الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التراث، التنوير والمثاقفة المغاربية.. حوار مع المفكر محمد المصباحي

عبدالنور شرقي
كاتب وباحث

2021 / 8 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


حاوره الباحث عبدالنور شرقي / جامعة الجزائر 2
عضو الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية


في السيرة الفكرية

1. كيف يقدم الأستاذ المصباحي نفسه للقارئ الجزائري والعربي عموما ؟

أولا المصباحي مواطن مغربي مغاربي عربي... وكوني، بكل ما تتضمنه هذه الأبعاد من تنويعات ثقافية ذات غنى لم يستثمر بما فيه الكفاية. هذا المواطن نذر حياته للاهتمام بمجال الفلسفة تفكيرا وكتابة وتنظيما، لا فقط لغاية الخروج من المأزق التاريخي الذي نعيش فيه منذ وفاة ابن خلدون، بل وأيضا من أجل استعادة ملكة التفلسف عن طريق الاتصال بالوجود بتجلياته المختلفة اتصالا عقليا. بين السبعينات من القرن الماضي والعشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين حدثت تحولات وانقلابات كبرى في الأولويات الفلسفية والثقافية. بعد حصول بلداننا المغاربية على الاستقلال وبخاصة في الستينات والسبعينات، كانت العقلانية المشبَعة بالماركسية هي الوصفة الشفائية من أمراض التقليد للثقافة السلفية الجامدة، والتبعية المستلَبَة للغرب للانفتاح على الحداثة. ولا يمكن لهذا الانفتاح أن يكون مشروعا إلا إذا وجدنا في ذاتنا ملكة أصلية ومنسية للعقلانية. من هنا جاءت ضرورة البحث عن "نظرية العقل عند ابن رشد" بلواحقها المختلفة. ومن تلك اللواحق، فكرة الوحدة، وهي فكرة شريفة سواء في الماضي أو الحاضر، إذ منها وعنها تنبثق الأمم والحضارات الكبيرة. هكذا انخرطت في البحث عن نظرية الواحد والوحدة عند ابن ، فوجدت أنواعا من الوحدة: كالوحدة التي ينبثق عنها الوجود، والوحدة التي تحدث عنها الأنواع والماهيات، والوحدة التي تخلق الأفراد، والوحدة التي تسبب الاختلاف، والوحدة التي تطمس التعدد والاختلاف سعيا وراء الفناء في الحق، هناك الوحدة (المتواطئة)التي يتمخض عنها العلم، والوحدة (التمثيلية) التي تنتج الحكاية، هناك الوحدة المتعالية، والوحدة السارية في الكون. باختصار، لولا الوحدة لما كان شيء في الوجود والمعرفة والعرفان والحضارة. والذين يستدرجوننا اليوم للوقوع في جنون الاختلاف لم يشربوا من كأس الوحدة، وإنما شربوا من كأس التنافي والعدمية والشوفينية والإقصاء. الاختلاف والتنوع الذي لا تضمنه الوحدة لا مستقبل له. وما التمزق الذي يعاني منه العالم العربي اليوم إلا دليل بسيط على ذلك. لكن، في المقابل، الوحدة التي لا تنوع فيها هي فراغ في فراغ، من هنا جاء انفتاحي على ابن عربي وسؤال ابن رشد له: هل ما تؤدي إليه الفلسفة هو ما يؤدي إليه الكشف الصوفي؟ كانت إجابة ابن عربي، كما هو معروف، ملتبسة ومترددة بين نعم ولا، مما جعل أبا الوليد ينأى بنفسه عن الموضوع، لأنه لم يكن يهوى الالتباس. موازاة لهذه المقابلة الفاشلة، جرت مقابلة أخرى مع الغزالي، وإن كانت غير مباشرة وإنما بوساطة النصوص. وكان موضوع السؤال هذه المرة يدور حول علاقة الفلسفة بالشريعة ككل. وكانت نتيجة هذه المقابلة أن لا مناص للشريعة عن الفلسفة، ولا مناص للفلسفة عن الشريعة. لكن المشكلة هي أين يقع المحك التي نزن به، هل في الشريعة أم في الفلسفة؟ من أجل الإجابة على هذا السؤال كان علي من جديد أن أنفتح على الفلسفة الحديثة والمعاصرة للبحث عن إمكان اللقاء بينهما. كانت، إذن، العودة إلى التنوير بلواحقه العقلانية والليبرالية والعلمانية وبعد مراجعته لنفسه، أمرا ضروريا. المرونة في التنوير، ، ضروري لإنجاح اللقاء بين الشريعة والفلسفة، هذه المرة، بعد أن يتم إضفاء المرونة على الشريعة بوساطة ابن عربي، وإضفاء العقلانية على الشريعة بوساطة ابن رشد. المرونة المتبادلة هي السبيل للخروج من هذا الاقتتال الدلالي الفج والغبي بين الطوائف والمذاهب والأديان والإثنيات والثقافات.
هذا بإيجاز مسار رحلتي مع الفلسفة بمحاورها وهوامشها. هو مسار قلق متقلب متحير سعيا وراء تلافي الخطوط الحمراء، مع عدم التخلي عن الزمام الذي هو العقل بلوازمه الأولى!

في الفلسفة الإسلامية

2. نشهد من خلال دراساتكم عودة إلى الفلسفة الإسلامية. ما أهميتها في وقتنا الحالي وهل ما زلنا نقدر التراث الفكري؟

إذا تحدثنا بلغة "الفوائد"، فإننا سنجد في دراسة الفلسفة الإسلامية عددا كبيرا منها، على رأسها الفائدة العلمية. فما دام أجدادنا قد تركوا لنا تراثا فلسفيا غنيا ومتنوعا ومترامي الأطراف، فإن الواجب العلمي الحضاري يفرض علينا الاهتمام بتحقيقه ودراسته والكشف عنه على نحو أكاديمي. تتسابق المؤسسات العلمية الغربية للكشف عن مخطوطاته والقيام بدراستها وعقد المؤتمرات بشأنها، فلماذا لا نتنافس معهم في هذا الاختصاص القريب من قلبنا وعقلنا، ونتعاون معهم لفهم أغواره ومدى إسهامه في تأسيس الحضارة الإنسانية الحديثة؟ إننا إن لم نفعل ذلك، فسنترك الأمر إما للهواة من أهلنا لإصدار نشرات غير علمية لهذا التراث، أو لغيرنا فيؤولونه كما يشاؤون خدمة لمآربهم الاستراتيجية، فيُخرجون لنا منه كل مرة كائنا "داعشيا" يخرّب الشيء القليل الذي بنيناه أو الذي نسعى لبنائه. والأمر الأدهى أنهم يستخرجون هذه الكائنات الشيطانية باسم النصوص الدينية التي تركناها غفلا للجاهلين. الفائدة الثانية من عنايتنا بالتراث هي فائدة حداثية ؛ ذلك أننا نعلم أن الحداثة كلٌ واحدٌ بجديده وقديمه، فلا يمكن أن نكون حداثيين وقادرين على فهم الفلاسفة المحدثين والمعاصرين إن لم تكن له خبرة بتراثنا الفلسفي والتراث الذي تواصل معه. والدليل على ذلك أن الغرب الذي هو مصدر الخلق العلمي والإبداع التكنولوجي، هو نفسه الذي يتبوأ مركز الصدارة في دراسة تراثه العلمي والفلسفي وتراث الإنسانية جمعاء، بما في ذلك تراثنا العربي الإسلامي؛ فالتجاوز غير ممكن إلا بعد استيعاب ما نسعى لتجاوزه. إن دراسة التراث، وهذه هي الفائدة الثالثة، تعلّمنا كيف أن المعرفة كائن حي متطو، وأن التراكم المعرفي هو الذي يخلق القفزة النوعية، كما تُعلّمنا دراسة التراث الوقوف على لحظات التحول الأساسية التي يتم فيها الإبداع والنقلة النوعية من معرفة لأخرى، أو من أفق إلى آخر. وهذه المعرفة التطورية من شأنها أن تدفعنا إلى تبنّي الجوانب الإيجابية (كالتنويه بالعقل وبلواحقه المختلفة) وإصلاح الجوانب السلبية (كهجاء الجسم وتوابعه الانفعالية والعاطفية، والحط من شأن المرأة الخ). الفائدة الرابعة هي أن ضرورة الانكباب على دراسة الفلسفة العربية الإسلامية تقتضيها ضرورة تطور المناهج والمعارف، كي نجدد رؤيتنا للتراث بما يتناسب مع درجة التقدم الحاصل في زماننا.
أما إذا تكلمنا لغة الذات، فإن الفلسفة العربية الإسلامية تشكل علامة مشرقة على قدرة حضارتنا الإسلامية على إنجاز حوار مع الحضارة اليونانية، وعلى قدرة اللغة العربية على التعبير بكفاءة على مفاهيم وأفكار في غاية التجريد والدقة الدلالية. هذا بالإضافة إلى ثراء هذه الفلسفة بمفاهيمها وأفكارها وتقابلاتها، فهي تجمع بين البرهان والتمثيل، بين الحقيقة والصورة، بين الماهية والوجود، بين الحكمة والشريعة، كما أنها تجمع بين النظر في قضايا الإنسان الأخلاقية والسياسية والمعرفية واللغوية، وقضايا الوجود والوحدة، أحيانا بأسلوب برهاني وأحيانا أخرى بأسلوب مجازي قصصي. وهي فلسفة تُغطّى معظم أبواب النظر البشري ابتداء من الموسيقى والشعر وانتهاء بالرؤيا والنبوة مرورا بالعناوين الكبري لنظريات الوجود والمعرفة والأخلاق والسياسة الخ. وهي بهذا الشمول والاتساع تكون قادرة على مدّنا بأدوات نافعة لبلورة فلسفة حية تغني الذات.
قد يقال بأن هذه الفوائد توجد خارج الفلسفة، ما دامت الحياة الفعلية، كما يقول هيدغر، هي مصدر التفلسفة وغايته. لكن إذا اعتبرنا العناصر السابقة جزءً من الحياة الفعلية، بجهة ما، فإنها يمكن أن تكون أحد منابع التفلسف.

