الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الرائحة

مهاد حيدر

2021 / 8 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


لعلّ الحديث عن فلسفة الرائحة من أندر المواضيع التي قد يفكر البعض بالتطرق إليها، وقد كانت الفكرة قيد الاختمار في رأسي قبل أن أقرأ مقال عن كتاب صدر حديثا تحت عنوان “ Smellosophy:What the Nose Tells the Mind ”
"فلسفة الرائحة: ما يقوله للأنف للدماغ" تأليف آن صوفي بارويتش، تتحدث فيه عن سبب اهتمام البشر بالإدراك البصري والسمعي بشكل أكبر من الاهتمام بالإدراك الشمّي مفصّلة في دراستها الحديث عن هذه الحاسّة. لم أقرأ الكتاب بعد لتوفره باللغة الانكليزية فقط وجهلي بهذه الأخيرة، ولكن جراء الملاحظة سابقا كنت اكتشفت الغياب الفعلي لحاستي الشم واللمس سأتحدث عنها لاحقا بشكل مفصّل، أو كما اعتبر فرويد العلاقة الطرديّة بين تراجع حاسة الشم ونمو الحضارة، بمعنى كيف أن الإنسان بانتصابه عاموديّا بدأ بالتخلص من تبعيته لحاسة الشّم، ليتميّز عن مملكة الحيوان. لذا فنحن الآن ندفع ثمن الحضارة بإقصاء أنوفنا وجلودنا، بإقصاء للدالات الأموميّة اذا ما صح التعبير، مقابل الدالات الصوريّة التي سعت المجتمعات البطريركيّة على إبراز هيمنتها. هذا فإن عمليّة بتر الأنف حوّلت المجال الطبيعي للتواصل عن طريق الشّم إلى وضع سنن للروائح الانسانيّة اعتمادا على المعرفة الاجتماعية وليس المعرفة المعيشية للشّم، وذلك من خلال مراقبة الروائح باسم الأيديولوجيا المانويّة manichéene للجيّد والرديء، منذ الأفلاطونيّة القديمة الى الديانات اليهوديّة والمسيحيّة، وذلك عبر تصنيف الجيد بالاصل النباتي ( الخشب، الورود...) والرديء ذو الأصل الحيواني أو الجسدي، من هنا رفض الروائح الأصلية للإنسان باسم التصنيف الثقافي للها، برفض الروائح الافرازية، كالعرق وغيره أي طرد للطبيعة البشرية الإنسانية، أو كما اعتبرت المنظّرة النسويّة الفرنسية جوليا كريستيفا في كتابها Abjection: Powers of Horror، أن المقزّز يلفت النظر إلى عدم ثبات الهوية، وتذكّر الذات بانّها لا يمكن أن تفلت من الدوافع البيولوجية الأساسيّة التي لا سلطان عليها. لذا تمّ اللجوء لحجبها بواسطة قناع ثقافي شمّي أي من خلال العطور الجميلة. والتعاطي مع الأنف كعضو شمّي أخذ منحى العناصر العضويّة المحظورة، فالأمخطة على سبيل المثال منفرة أكثر من الافرازات البرازيّة على اعتبار أنّه ليس لدينا مراحيض مخصصة لها، فيتم التعامل مع الأنف على أنه بديل قضيبي بالرغم من الأيديولوجيا المعاصرة للتحرر الجنسي، لذا فإن التواصل الشمي| الأنفي مخصيّ، حتى في الأمثلة الشعبية التي تكون على نسق احتقار الأنف واعتباره أداة للحشريّة أو التدخّل فيما لا يعنينا. ولا يفوتنا الحديث عن إزالة الشعر عن الجسد، في مختلف المناطق سواء الحساسة وغيرها الذي يكثر الحديث عن دلالته الجماليّة لدى المرأة، في حين هو تمييع لحقيقة جسدها الجنساني أوّلًا وأخذه نحو المنحى اللاجنساني بالقضاء على المثيرات الشميّة التي يفرزها الجسد في حالة الرغبة، أو نوع من إعادتها للمرحلة الطفوليّة التي يعرف الجسد فيها بالحالة الحياديّة أو عدم الفعاليّة الجنسية. هذا وإن الرائحة لا تشكّل فقط هوية الفرد بل تمتد لخارج الذات لتصبح مسار ارتباط بالآخر، أو بتعبير مختلف كل فرد منغلق داخل فقاعته الشميّة التي لا يحسّ هو نفسه بها، بل الآخرين فهم الذين يشمونها، وعملية محوها تعني الصمت الشمي أو الكبت التي تؤثر على علاقتنا بالآخر. ولعلّ رواية العطر من أكثر الروايات التي أظهرت مدى ارتباط هوية الطفل برائحة أمّه أوّلا، وبالمجتمع الذي نشأ فيه، فمن لا أم له لا رائحة ولا هويّة له، وكأن رائحة الأم حتى التي تخلفها على جسد الطفل تحلّ رمزيّا محلّ حضورها أيضا. أما بالنسبة للأطفال فالوضع مختلف فليس ثمة روائح كريهة بل مجرد روائح، يتحول لانكارها تحت ضغط التربية ونظام القيم السائد، بل ربما يستخدم المصطلحات التي تعبر عن بعضها كالضراط بدائل لنسف المحظور سرعان ما يلتف حولها ويستبطنها. والحديث في هذا المجال يطول، لا أذكر سوى حديث سريع أجريته مع صديق لي أظهر امتعاضه من رائحة الأفراد المتواجدين ببعض الأماكن الشعبية، لأخبره أنني أملك أنف كلب أرى من خلاله الأشياء بجماليتها، سواء كانت مقززة أو لا، فرائحة العرق كمثال الفائحة من ثوب بائع الخضار لا تعني شيئا سوى أنّه وقف طويلًا في الشمس والرطوبة، وفي بعض الحالات ضعف إمكانية الاستحمام لعدم توفر الماء دائما لدى الطبقات الفقيرة وهي جميلة نوعًا ما مقابل رائحة البرجوازي المزيّفة. وأختم أنّه أحيانا من الناحية الجنسيّة إذا أردت إدراك مدى ارتباطك بشريكك الجنسي ليس عليك سوى استنشاق جلده لتبني على أساسه العلاقة وذلك ليس لأبعادها الغرائزية فقط بل النفسيّة أيضا.

المراجع:
- جامبل، سارة، المعجم النقدي للنسوية وما بعدها، ت: أحمد الشامي، المشروع القومي للترجمة.
- لو بروتون، دافيد، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، ت: محمد صاصيلا، المؤسسة الجامعية، بيروت.
- توسان، برنار، ما هي السيميولوجيا، ت: محمد نظيف، أفريقيا الشرق.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا تستحمي يا جوزفين
ماجدة منصور ( 2021 / 8 / 13 - 02:51 )
كان نابليون بونابرت في أحد فتوحاته و قد إشتاق كثيرا لجوزفين حبيبته فأرسل لها رسالة تقول في فحواها: يا حبيبتي جوزفين...لا تستحمي...فإني قادم إليك في نهاية الشهر القادم0
للرائحة ذكرياتها أيضا
شكرا

اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث