الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هايدغر والسقوط في تفاهة العالم

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 8 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٦٤ - هايدغر وفكرة السقوط

ويبدأ هايدغر بتحليل ظاهرة ما يسميه التدهور أو السقوط أو الإنحلال déchéance، وهي "نمط وجودي للكينونة - في العالم" حيث يتخلى الدازاين عن هويته وينحرف عن نفسه ويسقط في كمين "العالم" المقلق. مع ظاهرة التدهور، يتم اتخاذ الخطوة الأولى نحو فهم متكامل للكينونة وأبعادها، وبالتالي فإن الأرضية مهيأة لتحليل فينومينولوجي للقلق، وهو تحليل نجده في §40 من كتاب الكينونة والزمان. القلق، هذه الظاهرة العاطفية أو الإحساسية الأساسية أو الوجدانية وهي سمة وجودية مميزة، تأتي لتكسر حركة الهروب المتمثلة في السقوط والتدهور. وبواسطة القلق يواجه الدازاين الشيء الذي يحاول أن يتفاداه ويهرب منه في نظام الحياة اليومية العادية. وبهذا المعنى، فإن القلق يسمح بالوعي الكامل، ويضمن الوصول إلى بنية القلق souci، أي إلى كامل الدازاين. القلق هو إحساس وشعور عاطفي يلعب دورًا حاسمًا في المشروع العام لكتاب الكينونة والزمان : بقدر ما يمتلك القلق، القدرة على الإلمام بشمولية الكينونة، وعلى أساس تجلياته يمكن مسائلة الدازاين، بهدف الوصول إلى قلب ظاهرة الكينونة نفسها. ويبدو أنه، باعتراف هايدغر نفسه، لم تنجح هذه الخطوة أو المشروع عام 1927 في الكينونة والزمان، ولكنه واصل تحليل القلق في محاولة عام 1929، في محاضرة "ما هي الميتافيزيقيا ؟ Qu est-ce que la métaphysique ?" حيث يعين بالفعل للقلق دورًا مهما في الكشف عن كينونة الكائن، بقدر ما يتم استيعاب العدم أو اللاشيء المرتبط به.
السقوط أو ألأفول أو الإنحلال La déchéance هي الحركة التي تظهر كتعديل أو تصحيح لعدم الأصالة فيما يخص الدازاين وعلاقته بالعالم، وتنغرز هذه الحركة في الدازاين وتنخره من الداخل في صميميته كتنظيم للحياة الروتينية في نظام يومي ضحل وممل. كالثرثرة، والأحاديث اليومية عن الطقس والأكل والتسوق وأسعار آخر الأدوات المنزلية والحيوانات الأليفة .. إلخ. كخطاب يومي، هو فهم يتمسك بـ "الإشاعات" أو" يقولون .."، وعموما بالجو العام المتعلق بالتفاهات اليومية، والتي تشتت وتدير انتباهنا عن الغرابة الأساسية لـ "الكائن - في العالم - l être-au-monde" ويغرقنا في التفاهات اليومية المزرية. هذا التراجع كمفهوم وكممارسة يومية، إنه يمثل عدم الاستقرار والتشتت والتذبذب، لدرجة أنه يكاد يشبه عملية الاقتلاع الجذري للدازاين من أصوله الأنطولوجية. السقوط، كموقف ملتبس، كمراوغة وكعاطفة يومية متكررة، فإنه يخفي المعنى الحقيقي والأصلي authentique للكائن الذي قُذف به في هذا العالم. إن الانحدار والسقوط ليس ظاهرة لاهوتية، دينية أو أخلاقية، على الرغم مما يمكن أن يوحي به هذا التعبير من دلالات دينية كفكرة الخطيئة مثلا والطرد من الجنة، بل هو الحركة التي يدير بها الدازاين ظهره لنفسه، ويتنكر لإنيته ipséité، حيث يتخلي عن نفسه ويستسلم لـ "العالم" المهتريء والذي هو أقل جودة من بنطلون خياط بيكيت الذي ذكرناه سابقا. وبهذا المعنى، السقوط والذي يكاد يقترب هنا من فكرة الخراب، يبتعد الدازاين عن أصالته، عن كيانه، بالخضوع لإغراء "العالم" المألوف والمطمئن : يستسلم للتفاهات اليومية الجماعية، ذلك إن الانحدار والإنحلال مغر وسهل، ومطمئِن .. ورغم ذلك فإن ظاهرة السقوط وتغرب الدازاين عن أصله هي "الدليل الأساسي الذي يدعم وجودية الكينونة"، وذلك لأن الدازاين لديه علاقة أنطولوجية حميمة مع نفسه، ولذلك يمكنه أن ينفي نفسه ويبتعد عن كينونته.