3. انفردتم بدراسة اللقاء الذي تم بين ابن عربي وابن رشد، هل هناك إمكانية لقاء بين النظر والكشف، بين العقل والقلب وهل نجح اللقاء بينهما؟

في بداية اهتمامي بابن رشد لم أكن أميل إلى البحث عن موقفه من علاقة الفلسفة بالشريعة، لأنني، من جهة، لم أكن أعتبر هذا الموضوع فلسفيا، ومن جهة أخرى كنت أرى أن موقفه من هذه العلاقة لا يشكل سوى جانب هامشي من الفكر الرشدي. وبسبب هذا الاعتقاد المزدوج، ذهبت توّا نحو كتابات ابن رشد الفلسفية والعلمية (كتب النفس، وكتب الطبيعة وما بعد الطبيعة) للبحث عن طبيعة الإنسان والوجود، لا في علاقة الفلسفة بما ليس فلسفيا. لكن فشل اللقاء بين ممثل العقل والبرهان، ابن رشد، وممثل الخيال والعرفان، ابن عربي، كان يثير في نفسي فضولا قويا لما تخلله من مكر من قِبل الفتى ابن عربي، ومن جدية وصدق من لدن أبي الوليد. فاعتبرتُ هذا الفشل شهادة على طبيعة زمن ولّى وانقضى، هو زمن القرون الوسطى، وأنه حان الوقت بعد مرور ثمانية قرون على هذا اللقاء الفاشل أن ننشئ مناسبة، ولو افتراضية، تسمح بلقاء الفلسفة والتصوف، والنظر بالكشف، بدون نية في المكر أو الانتصار، خصوصا وأن ما بعد الحداثة خففت من حدة التقابل بين العقل التنويري والخيال الرومانطيقي. هكذا عدت إلى تناول الفلسفة بما ليس فلسفيا، وعملت على إنجاح تلك المقابلة الفاشلة في زماننا هذا ولو من وراء حجاب ما بعد الحداثة. ولا يمكن أن يتم هذا النجاح إلا ببعض التنازلات من الطرفين، كأن يصير عقل التنوير الكلاسيكي عقلا مرنا، وأن يسري شيء من العقل والمعقولية في الكشف الذوقي، فيتم الجمع بين العقل والقلب على النحو الذي جمعتهما الآية الكريمة ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾، على أن تكون ساحة اللقاء بينهما هي ساحة العقل على أن تحيط بها من كل جانب قوى الخيال والحس والوجدان الخ.، علماً أنه في زمننا هذا لم يعد الواقع الافتراضي أمرا وهميا، بل أضحى واقعيا، ولعله يكون أحيانا أكثر واقعية من الواقع. وهنا علينا أن نأخذ العبرة من الصلح الذي عقده العقل الحسابي مع الخيال الافتراضي، للتفكير في إبرام تصالح على المستوى الفلسفي، بين العقل والذوق. غير أن الانتقال من البحث عن الاتصال بين الفلسفة والشريعة ككل، إلى البحث عن الاتصال بين الفلسفة ووجه من وجوه الشريعة وهو التصوف في زمننا العربي الإسلامي المعاصر، له أكثر من معنى. من بينها اعتراف الفلسفة بأن العرفان الصوفي تجربة وجودية ووحدوية خصبة يمكن أن تفتح، بلغتها وشطحاتها ومفارقاتها، آفاقا جديدة للبحث الفلسفي، وتُدخِل شيئا من المرونة على العقلانية التنويرية، واعتراف العرفان الصوفي بضرورة الفلسفة لتجديد خطابه الموجه لإنسان اليوم المتعطش لارتداء الخرقة والتطلع لخرق العادة.

