلسفة منفصلة .
لا أعتقد بتاتا ، في نهاية المطاف ، بأن تلك الفلسفة ماركسية . فهي لن تستطيع تتجاهل الماركسية ، إنها مرتبطة بها ، كارتباط بعض الفلسفات بفلسفات أخرى من دون أن تصطدم بها ، بيد أنني لا أعتبرها إطلاقا في الوقت الحالي كفلسفة ماركسية .
ـ ريبالكا . إذن ، ماهي العناصر التي احتفظتم بها في الماركسية ؟
ـ سارتر . مفهوم فائض القيمة ، مفهوم الطبقة ، علاوة على ذلك ، فإن كل هذا تم التفكير فيه من جديد ، لأن الطبقة العاملة لم يتم تعريفها أبدا من قبل ماركس أو الماركسيين . لابد من مراجعة تلك المفاهيم ، على أنها تظل صالحة في جميع الأحوال بالنسبة لي مثل عناصر للبحث .
ـ ريبالكا . وفي الوقت الراهن ، ألم تعد تجد نفسك ماركسيا ؟
ـ سارتر . لا . علاوة على ذلك ، فإننا نشهد نهاية الماركسية ثم إن ، في المائة سنة القادمة ، ستفقد الماركسية الشكل الذي عُرفت به ...
ـ ريبالكا . الماركسية النظرية أم الماركسية كما تم تطبيقها ؟
ـ سارتر . الماركسية كما تم تطبيقها ، لكنها طُبقت مثل ماركسية نظرية . فقد شكلت الماركسية ، منذ ماركس ، في حياته ، حياة معينة ، وحتى في شيخوخته . الآن نحن في فترة تتجه فيها الشيخوخة إلى الموت . الشيء الذي لا يعني أن المفاهيم الرئيسة للماركسية ستختفي ؛ على العكس من ذلك ، سيتم توظيفها من جديد ... ولكن ثمة صعوبات جمة من أجل الحفاظ على الماركسية حاليا .
ـ ريبالكا . ماهي تلك الصعوبات ؟
ـ سارتر . بشكل سريع جدا ، أقول ببساطة أن تحليل الرأسمالية الوطنية والدولية في عام 1848 لا يمت بأي صلة إلى الرأسمالية في الوقت الراهن . فلا يمكن تفسير شركة متعددة الجنسيات بمصطلحات ماركسية لسنة 1848 . فلابد من إدخال مفهوم جديد لم يتوقعه ماركس وليس مفهوما ماركسيا بالمعنى المجرد للكلمة .
ـ بوتشياني . هل نقد العقل الجدلي هو إذن بالفعل يعتبر تجاوزا للماركسية ؟
ـ سارتر . على أية حال ، فهو [نقد العقل الجدلي] ليس بالمستوى الذي وصل إليه ، مستوى تفسير بسيط للماركسية ، مع بعض التعديلات يمينا ويسارا . فهو لا يناهض الماركسية ، فهو في الحقيقة لا ماركسي .
ـ بوتشياني . ثمة تجاوز عبر فكرة الفردانية ، الممارسة ، بواسطة أفكار جديدة لم تستثمر أبدا .
ـ سارتر . إنها مفاهيم كانت تبدو لي أن مصدرها ماركسي ، لكنها مختلفة .
ـ ريبالكا . ومع من تشعرون بالتعاطف ضمن هذا الرفض للماركسية ؟
ـ سارتر . مع أولئك الذين كانوا يسمون بالماويين ، مناضلي اليسار البروليتاري ، الذين كنت أشرف بمعيتهم على تسيير جريدة قضية الشعب . فقد كانوا ماركسيين في بادئ الأمر ، لكنهم فعلوا ما فعلت : لم يعودوا كذلك ، أو أقل بذلك بكثير . بيار فيكتور ، مثلا ، الذي أشتغل معه في برنامج التليفيزيون ، لم يعد ماركسيا ، أو ، على الأقل ، فهو يتوقع نهاية الماركسية .
ـ ريبالكا . حاول بعض النقاد أن يروا فيكم فيلسوفا ماويا .
ـ سارتر . هذا مناف للعقل ، لست ماويا ؛ أضف إلى ذلك أن هذا لامعنى له . كان الحديث أقل عن ماوMao) ( عندما كتبت الوجود والعدم .