بعد هذا التأكيد التركيبي المتعلق بملحمة فرار الدازاين وسقوطه في جحيم عدم الأصالة والتفاهة العادية للحياة الروتينية المتكررة، بدأ هايدجر في نبش فكرة القلق. العلاقة بين ألقلق والسقوط والخراب اللاحق بالدازاين غير مفسرة هنا، لكنها مع ذلك واضحة : القلق يكشف ما يهرب منه الإنسان في مرحلة السقوط، لأن الشيء الذي أمامه يصاب الإنسان بالقلق، هو بذاته الشيء الذي يهرب منه ويدير له ظهره. يواجه القلق ويكشف عما تحاول أن تخفيه الثرثرة والفضول والغموض والإلتباس والمراوغة. القلق يعرضنا بشكل جذري ويضعنا وجها لوجه أمام ما هو محجوب ومخفي في أغلب الأحيان في حياتنا اليومية المشغولة. وهكذا يكشف الإنحلال عدم أصالته الأصلية وزيفه الحقيقي، ويظهره على أنه "اللاأصلية - inauthenticité". وهكذا بعد المرور بتجربة القلق، يظهر كل من الأصالة وعدم الأصالة كاحتمالاتي وكإمكانياتي الإنسانية. لذلك ، فإن "الوجود في العالم على هذا النحو" هو ما يواجهه القلق. نحن نتعامل هنا مع اللحظة الأولى للوصف الفينومينولوجي للقلق، أي تحليل ماهية ضرورة القلق، والذي يتوافق مع ما يمكن إعتباره القطب "الموضوعي" لهذه العاطفة الرمزية المميزة. أما القطب "الذاتي"، "أكون قلقا" أي ممارسة تجربة القلق عمليا في جسد وأحاسيس الفرد، فذلك ما يشكل بقية التحليل. أن ما قبل القلق أو الشيء الذي يواجه القلق هو الكينونة في العالم "على هذا النحو أو كما هي"، يعني أنه ليس مجرد مسألة أن أكون محاصرًا في العالم أضحي من خلاله بما يمكنني من قول "هذا لي" من أجل البيئة المحيطة Umwelt التي تشغلني، لكنها مسألة تتعلق بظاهرة أكثر أصالة، وهي العري المزيف لوقائعية factice الكائن في العالم، وكشف أكثر آثارهذا التزييف تحديدًا وأهمية : وهوالكائن في العالم كما هو عليه، ككائن - في العالم ليموت فيه ويندثر، وهو ما يشير ليس فقط إلى "العالم"، ولا حتى إلى مجمل كائنات العالم، ولكن إلى إمكانية كل الدنيوية mondanéité، وإمكانية أي حضور مهما كان نوعه Vorhandenheit. باختصار، يمكن القول بأن الدازاين، في حالة القلق، يشعر بالقلق في مواجهة نفسه، وتجاه وضعه الخاص، وتجاه تفرده بحقيقة أن يوجد، ذلك أن حالة الدازاين ووصفه هي دائما "إنه يوجد il existe".ليس فقط لمحدودية هذا الوجود في العالم، ولكن أيضًا للانفتاح اللانهائي الذي يسمح به. بهذا المعنى ، فإن القلق هو شعور أساسي، يمكن إعتباره الحالة الأساسية والأصلية للوعي Grundbefindlichkeit :حيث يواجه الدازاين نفسه ككائن يوجد ويتمتع بالوجود. إن إنية l ipséité الدازاين هي التي يستعيدها القلق، الذي يكسر حركة الهروب من الذات والسقوط في العالم، والدازاين ينتابه القلق في مواجه الكائن المتجذر في العالم، حيث تنكشف وتتعرى جذور كينونته.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إيران تهدد إسرائيل بـ-خطة رد صارمة-.. هذا ما سيفعله الحرس ال


.. مشاهد جديدة توثق اللحظات الأولى بعد هجوم بئر السبع




.. كاميرا أمنية توثق تحرك منفذ الهجوم في محطة بئر السبع


.. هل مفهوم قرار 1701 متوافق بين حزب الله وميقاتي؟




.. في حملة -من غزة-.. نقلنا قصصكم وعشنا آلامكم وما زلنا نرافقكم