4. هل فِكر ابن عربي أصبح ضرورة ملحة لمواجهة تحديات العصر وفتح آفاق جديدة؟

لا يمكننا أن نتكلم عن الضرورة الملحة لمواجهة تحديات العصر بصدد التصوف، لأنه هذا الأخير يبقى مجرد مقاربة ذوقية لذيذة وفردية ونادرة الوجود. ومن ثم لا يمكن للعرفان أن يلعب دورا علميا (تأسيس الصناعات والحضارات) أو سياسيا (إنشاء الدول وتدبير المشاكل الاجتماعية والسياسية) في هذا العصر. أما العقل الذي يستطيع أن يواجه تحديات العصر، فهو العقل العلمي-التقني، فهو "العقل الفعال" الذي يصنع زماننا المعاصر بكل أبعاده، أما "العقل الصوفي" فسيبقى عقلا منفعلا، وينبغي أن يظل كذلك. صحيح، يمكن أن يلعب، بطبيعته السلمية والوجدانية والوحدوية، دورا هاما في ترطيب النفوس ونزع فتيل الفتنة بين بلداننا، لكن بشرط أن لا يتم تسخيره عن بعد. فأنا أربأ بالتجربة العرفانية، التي تذهب وراء التجربة المعرفية التسلطية، أن يصبح مجرد وسيلة لفض النزاعات في العالم. في نظري ينبغي أن يبقى التصوف غاية في ذاته، أن يبقى وسيلة لانتقال الأنا إلى اللاأنا لتذوق شيء من الوحدة الكونية عن طريق الرؤية العدمية، وليس طرفا في نزاع ما، أو حتى دواءً لعلاج مرض التطرف الديني.

5. هل يمكن أن نؤسس لرشدية معاصرة ؟

قد يفكر المرء أنه في زمن الأرسطية الجديدة، والتوماوية الجديدة، والكانطية الجديدة، والماركسية الجديدة ... لماذا لا نؤسس رشدية جديدة؟ أعتقد أنه إذا كان الأمر يتعلق بتأويل جديد للرشدية فلم لا، فأحدث النظريات في العدالة الاجتماعية، أو في الشعرية أو في الخطابة... تعلن انتماءها للأرسطية. القيم الفلسفية لا تموت، وإنما يجري تحيينها في كل زمان: مثلا قيمة "اعرف نفسك بنفسك" لا ينضب تأويلها أبدا. ولكن أن يتم ذلك لا على غرار ما يجري بالنسبة لابن تيمية، بأن تُعلن نهاية المعرفة عنده واعتبار كل ابتكار معرفي ضلالة. فنحن لم نرتو بعد من الفلسفة الحديثة والمعاصرة. وبمناسبة السؤال الذي نحن فيه، يوجد في النموذج الرشدي ما يغري بتجديده، كانفتاحه على الأوائل وصرامته ونزاهته ووضوحه العلمي ووفائه للقول الفلسفي، ووجود عدد هائل من المفاهيم والرؤى التي يمكن تجديدها واستعمالها في قضايا جديدة، فنحصل بذلك على رشدية جديدة ؛ لكن يوجد في المتن الرشدي ما لا يغري الاحتفاظ به، كتصوره للعدالة والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي سيكون علينا تناولها بطرق جديدة لم تكن تخطر على بال أبي الوليد. وهذا يعني أن ابن رشد لوحده لا يكفي، ولا بد من الانفتاح على المحدثين.
في الراهن العربي

6. قبل أشهر قليلة من ثورات الربيع رحل عنا كثير من المفكرين أمثال الجابري، أركون، فؤاد زكريا وأبو زيد ماذا بعد المشاريع الكبرى، ماذا عن جيل الألفية الثالثة؟

