الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين فكي القلق

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 8 / 14
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٦٣ - الإنسان بين فكي القلق

. هايجينوس Hyginus، هو نحوي وشاعر لاتيني، ولد سنة ٦٧ قبل الميلاد في الإسكندرية والبعض يقول أنه ولد في إسبانيا، كان في البداية عبدًا ليوليوس قيصر، وحرره أغسطس Augustus فيما بعد، وعهد إليه برعاية مكتبة القصر Palatine library. علق على أعمال الشاعر الإيطالي الكبير فيرجيل Virgil وكان مرتبطًا بأوفيد، الذي اختلف معه لاحقًا. كتب عدة أعمال تتعلق بالأساطير اليونانية واللاتينية، وتوفى سنة ١٧ بعد الميلاد في حالة فقر مدقع. يُنسب إليه هذه الأسطورة اليونانية المتعلقة بأصل الإنسان والموجودة في كتابه Fabulae. يخبرنا أنه في بداية صناعة الإنسان، نشأ شجار بين الأرض la Terre - Gaia، والتي قدمت قطعة من نفسها، وبين القلق le Souci، الذي عجن هذه القطعة من الأرض وصنع منها نموذجًا في شكل بشري، وجوبيتر Jupiter أو المشتري، الذي نفخ فيه الروح وأصبح الطين بشرا : حيث طالب كل منهم بإعطاء اسمه الخاص إلى الكائن الجديد وأن يكون تحت إمرته وسلطته. تم التوسط لفك الشجار من قبل زحل Saturne، الذي قرر حلا يرضي الجميع، أنه عند وفاة هذا الكائن الجديد، سيحصل كوكب المشتري على روحه، أما جسده فسيعود إلى الأرض، ولكن خلال حياته كلها سيكون "القلق" هو الذي سيمتلكه جسدا وروحا. أما إسمه فسيسمى بالإنسان Homme لأنه صنع من الـ Humus وهو الدبال بالعربية أو الطبقة العليا والسطحية من الأرض.
يورد مارتن هايدجر هذه الحكاية القديمة في كتابه الوجود والزمان، معتبرا أنها حكاية رمزية ومبسطة للتعبير عن بعض الأطروحات المعقدة التي يطورها في كتابه الكبير. النقطة الأساسية في نظره والتي تهمه في تحليل الوضع البشري، هي قرار "زحل" بجعل مصير هذا الكائن الجديد في يد "القلق"، وأنه سيشعر بالقلق طوال حياته. يبدو مثل هذا التأكيد، في أول وهلة مبالغًا فيه : ألسنا، في حياتنا اليومية قلقين أحيانًا وأحيانًا غير مبالين، نقلق ونخاف في بعض الأحيان وفي بعض الظروف، ولكن نادرا ما يكون ذلك بصورة دائمة. ولكن ربما يكون هذا هو بالضبط ما يكون عليه سيطرة وإستحواد القلق على الإنسان من خلال لا مبالاة الإنسان والتهور البشري الذي يجعل القلق حاضرا على الدوام في مكان ما متربصا بنا في كل ركن وفي كل لحظة. وبالتالي الإنسان يختلف تمامًا عن الكائنات التي لا تعرف معنى القلق وبالتالي لا يمكنها الشعور بغياب أو بحضور هذه الآفة والعاطفية. ما يقرره زحل، وفقًا للأسطورة، هو أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش بدون أن تظهر له حياته كمهمة يجب أن يتحمل أو لا يتحمل مسؤوليتها : ومن هنا فإن تناوب القلق والتهور واللامبالاة insouciance هو الذي يشكل "قلقًا" بالمعنى الواسع. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يجب أن يهتم بما هو عليه، أي أن يقلق على مصيره، وهذه بالضبط هي أطروحة هايدجر وإهتمامه الأساسي.
إذا كانت خاصية الإنسان الأساسية لا تتمثل في "ما هو عليه"، ولكن في الاهتمام بوجوب أن يكون "ما هو عليه"، فإن كلمتي "الإنسان" و الإنساني" تتعرضان لخطر تضليلنا، لأن هذه التعابير تستحضر "طبيعة بشرية مكتسبة" قبليا. من وجهة النظر هذه ، فإن الجانب الآخر الرائع للأسطورة هو غموض وإلتباس الحكم الصادر عن زحل. من ناحية ، يتفق مع إله "القلق" ضد جوبيتر والأرض : إن القلق هو الذي يمتلك الإنسان خلال حياته، من ناحية أخرى، لا يعطيه حق إسناد الاسم إليه : يُدعى الكائن الجديد "الإنسان - homme" لأنه مصنوع من الأرض "الدبال - humus". وهكذا فإن اسم "الإنسان" يشير إلى المادة التي هو مصنوع منها. ولكن إذا كان القلق هو الذي يمتلك الإنسان، فمنطقيا، لا ينبغي أن تكون السمة المميزة له هي ما صنع منه، ولكن ما يدعوه ليقرر شخصيًا ماهيته بنفسه. هذه المفارقة تشير إلى أن الإنسان، على عكس كل الأشياء والكائنات التي تقتصر على كونها ما هي عليه، يمكن أن يقلق بشأن كينونته، وعليه يجب أن يكون واضحًا منذ البداية معنى الكينونة ومعنى "أن يكون - être". الإنسان إذا، هو المكان الذي تنكشف فيه حقيقة الكينونة: هذا ما يسميه هايدجر بالدازاين Dasein الكلمة التي ركبها من الألمانية Da وتعني هناك there، وكلمة Sein أي الكائن والتي يمكن ترجمتها بالواقع الإنساني أو بالإنسان.
المشروع العام لكتاب هيدغر الكينونة والزمان Etre et Temps هو تفصيل وتحليل مسألة معنى "الكينونة - être"، ومسائلة الكائن من أجل محاولة الإجابة على مثل هذا التساؤل، الذي وقع في النسيان حسب رأيه، منذ الإرهاصات الأولى غير المُرضية من قبل المفكرين اليونانيين. إنها إذن مسألة استجواب هذا الكائن المميز والذي يسميه الدازاين le Dasein، في صميم كينونته. الأنطولوجيا الأساسية التي يهدف إليها هايدجر هي تحليل وجودي للدازاين والذي يجب أن يسمح بالوصول إلى مفهوم معين لكينونة الكائن. وهكذا يتم توضيح الوجود في العالم باعتباره وجوديًا أوليا existential primordial، والذي من خلاله يكون الدازاين دائمًا في علاقة أولية بعالم قُذف فيه، إذا جاز التعبير، وبالتالي في حالة قلق مزمن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تهدد إسرائيل بـ-خطة رد صارمة-.. هذا ما سيفعله الحرس ال


.. مشاهد جديدة توثق اللحظات الأولى بعد هجوم بئر السبع




.. كاميرا أمنية توثق تحرك منفذ الهجوم في محطة بئر السبع


.. هل مفهوم قرار 1701 متوافق بين حزب الله وميقاتي؟




.. في حملة -من غزة-.. نقلنا قصصكم وعشنا آلامكم وما زلنا نرافقكم