وبالنسبة لبعض المجموعات ، فقد كان ذلك معنىً أكثر التباسا : كان المرء يتصور بعض أشكال الحياة الاشتراكية مثلما تمت رؤيتها أو تصور رؤيتها في الصين والرغبة في تطبيقها هنا . تلك الجماعات كانت ماوية حينما لم تكن رأس ماو تظهر في قضية الشعب ؛ وقد كفوا عن ذلك حينما كشفت رأس ماو عن نفسها .
ـ ريبالكا . لطالما بدا لي أنه لدى الماويين الفرنسيين ، ثمة 10% من ماو و90 % شيء آخر ، من الصعب جدا تعريف ذلك .
ـ سارتر . يصعب تقديم تعريف لذلك . لكنه مثير للاهتمام . وهو ما عملنا على فعله في كتاب لنا الحق في أن نثور .
ـ ريبالكا . وماذا ستكون فلسفة الحرية هذه التي بدأت في الظهور ؟
ـ سارتر . إنها فلسفة ستكون على ذات المستوى ، نظرية وممارسة مختلطة ، شأنها في ذلك شأن الماركسية ، فلسفة حيث النظرية تخدم الممارسة ، لكنها تتخذ الحرية كنقطة انطلاق والتي يبدو لي أنها مفقودة في الفكر الماركسي .
ـ ريبالكا . في مقابلات أجريت معكم مؤخرا ، كنتم تستعملون مصطلح الاشتراكية " التحررية " .
ـ سارتر . إنه مصطلح فوضوي احتفظت به ، لأنه يحلو لي كثيرا استرجاع الأصول الفوضوية إلى حد ما لفكري . لطالما كنت في وئام مع الفوضويين فهم وحدهم أدركوا إنسانا كاملا ، يتشكل عبر العمل الاجتماعي ، وتكمن ميزته الأساسية في الحرية . ومع ذلك ، طبعا ، فإن الفوضويين يعتبرون في السياسة ، بسطاء إلى حد ما .
ـ ريبالكا . على مستوى النظرية كذلك ، ربما ؟
ـ سارتر . نعم ، بشرط ألا يتم التعامل إلا مع النظرية وترك الحدوس ذات الجودة العالية جانبا وبشكل متعمد ، وبالتحديد ، حدوس الحرية والإنسان الكامل . تتحقق تلك الحدوس في بعض الأحيان : فقد كانوا يعيشون معا ، لقد أنشؤوا جمعيات محلية ، مثلا ، بكورسيكا عام 1910 .
ـ ريبالكا . إذا خُيرتم اليوم بين تسميتين ، تسمية ماركسي وتسمية وجودي ، أيهما تختار ؟
ـ سارتر . تسمية وجودي . وهو ما سأبوح لكم به .
ـ ريبالكا . ألا تفضلون مصطلحا آخر يعزز موقفكم أكثر ؟
ـ سارتر . لا ، لأني لم أبحث عنه أبدا . لُقبت وجوديا ، أخذت المصطلح ، فلست أنا من منحه .
ـ ريبالكا . يتهمك روبير شامبيني Robert Champgny) ( ، الذي كرس كتابا بكامله لهذا الموضوع ، بالعنصرية البشرية ، بالاختبال . إن ما يزعجه في جملتكم الشهيرة عن الشيوعيين والسلام ، " يعتبر المناهض للشيوعية كلبا " ، ليست السياسة الفكرة المعبر عنها ...
ـ سارتر . هو الكلب ؟
ـ ريبالكا . إنه الكلب . ( ضحك )
ـ سارتر . بالفعل ، لا أعتقد أنه بالإمكان إثبات امتعاضي من الكلاب . إنها صيغة أكثر ابتذالا استعملتها في هذا الجانب (...) أعرف أن للحيوانات وعيا إذ إني لا أفهم سلوكها لو أني سلمت بوعي ما . ماهو وعيها ، ماذا يعني وعي ما يفتقد إلى اللغة ؟ لا أدري . ربما سيتم التوصل إلى فك هذا اللغز فيما بعد ، على أنه ينبغي توفر معرفة أكبر حول الوعي .