هؤلاء المفكرين، الذين فقدناهم، يشتركون جميعا في الدعوة إلى القطيعة مع العقل العربي العتيق، والعمل على استحداث عقل عربي حديث، أراده الجابري أن يكون برهانيا، وأركون إنسيا، وفؤاد زكريا وضعيا (قبل أن يعود متلهفا إلى التراث) وأبو زيد تأويليا. أما الربيع العربي فقد تكلم بعقل آخر، وأعلن القطيعة مع شيء آخر، هو الأنظمة الاستبدادية والفاسدة. هل كان المفكرون الأولون يسبحون في واد، وأهل العقل الافتراضي ما بعد الحداثي يسبحون في واد آخر. مشاريع الإصلاح الكبرى وضعها أهل الربيع العربي في الرفوف، هذا إن كانوا يعرفونها، ولو عرفوها لما نزلوا إلى الشارع واحتلوه بعد أن كانت الأنظمة وحدها تستحوذ عليه. هذا يدل على أن المشاريع الإصلاحية "الكبيرة" لم تكن سوى تحشيات على نصوص قديمة، وأن أصحابها يصادرون على أن عقل الإنسان العربي ما زال ينتمي إلى عقل عصر التدوين أو العقل المسيج بالدوغمائية الخ.، والحال أن الجيل الجديد كان يفكر بعقل جديد كل الجدة، وبخاصة على مستوى حقوق الإنسان.

7. ماهي الأسئلة المطروحة حاليا على واقعنا وهل تجاوزنا الأسئلة التقليدية من قبيل "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا" ؟

بالضبط، تلك الأسئلة التي سميتها تقليدية، من قبيل "لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟"، هي التي أجابت عنها المشاريع الكبرى المشار إليها. ويمكن القول إن تلك الإجابات أدت واجبها مقتربة كثيرا من الحقيقة. لكن اليوم تغيرت الوضعية تماما، إذ دخل العالم العربي في عملية تحديث هائلة، وإن كان تحديثا فوضويا وغير خاضع لاستراتيجية ذات نفَس تاريخي طويل الأمد. فبفضل انتشار الجامعات الوطنية، وتوسع حجم الأطر العليا التي تتكون يوميا في الجامعات الغربية، يمكن القول بأن العقل العربي تغير جذريا، وتغيرت الأسئلة التي يطرحها، فأصبحت ذات مضامين حقوقية (حقوق الإنسانية بين الكونية والمحلية) وسياسية (سؤال الديمقراطية بين الكونية والمحلية) وثقافية ولغوية (سؤال التعدد والحق في الاختلاف). لم يعد السؤال هو لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا، وإنما صار: لماذا لا ننعم بالحرية والديمقراطية والعدالة والحق في التعدد والاختلاف كغيرنا؟ كما صار موضوع السؤال اليوم هو الذات والهوية والثقافة والتحرر الوطني، والزمن والتقدم، والعلمانية وعلاقة الدين بالدولة، وتراجع اليسار وتقدم الإسلام السياسي اليميني (حتى الإسلام السياسي اليساري لا حظ له مع الجماهير). ويبقى أن المهم ليس في أن تكون لنا أسئلة جديدة ومشكلات جديدة، وإنما المهم أن تكون إجاباتنا جديدة، لا أن نلجأ إلى مطويات تراثنا للإجابة عليها.

8. مع ثورات الربيع العربي انتعش الإسلام السياسي وعاد بقوة إلى الواجهة؟

سياسيا، من حق كل حساسية سياسية أو إيديولوجية أن تعبر عن نفسها وأن يكون لها تنظيم يؤطر المنتمين إليها. فالحق كما يقول الفقهاء لا يتبعض. الجميع له الحق في الوجود وفي الفعل. لكن للحق شروط. وعلى رأس هذه الشروط الخضوع للقانون، وعدم استعمال الشريعة ذريعة لنشر الرعب والخراب والقتل المسعور. لا يهمنا إن كانت توجد أو لا توجد في النصوص الدينية ما يشير إلى وجوب استعمال العنف لإكراه الناس على الإيمان بتأويل معين للدين. ما يهمنا أن يمارس هذا التيار السياسي الإسلامي السياسة "بالشريعة الإنسانية"، التي تمنع استعمال كل وسائل الإكراه والقهر والظلم والكذب للاستيلاء على السلطة أو لحرمان الأفراد والجماعات من حقوق المواطنة وحقوق الإنسانية وعلى رأسها الحق في العيش والحرية والكرامة. هذا من جهة الموقف المبدئي، أما لماذا هذا المد الهائل للإسلام السياسي، فالإجابات على هذا السؤال معروفة لدى الجميع، من أهمها الجهل، والفشل في إصلاح الشريعة، والتحالف الضمني لليبراليين واليساريين مع الأنظمة الاستبدادية، وسوء التعليم الذي بدلا من أن يعمم ثقافة المواطنة والحرية والعقلانية، ينشر فهما تقليديا حنبليا للإسلام بين بسطاء الناس... (واللائحة طويلة). طبعا، ليست هناك علاقة سببية بين الربيع العربي وعودة الإسلام السياسي، فثورة الربيع العربي كانت في حد ذاتها ثورة شريفة، لأنه لأول مرة أخذت الجماهير زمام التاريخ ونزلت إلى الشارع حيث استطاعت أن تزيل أعتى الديكتاتوريات. لكن لمّا لم يكن الربيع العربي منظما سياسيا، وإنما كان "حراكا" سياسيا وثقافيا عفويا، فإن اقتلاعه للديكتاتوريات لم يكن جذريا، كما أنه ترك فراغا، استطاع "الإسلام السياسي" ملئه عن طريق "صناديق الاقتراع"، أي عن طريق مسطرة ديمقراطية لا غبار عليها. وهذه إحدى نقط ضعف النظام الديمقراطي: فصناديق الإنتخابات لا تستطيع أن تضمن المعاني الحداثية والليبرالية للديمقراطية. وهذا ما حصل فعلا في بعض بلدان الربيع العربي. فبسبب القصور التاريخي والثقافي الذي تعاني معظم نخب تيارات الإسلام السياسي، فإنهم بمجرد ما حازوا على ثقة الناخبين بنسبة النصف أو ما يقاربه، استبدت بهم نشوة الانتصار حيث حملتهم على تجاهل النصف الآخر واعتبار الحساسيات السياسية والدينية والإيديولوجية وكأنها غير موجودة، وأمسوا يرون بلدانهم وشعوبهم بلون سياسي وإيديولوجي واحد هو الإسلام المؤَوَّل تأويلا مناهضا للإنسان والمجتمع والدولة. وهذا هو جوهر الطغيان. بهذا العماء الإيديولوجي يكون هذا التيار الديني قد أسهم في إجهاض الربيع العربي في البلدان المذكورة ما عدا تونس، التي كانت قاعدتها العلمانية والتحررية صلبة وممتدة في المجتمع المدني وبخاصة في أوساط النساء، والمغرب الذي استبق طلبات الربيع العربي وقام بإصلاح الدستور وتنظيم انتخابات أسفرت عن ائتلاف عريض يضم اليمين واليسار بقيادة الإسلاميين. وكما قلت في البداية، إذا كان "الإسلام السياسي" سياسيا فعلا، أي مؤمنا بالقانون الوضعي وبالديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، وبخاصة حقوق المرأة وحرية العقيدة والانتماء، وكان مؤمنا بحرية الثقافة والمعرفة، فإنه لا مانع تماما في أن يمارسوا التداول في الحكم مع الأحزاب الأخرى ذات الانتماءات المغايرة.

في المثاقفة والتواصل الفكري داخل المغرب العربي

9. الحوار يقتضي هوية منفتحة على الآخر وعلى تحولات الراهن. نبحث في كيفية التواصل مع الآخر وإيجاد حلول للعوائق التي تحول دون ذلك لكن في المقابل لا نجد حلول للحوار العربي العربي وحتى الحوار المغاربي. تحدث أركون عن الحوار الغائب بين مفكري المغرب العربي وسماه بالانغلاق السكولاستيكي. متسائلا عن ثقافة اللاحوار و اللاتواصل التي تطبع ذهنية أصحاب المشاريع النقدية؟

بالفعل، الوصف الذي قام به أركون للذهنية اللاحوارية لأصحاب المشاريع النقدية كان في محله. صحيح وعام، بحيث يمكن أن يصدق حتى عليه هو نفسه، وإن كانت كتاباته لا تخلو من الاعتراف بزملائه والإشادة بهم. لعل السبب في وجود هذه العقلية المعادية للاعتراف والتواصل هو أن هؤلاء كانوا يبحثون في نفس الموضوع الواحد، أي ينهلون من نفس العين الواحدة، ويستعملون نفس المفاهيم وينتهون إلى نفس الحلول. فكانت المسألة مسألة سبق. ولكن يمكن أن نرد عدم الاعتراف المتبادل بين هؤلاء المفكرين إلى أنهم كانوا في قرارة أنفسهم غير ديمقراطيين، أي أنهم لم يتعلموا من الصوفيين شيئا من فضيلة نفي الأنا، أو من العلماء شيئا من فضيلة التواضع، أو من السياسيين الحقيقيين فضيلة الحوار. ترى الواحد منهم يأخذ من الآخر خفية ولا يذكره، يناقشه ولا ينطق باسمه، يقرأ له ولا ينوّه به، والحال أنه لو فعل ذلك لما خسر شيئا، بل لربح وربح معه الجميع وبخاصة المجتمع الفكري. لأن الاعتراف المتبادل والحوار الخلاق من شأنهما أن يخلقا تيارا من التواصل على مستوى الوعي لا على مستوى اللاشعور الكاذب. عندما تقرأ لمفكرين ألمان، ككانط وفيشته وهيجل، والجيل التالي لهم، ستندهش من تقاليد التواصل والحوار بينهم. لهذا دعوت في بعض أبحاثي إلى ضرورة جعل الفلسفة "فضاءً محايدا" يتحاور فيه المفكرون من دون خلفيات ولا انتماءات ولا حزازات، خصوصا وأن مجال الفكر فسيح، ولا معنى للتزاحم فيه.