ـ بوتشياني . في كثير من الأوقات يطرح طلبتي هذا السؤال : أين هي الحيوانات في الوجود والعدم ؟
ـ سارتر . لا وجود لها فيه . فأنا أظن أن ما يُقال عن الحيوانات في علم النفس الحيواني يعتبر بشكل عام شيئا غبيا أو ، في جميع الأحوال ، غير مرتبط حتما بالتجارب الواعية التي تملك . لابد من إعادة النظر في علم النفس الحيواني . لكن على أي مستويات ، يصعب قول ذلك .
ـ بوتشياني . حاليا يتم إجراء أبحاث مثيرة للانتباه في الولايات المتحدة على القردة يتم تلقينها الطبع على الآلة الكاتبة ؛ فهي تستطيع التفكير رمزيا ، لكنها لا تملك القدرة على العبور إلى الكلام .
ـ ريبالكا . هل ثمة وعي نباتي ؟
ـ سارتر . لا أعرف شيئا عن ذلك إطلاقا . لا أعتقد أن حياة ووعيا مترادفان . لا ، فالوعي ، بالنسبة لي ، موجود هناك حيث تتم ملاحظته ، ثم هناك حيوانات تفتقده ، الأوليات protozoaires) ( ، على سبيل المثال . يتجلى الوعي في مملكة الحيوان في مرحلة معينة ، لدى البشر ، ولدى القردة أيضا . لكن كيف يتجلى هناك وما هو ؟
ـ ريبالكا . لقد تأثر بيار شتروتن (Pierre Verstrueten) للصفة التي منحتموها في الجزء الثالث من " فلوبير " للعصاب التاريخي للقرن التاسع عشر . فبالنسبة إليه ، يعتبر ذلك اكتشافا ثم إنه يتساءل ماهي بالضبط صفة تلك القوة المبدعة . متى حدث هذا الاكتشاف ؟ مثلا ، متى اكتشفتم فكرة برمجة أو فكرة العصاب التاريخي ؟
ـ سارتر . لا أعرف . لقد جاء ذلك في سياق تأملاتي ، لكني لا أستطيع قول متى تجلى ذلك . تأتي فكرة ما هكذا ؛ تكون لدى المرء أولاً فكرة غامضة غير مؤكدة تماما ، ثم يحاول تحديدها ، ابتكار وظائف ؛ يتم التوصل إذن إلى وعي لم يكن أبدا وعيا ـ شعورا محضا كما كان في البداية . ثمة شيء في بادئ الأمر لا أسميه معرفة بل حدسا ، ثم إن المعرفة تكون مختلفة جذريا بمعنى ما عما يقدمه هذا الحدس الأولي . إنه يحدد أشياء لم تكن محددة ، ويطور منها أشياء أخرى ، ويحجب منها بعض الأشياء التي كانت أكثر جلاء في البداية . يحتفظ بعلاقة معينة مع الحدس الأولي ، لكن ذلك شيئ آخر .
ـ ريبالكا . غالبا ما اعتبركم الأمريكيون فيلسوفا مناهضا للطبيعة .
ـ سارتر . أنا فيلسوف مناهض للطبيعة ، ولكن وفق مستويات معينة فقط . أعرف أنه في البداية ثمة طبيعة أثرت مباشرة في الإنسان . مما لاشك فيه أن الإنسان البدائي كانت له علاقات واقعية مع الطبيعة ، مثل إنسان الغاب Orangs – outans) ( أو النمل . توجد هذه العلاقة دائما ، في الوقت الراهن ، لكنها تُجوزت بواسطة علاقات أخرى لم تعد علاقات مادية ، أو على الأقل ، علاقات لم تعد تلعب الطبيعة فيها الدور نفسه .
ـ ريبالكا . الندرة ، هذا المفهوم الذي طورتموه في نقد العقل الجدلي ، هل هي مرتبطة بالرغبة أم بالحاجة ؟
ـ سارتر . فتارة ترتبط بالحاجة ، وتارة أخرى بالرغبة . فبالنظر إلى أن أي سبب أيا يكن يجعل من المرء في حاجة إلى جوهر أو موضوع معين ، هذا الموضوع لم يتم تقديمه بالقدر المطلوب ، هذه هي الندرة .
ـ ريبالكا . ألا تنزع الندرة إلى أن تصبح مقولة أنطولوجية أكثر من كونها مقولة تاريخية ؟ فقد قال أوسكار وايلد على سبيل المثال : " أينما كان هنالك طلب ، لا يوجد عرض . "
ـ سارتر . إنه ليس مفهوما أونطولوجيا ، لكنه ليس أيضا ، مجرد مفهوم إنساني أو إثبات تجريبي . إن له منزع أونطولوجي ، لكنه ليس أنطولوجيا ، لأن الناس الذين نعتبرهم في العالم، فليس هم الوحيدون الذي تنبغي دراستهم أونطولوجيا ، أو على مستوى أفكار تجريدية خاصة ، مثلما تقوم بفعل ذلك الفلسفات أو أونطولوجيا خاصة . لابد من دراستهم بشكل تجريبي ، كما هم . ويلاحظ على هذا المستوى ، أن شخصا ما يكون محاطا بالندرة ما إذا كانت هذه اللعبة التي لاتوجد تحت تصرف الطفل حينما يرغب فيها أو منتوجات التغذية التي تطالب بها جماعة بشرية والتي لا يوجد في حوزتها من ذلك إلا حصة واحدة . وعلى أي حال ، ثمة فرق بين الطلب والعرض ، الذي يصدر عن الطريقة التي خلق بها الإنسان ، الذي يصدر عما يطالب به الإنسان إلى الآن في حين أن العرض محدود .
ـ ريبالكا . يُلاحظ بوضوح حاليا أن فكرة الوفرة التي يمكن رؤيتها في الولايات المتحدة هي فكرة مخادعة .
ـ سارتر . حتما . تماما . يعيش المرء في عالم ندرة ويمكنه من حين لآخر توهمه العثور على الوفرة بتغيير طبيعة رغبته . فعدم وجود ما ينبغي توفره في منطقة ما ، يتم نقل الرغبة إلى رغبة أخرى . وبالرغم من ذلك ، فإن الندرة توجد في أصل هذا المفهوم .
ـ بوتشياني . ومع ذلك فإني لطالما رأيت الندرة في نقد العقل الجدلي كنتيجة لاضطهاد اجتماعي .
ـ سارتر . قد يكون ذلك ، إنه على الدوام عمل اضطهاد اجتماعي . على أنه ثمة ندرة تتأتى فقط من علاقة طلب الإنسان ـ طلب حر ، غير خاضع ، إطلاقا لطلب آخر ـ إلى الكمية المعطاة .
ـ بوتشياني . فإذا ما كان ثمة غياب الهدف ، هل يتعلق الأمر أيضا بالندرة ؟
ـ سارتر . بطبيعة الحال ، أصلا هذه هي الندرة . الرغبة ، الإرادة ، ضرورة استعمال موضوع مماثل كوسيلة تخلق طلبا غير محدد أحيانا ، في حين أن الموضوع المطلوب ذو كمية محددة في رقعة أرضية أو في العالم : إن الندرة إذن ، بالنسبة لي ، تعتبر ظاهرة وجود ، ظاهرة بشرية ، وبشكل طبيعي ، إن أعظم ندرة هي دائما تلك المشيدة على الاضطهاد الاجتماعي . لكن الندرة تكون هي الأصل ؛ إننا نخلق في مجال ندرة حولنا .
ـ بوتشياني . للانتقال إلى قضية أخرى ، يعتبر الأستاذ فرونديزي Frondizi) ( أن عملك الأخلاقي كان سلبيا وقد انتهى بكم المطاف إلى السقوط في أخلاق اللامبالاة .
ـ سارتر . لم تكن لدي أبدا أخلاق لامبالاة . إنما ما بجعل الأخلاق صعبة ، ليس هذا ، إنها القضايا الملموسة والسياسية ، فهذا ، مثلا ، ما ينبغي تنظيمه . كما سبق لي أن لاحظت ذلك في كتاب القديس جونيه Saint Genet) ( أعتقد في الوقت الحالي أننا لسنا في حالة مماثلة ، ليس المجتمع والمعارف متماثلين ، أن نستطيع إعادة بناء أخلاق من نفس نوع القيمة كتلك التي تجاوزناها . لايمكننا ، مثلا ، ابتكار أخلاق على المستوى الكانطي التي تكون لها نفس قيمة الأخلاق الكانطية . لأن المقولات الأخلاقية تتوقف بشكل أساسي على بنيات المجتمع الذي نعيش فيه ، وأن تلك البنيات ليست في ذات الوقت شديدة البساطة ولا معقدة جدا كي تستطيع ابتكار مفاهيم أخلاقية . إننا نعيش في فترة بلا أخلاق ، أو ، إذا شئنا القول ، ثمة أخلاق ، لكنها أصبحت باطلة أو أخلاق استثنائية جدا .