10. يتربع المغرب العربي على ثقافة التنوع والاختلاف وتمثل الثقافة الشفهية مكونا كبيرا داخله. ما هو الخيط الواصل بين هذه الثقافات؟

المغرب العربي يختزن في داخله غنى ثقافي ولغوي كبير لم يستثمر فلسفيا لحد الآن. ويقع على عاتق الأنتروبولوجيين واللسانيين والمؤرخين وعلماء الحفريات واجب التنقيب في الكنوز الشفوية للشعوب المغاربية، وبخاصة الأمازيغيات والدوارج، لتوفير المادة الأولية للفلاسفة لاستخلاص رؤى ومفاهيم مجردة. شخصيا منذ مدة طويلة قمت بتحليل بعض مقاطع من رباعيات عبد الرحمن المجذوب ووجدت فيها رؤية وجودية مدهشة لا تقلّ طرافة عن ما يوجد لدى الفلاسفة الكبار ومكتوبة بدارجة جميلة فيها كثافة اصطلاحية عالية. إن اشتراك المغارب في هذه الثقافات الشفوية يدل على أن الخيط الناظم هو التاريخ المشترك الذي يختزن فلسفة مشتركة، لكنها محجوبة بألف حجاب.

11. أسستم الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية. ماهو دور هذه الجمعية وأهدافها؟ وهل يمكن أن نشهد تأسيس جمعيات مغاربية تعنى بالفكر والفلسفة؟

كان الغرض من إنشاء "الجمعية المغربية للبحث في الفلسفة الإسلامية" خلق فضاء للباحثين تكون غايته بناء استراتيجية جديدة للبحث في هذا المجال، والدفاع عنه باعتباره منجزاً نوعيا لحضارتنا، بعد ما لاحظنا انتشار نزعة لتشويه صورة الفلسفة العربية الإسلامية بمعية العلوم العقلية والدينية، في الأوساط الثقافية، وحتى في بعض الأوساط الأكاديمية. فبتنا نسمع أنها فلسفة ميتافيزيقية تجاوزها الزمن ولا تستطيع أن تنفعنا في ممارستنا الفلسفية اليوم، إما لأن أساسها العلمي تم تجاوزه بصفة نهائية، أو لأن مقدمات ومقاربات فلاسفتنا القدماء انتهت صلاحيتها. إلا أننا، وإن كنا نقر جزئيا بوجاهة مثل هذه الانتقادات في مجملها، فإنه لا يحق لنا أن نرمي بتراثنا الفلسفي من جديد في عالم النسيان، أولا لأنه جزء من ذاتها؛ وثانيا لأنه ما زال يحتضن في ثناياه أفكارا ومفاهيم وعبارات عظيمة يمكنها أن تسعفنا لمعالجة كثير من القضايا الراهنة؛ وثالثا لأننا نعتقد أنه لا يمكن أن تقوم نهضة فلسفية حداثية لدينا دون أن تكون مستندة إلى تراثنا الفلسفي. لا ينبغي أن ننسى أنه لم يكن باستطاعة هيدغر أن ينتج فلسفة القرن العشرين وما بعده لولا إدمانه على الحوار مع الفلسفة الأغريقية والفلسفة الوسطوية ومن بينها فلسفة ابن سينا في الوجود. ما نرجوه من هذه الجمعية أن تكون أداة لتطوير البحث العلمي في الفلسفة الإسلامية عن طريق تضافر الطاقات المنهجية والمعرفية للمنتمين إليها. فقد مر البحث والكتابة في الفلسفة الإسلامية بحقب مختلفة (كالمرحلة الاستشراقية، والمرحلة النهضوية، والمرحلة الإيديولوجية) وما أفرزته من مناهج فيلولوجية وابيستيمولوجية وايديولوجية وتأويلية وماركسية الخ. وكان القاسم المشترك بين هذه الرؤى إما إثبات أصالة الفلاسفة المسلمين أو نفيها، إثبات قدرتنا على ممارسة العقل والعقلانية وقابليتنا للانفتاح على مغامرة الحداثة أو نفيها. صحيح، اثبات جدارة العقل الإسلامي والعربي وقدرته على التفلسف، والبرهنة على أن الفلسفة الإسلامية لحظة أساسية في الفكر البشري، لم يكن أمرا سهلا أمام حملة التشكيك الهائلة التي مارسها بمهارة وكفاءة بعض المستشرقين المغرضين. ومع ذلك ينبغي أن نتخطى والانتقال من البحث عن الأصالة والعقلانية، إلى الحفر المعرفي والنقدي للوصول إلى نتائج علمية. وبدل أن نتبنى وجهات النظر النهضوية أو الإيديولوجية لتاريخ الفلسفة، والتي كان من عواقبها اندلاع العدمية الأصولية، علينا تبنّي المنهج العلمي الذي يتسم بالموضوعية والحياد والقدرة على فتح حوار ندّي مع علماء الغرب والشرق. إنه لا يمكن تكريس القدرة على التفلسف، التي عادت إلينا مؤخرا بعد نسيان طويل، دون تقديم صورة جديدة لذخائر تراثنا الفلسفي والعمل على تحقيقه وتفكيكه. ومن الواضح أن بإمكان البحث العلمي في الفلسفة الإسلامية أن يسهم في بث الثقة في ذاتنا لكي تقوم بواجب المنافسة والتحدي والبناء، لاسيما إذا ركزنا على تقديم إسهامات تراثنا الفلسفي في مجال تطوير تاريخ الفكر الفلسفي والعلمي والكلامي والصوفي العالمي. فالطريق إلى إعادة بناء جزء من الذات يمر عبر إعادة بناء معرفتنا العلمية بتراثنا والتي تبدأ من العناية بقاموسها الفلسفي الغني للتعبير عن معاني ودلالات فلسفية قد تغذّي لغتنا الفلسفية المعاصرة. وبهذا نستطيع استرداد القوة على التفلسف وترسيخها. وعملنا هذا ليس موجها ضد أحد، أو من أجل خدمة أحد. فالحقيقة هي رائدنا وغايتنا.