ـ ريبالكا . هل الأخلاق مستحيلة ؟
ـ سارتر . نعم . لم تكن كذلك دائما ، لكنها مستحيلة في الوقت الراهن . سوف لن تكون مستحيلة دائما ، إنها مستحيلة حاليا . ومع ذلك فإني أعتقد أنه لابد للإنسان من أخلاق .
ـ بوتشياني . هل ثمة انسجام بين فلسفتكم وفلسفة ميرلو بونتي Merlaeau Ponty) ( ، خصوصا أن هذا الأخير طور مفهوما ل" بين ـ عالم" ؟
ـ سارتر . أعتقد أنه ثمة تنافر أساسي ، لأنه دائما وراء تحليلات ميرلو بونتي الإحالة على نمط من الودجود الذي استدعى من أجله هايديغر إلى جانبه وهو ليس شيئا أعتبره مشروعا إطلاقا . إن كل الأنطولوجيا التي تستخلص من فلسفة ميرلو بونتي هي مختلفة عن أنطولوجيتي : إنها أكثر من مجرد استمرارية . أنا لست استمراريا كثيرا : إن الشيء في ذاته ، والشيء من أجل ذاته والأشكال الوسيطة التي تم الحديث بخصوصها في وقت سابق ، ذلك يكفيني . ثمة لدى ميرلو بونتي علاقة بالوجود أشد اختلافا ، علاقة توجد في خلفية الذات عينها . لقد تكلمت عن هذا في كتاب ميرلو بونتي حيا .
ـ ريبالكا . إن مثال اليوم دليل على ذلك ، أعقد أنكم بشكل عام تعلمتم النزر القليل من الآخرين حول عملكم .
ـ سارتر . حتى ذلك الحين النزر القليل . لطالما قيل لي ، لما كنت في السابعة عشر من عمري أو الثامنة عشر ، لقد تعلمت الكثير بواسطة النقاد . لذلك ، لقد أتيت في شأن ذلك بأفكار جيدة ، أفكار منتظمة ، حكيمة . كنت أقرأ النقاد قائلا : " ما الذي سيخبروني به ؟ " ، لكنهم لم يخبرونني بأي شيء .
ـ ريبالكا . أليس ثمة مواجهة مع أفكار أخرى ، قادتكم إلى إعادة النظر في البعض من أفكاركم ؟
ـ سارتر . لم يتم إخباري أبدا على مراجعة أفكاري . قد أكون فيلسوفا عنيدا ! فقد قرأت ، ورأيت بالفعل أنه كان ثمة أشياء ينبغي قولها ، من ثم فقد واصلت فعل ما دأبت على فعله .
ـ ريبالكا . لذلك فقد تطور فكركم وفقا لبرنامج مستقل نسبيا ؟
ـ سارتر . مقارنة بأفكار النقاد الكَتَبة ، نعم . فإذا ما لاحظ بعض الأصدقاء شيئا ، فإن ذلك يكون بالغ الأهمية . من بين خيرة النقاد الذين التقيتهم هم من قالوا ما كنت أرغب في قوله .
ـ ريبالكا . ألا يثير سخطكم اختزال فكركم في غالب الأحيان ؟
ـ سارتر . لا . إنهم يكتبون ذلك ، وهذا كل ما في الأمر .
ـ ريبالكا . أنتم نفسكم قلتم أنه ينبغي وجود وسطاء من أجل " فلوبير " . كيف تواجهون نقدا ممكنا لعملكم ؟
ـ سارتر . لابد من قراءته من أجل البداية . معظم النقاد يقفون في منتصف الطريق .