في العقلانية، التنوير والحرية

13. أين نجد الخيط الناظم لمفاهيم الحداثة والعقلانية والعلمانية في واقعنا العربي حتى لا نجعل منها "معتقدات" أو "أقانيم" أو نبني حولها "أحكام قسرية" سواء بالرفض أو بالقبول.

الخيط الناظم بين مفاهيم الحداثة والعقلانية والعلمانية هو الحرية، الذي يمثلها الشيء الغائب في هذه الأقانيم، وهو الليبرالية. فالحرية هي الرّحِم الذي انبثق منه العقل. اسطورة الكهف في جمهورية أفلاطون تربط بين التحرر من قيد السجن في كهف الآراء والعقائد، ورؤية نور الحقيقة بنور العقل. ذلك أن ميلاد العقل كان بمناسبة تحرر الإنسان من التقليد، وإعلانه رشده واستقلاله عن الأوصياء. ونفس الأمر كان بالنسبة للحداثة، فبزوغ فجرها كان بمناسبة إعلانها عن تحرر الإنسان من نظام القرون الوسطى، وإلغائها نظام الوصاية بكنائسه وفقهائه وشيوخه. أما العلمانية فهي الحرية على صعيد علاقة الدين بالدولة، فهي التي تعطي المناعة للدولة كيلا تتحول إلى كنيسة تفرض على الناس طريقة تقواهم وعبادتهم لله. هكذا تكون الحرية، والليبرالية التي هي محبة الحرية، هي المحرك الأول للقيم الثلاثة، والضامن لعدم تحولها إلى أصنام جديدة. إذ أهمية الحرية تكمن في نشرها لثقافة الشك والسؤال كيما يظل الحر في يقظة مستمرة. وهذا هو ما يفسر لماذا كانت الحرية هي جوهر الإنسان.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. سودانيون يقتاتون أوراق الشجر في ظل انتشار الجوع وتفشي الملار


.. شمال إسرائيل.. منطقة خالية من سكانها • فرانس 24 / FRANCE 24




.. جامعة أمريكية ستراجع علاقاتها مع شركات مرتبطة بإسرائيل بعد ا


.. تهديد بعدم السماح برفع العلم التونسي خلال الألعاب الأولمبية




.. استمرار جهود التوصل لاتفاق للهدنة في غزة وسط أجواء إيجابية|