ـ ريبالكا . قراءة كاملة ؟
ـ سارتر . صراحةً ، نعم . لا أطلب ذلك من القارئ بشكل عام ، بل أطلبه من النقاد المتخصصين : أن يأخذوا وقتا كافيا . ثم لابد من عرض العمل ، رؤية ما إذا كانت وجهة نظر ما تشمل الحياة برمتها أو تتغير في اتجاه الوسط ، محاولة تفسير التطورات ، القطائع ، محاولة الاهتداء إلى اختياري الأصلي ، الشيء الذي يعتبر غاية في الصعوبة : ماذا اخترت أن أكون وأنا أكتب عملا كهذا ، لماذا اخترت الكتابة ؟
ـ ريبالكا . يجازف الناقد بألاّ يحل محلكم بقدرما ترغبون وبالتالي ألاّ يكون عادلا تماما معكم .
ـ سارتر . مع ذلك ، أن يقوم بالقليل مما فعلت حول فلوبير ؛ أنا لا أدعي أنني كنت عادلا تماما مع هذا الأخير ، لكني أتمنى العثور على بعض الاتجاهات ، بعض الثيمات .
ـ ريبالكا . إذن فأنتم يلذ لكم أن يُقام عمل بخصوصكم مثل العمل الذي قمتم به حول فلوبير ؟
ـ سارتر . نعم ، هذا كل شيء . وهذا هو معنى النقد كما يبدو لي . ثمة كتب ، قام إنسان بكتابتها . ما معنى هذا ؟ من يكون هذا الإنسان ، ماهي تلك الكتب ؟ تبدو لي وجهة النظر الاستثيقية متغيرة جدا إلى درجة أن هذا الجانب هو الذي يبدو لي مثيرا للاهتمام .
ـ ريبالكا . هل تولون أهمية كبيرة للتوثيق ؟
ـ سارتر . طبعا . باستطاعتي قول ذلك لكم ، لأني أعرف ما الذي يتطلبه الأمر بالنسبة لفلوبير .
ـ بوتشياني . ومع ذلك ، فإن ثمة القليل نسبيا من التوثيق بخصوصكم . فلو تمت مقارنة ما قمتم بوضعه في كتاب الكلمات مع ما كان معروفا عن طفولة فلوبير ، يوجد اختلاف كبير .
ـ سارتر . ذلك يرتهن بالفترة الحالية . في الوقت الراهن ، يتم تقديم النزر القليل جدا من التفاصيل حول الأشخاص ، لا يُعرف عنهم الشيء الكثير إلا في القرن الأخير ، تحديدا ، لأن قضايا الجنسانية ، قضايا الحياة ، أصبحت فردية ثم تلاشت . فما يُعرف مثلا ، عن سولجنتسين Soljenitsyne) ( ، هي أشياء تخص في النهاية روسيا بكاملها . من المعروف أنه كان منفيا في معسكر اعتقال ؛ وعلى الفور تم التفكير ، حول المعسكرات ، يتذكر المرء ما هي ؟ إلخ . لكن فيما يخص معرفة إن كان يحب القهوة أو ما هي جنسانيته ، فإن ذلك يظل سرا خفيا . سوف يكون بالإمكان ، وفقا لكتبه تحديد بعض العناصر ، على أنه لابد أن يقوم بذلك شخص ما . كل هذا ليس مخفيا ، فعلا . أعتقد أن تذوقي للقهوة وجنسانيتي موجودان في كتبي . فما على المرء إلا العمل على اكتشافهما ، وعلى النقاد فعل ذلك . بعبارة أخرى ، على هؤلاء ، بحسب الكتب ، ولا شيء إلا بحسب الكتب ، بالإضافة إلى تبادل الرسائل ، تحديدا الشخص الذي كتب تلك الكتب ، إعادة تعريف التيارات ، إعادة تشييد المذهب الذي يرتبط به الكاتب ...
ـ ريبالكا . هل يوجد في حالتكم العديد من المراسلات ؟
ـ سارتر . لن يكون هناك أي شيء ، أو أقل من ذلك .
ـ ريبالكا . فما ترغبون فيه إذن هو سيرة حياة ؟
ـ سارتر . نعم ، نوعا من سيرة حياة لا يمكن كتابتها إلا من خلال وثائق . سيرة حياة أدبية ، بمعنى الإنسان بأذواقه ، مبادئه ، جماليته الأدبية ... ثم اكتشاف كل هذا لديه ، وفقا لكتبه وبداخله . أعتقد أن هذا هو العمل الذي ينبغي على النقد القيام به .
ـ ريبالكا . ومن المدهش أنه لا يوجد أي مقال من المقالات ، التي توجد بحوزتنا ، لا يتحدث عن تدريس الفلسفة ، بالطريقة التي يمكن من خلالها تعليم فكركم . فكيف تعلمون الفلسفة ؟
ـ سارتر . كنت أقوم بدرس أستاذيّ ، درس من أعلى المنبر ، كما يُقال ، على أنني كنت أتوقف طوال الوقت ، من أجل طرح اسئلة والإجابة على أسئلة طُرحت علي . كنت أعتقد أن التعليم لا يكمن في جعل سيد ما يعلم أمام شباب ، بل أن يناقش معهم من خلال قضايا ملموسة . فحينما كانوا يقولون : " هذا شخص أبله . يقول هذا ، لكني عشت شيئا مختلفا " ، كان ينبغي أن نشرح لهم أنه يمكن إدراك الشيء بشكل مغاير .
ـ ريبالكا . هل نجحتم في إقامة بداية للمعاملة بالمثل ، لأنه لا وجود لمعاملة بالمثل كاملة ؟
ـ سارتر . إنه تعامل بالمثل قوي جدا . لابد من القول إنني كنت أقوم بفعل شيء آخر مع طلبتي ، حتىّ الملاكمة ، ثم إن هذا ، يقدم مساعدة . فقد أمضيت وقتا طويلا في استئصال الأفكار التي كانت تستقر في أذهانهم.
ـ ريبالكا . هذا المنهج في التعليم ألم يكن في ذلك العهد مخزيا إلى حد ما؟
ـ سارتر . بالطبع . كانت لديّ ردود أفعال زملاء ، المراقب العام، من لدن كل هؤلاء الأشخاص . علاوة على ذلك ، فقد كنت أترك لطلبتي حرية التدخين داخل قاعة الدرس ، وهو أمر كان مستاء للغاية .
ـ ريبالكا . كيف ترون الفلسفة بوصفها تعليما في الوقت الراهن ؟
ـ سارتر . كما تعلمون ، فإنه يتم تهميش الفلسفة في المرحلة الثانوية .
ـ ريبالكا . أنتم تعلمون أنه في الولايات المتحدة لا يتم تدريس الفلسفة في المرحلة الثانوية ، بل في الجامعة فقط .
ـ سارتر . لكن ، في تصوري ، كان يجب القيام بالعكس . أظن ، مثلما اقترح أحدهم ذلك ، أنه يمكن تدريس الفلسفة إلى حدود السنة الأولى ، إلى حد ما ، للسماح بفهم المؤلفين الذين يتم تدريسهم ، ثلاث ساعات في الأسبوع ، على سبيل المثال .
إن الفلسفة بالنسبة لي ، هي كل شيء . مثلما يعيش المرء . يعيش بالفلسفة . إني أعيش باعتباري فيلسوفا ، هذا لا يعني أني أعيش كفيلسوف جيد ، لكن إدراكاتي الفلسفية ، فحتى عندما أشاهد هذا المصباح أو حينما أشاهدكم . وبالتالي فإنها طريقة للعيش ، وأجد أنه ينبغي دراستها في أقرب وقت ممكن ، بدون كلمات كبيرة .
ــ
مصدر النص : المجلة الفرنسية الأدبية magazine Littéraire ) ( عدد رقم 384 فبراير 2000 . عدد خصص ملفا لجان بول سارتر تحت عنوان : من أجل سارتر . فلسفة بواسطة القطائع : حوار مع برنار هنري ليفي ، وحياة من أجل الفلسفة : حوار مع جان بول سارتر .
|
التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي
.. هل تخضع أوروبا للإملاءات الألمانية في ملف اللجوء؟| الأخبار
.. جرجس لشبكتنا عن إرسال -ثاد- لإسرائيل: إدارة بايدن تتوقع الأس
.. شاهد.. كوريا الشمالية تنسف طريقين رئيسيين يربطانها بجارتها ا
.. جيش الاحتلال الإسرائيلي يحاصر عشرات العائلات في شمال قطاع غز
.. لماذا فشلت إسرائيل برصد مسيرة حزب الله؟