الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كان يا مكان .. سياج بيتي

جعفر المظفر

2021 / 8 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أكملت بناء بيتي في الغزالية في بداية عام 1980 على قطعة أرض مساحتها ستمائة متر منحت لي بموجب قانون عودة ذوي الكفاءات الذي شمل بالنهاية جميع أصحاب الشهادات العليا.
في السنين الثلاثة أو الأربعة التي تلت ذلك التاريخ كان سياج بيتي, مثلما هي عامة الأسيجة, لا يتجاوز أرتفاعه أكثر من متر واحد, وكان من شأن ذلك أن لا يقطع صلتك بالمكان العام وبما يؤسس لثقافة مكانية أوسع من أن يضيق عليها السياج الخاص.
وبغض النظر عن الموقف من النظام السياسي البعثي فإن من الحق الإعتراف بأن الأمن العام كان مستتبا كما أن التغييرات ذات الصلة بالإستقرار والتقدم الاقتصادي كانت واضحة.
الحرب مع إيران كانت لها الصلة الواضحة بتغيير ثقافة الأسيجة وصلة المكان الاجتماعية. كان بالإمكان من خلال السياج المشترك الواطئ بيني وبين جاري أن يراني وأن أراه وأن نتواصل يوميا بما عزز العلاقات فيما بيننا. وحتى مع السائرين في الشارع المجاور كان ذلك التواصل قائما بما خلق مستوى إيجابيا من العلاقات الاجتماعية المتواصلة بين أبناء المنطقة جميعا.
غير أن الحرب سرعان ما مدت يدها لتغير وحتى تهدم ثقافة المكان القديمة. أصبح المزاج العراقي معقدا وتراجعت الثقة بين أبناء المنطقة الواحدة.
تصاعد شكيمة الدولة الأمنية وإرهاب القائد الفرد الذي دخل في المساحة العصابية, والخوف من الجار, ووشاية التقارير الحزبية, والخوف من الإلحاق القسري بقواطع الجيش الشعبي المتجهة إلى الخطوط الأمامية, إضافة إلى تصاعد الجريمة والسطو المسلح على البيوت التي رافقها إفناء عائلات بكاملها, كانت جميعها قد أدت إلى الإطاحة بثقافة الأسيجة المفتوحة وإستبدلتها تدريجيا بثقافة المكان المنعزل المغلق على صاحبه وأهله.
لقد أصبح هناك خوف حقيقي ومتبادل بين الجار وصاحبه.
جاري الذي كنت أتبادل الحديث معه أصبح يتسلل وهو يخطو بخطوات سريعة حتى يفتح باب بيته الخارجي ليقفز سريعا إلى سيارته. زوجته لم تعد تتعمد الإطلالة من السياج لتفقد زوجتي والحديث معها. الجار الذي كان قد تزوج حديثا والذي كان يجد متعته الصباحية في اللعب والمزاح مع طفلي أصبح يتجاهلني, وقد تخلى عن متعة اللعب مع إبني الصغير والمزاح معه يوميا وحتى إحتضانه وتقبيله. ولذا فقد قررت ذات يوم أن أبادر لأخفف عنه رهابه اليومي فشاهدني مع عامل بناء مُنهمكيْن في إضافة عدة طابوقات لرفع السياج الفاصل بيننا إلى المستوى الذي يعفيه من رهاب المكان ويوفر عليه عذاب التسلل اليومي من بيته.
كان رد فعله إبتسامة معبرة عن الإمتنان بدلا من إظهار الإنزعاج أو الخيبة. ولقد كانت تلك آخر إبتسامة نتبادلها سوية قبل أن تحل بيننا القطيعة الكاملة.
ومع إستمرار الحرب إستبدل الناس المثل الذي يقول (صيت الغنى ولا صيت الفقر) بآخر يقول (صيت الفقر ولا صيت الغنى) متمنين أن يكون للمثل في حلته الجديدة أثرا في رفع الشخص من قائمة الإستهداف اللصوصي.
بالنسبة لي تعرضت داري إلى سرقتين, وقد حمدت الله حينها على أن السرقتين قد تمتا وعائلتي خارج الدار إذ أن لصوص الحرب والحصار ما عادوا مثل لصوص الجوع الذين سبقوهم. هؤلاء, أي اللصوص القدماء, كانوا يحرصون على أن يسرقوا البيوت بعد أن يتيقنوا أن أصحابها قد غادروها لعملهم اليومي أو ربما لسفر, أما لصوص الحروب والحصار فكانوا يتعمدون السرقة بعد أن يتأكدوا أن أصحاب الدار موجودون في داخلها, لأن ذلك كان سيوفر عليهم صداع البحث عن المواد والسلع الثمينة كالحلي الذهبية أو الدولار وذلك من خلال إخافة أصحاب البيت حتى ولو كان ذلك عن طريق ذبح أحد أبنائها.
كنت بعد السرقة الأولى قد رفعت السياج إلى المستوى الذي يعزلنا تماما عن الشارع المجاور وعن الجيران الآخرين. بعد السرقة الثانية ولأغراض الردع أضفت على السياج أسلاكا شائكة وبرفقتها شظايا من الزجاج الملتصق بأعلى الجدار, وعملت ما كان غيري قد سبقني إليه إذ تعاقدت مع حداد قضى أياما عدة وهو ينصب حول داري سياجا من الحديد يقوم من أساس البيت حتى محيط سطحه تاركا على الأرض بضعة أقدام هي عرض الممشى الذي يفصل ما بين جدران البيت وحديقته, حريصا على أن يقوم ذلك السياج أو القفص الحديدي بحماية السيارة.
بذلك فقد تنقبت البيوت قبل أن تتننقب النساء وأصبحت البيوت مثل أماكن للإقامة الجبرية مقفولة على ساكنيها.
وحينما إستدعتني الشرطة الجنائية في منطقة المسبح للتعرف على بطل السرقة الأولى ظهر أن الرجل لم يكن فقيرا أو محتاجا وإنما كان إبنا مرفها لعائلة غنية ماديا. وقد عكست رواياته المتعلقة بغزواته اللصوصية حالة من تراكم الأحقاد الذاتية التي نتجت من الإنهيار القيمي للدولة وقياداتها ومنظومتها الحزبية وذلك بفعل الحربين والحصار وسقوط النماذج المتمثل بشكل خاص بأبطال العائلة الحاكمة وفي المقدمة منهم (زين الشباب عدي صدام حسين).
سقوط الحواجز الأخلاقية والنماذج القيادية, وتلك التي في خانتهما, شكلا مصادر الإنهيار الرئيسة السلوكي في المجتمع, وهذه كانت أشبه بصب النار على الزيت الذي خلقه جوع الحصار وتبعات الحروب وكان من نتائجه صعود الأسيجة وغلق فتحاتها وبناء الأقفاص الحديدية, وكل ذلك وإن شكل إحدى أشكال التعامل مع الهاجس الأمني إلا أنه أسس أيضا لحالة من التراجعات الإجتماعية التي تم من خلالها العزل ما بين الجار وجاره وما بين أهل البيت والشارع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تعلية اسيجة الدور
عبد الفادي ( 2021 / 8 / 20 - 05:30 )
الف شكر د. جعفر على هذا السرد الجميل الذي كان بمثابة واحة استراحة للقارئ ، تعلية اسيجة الدور بأعتقادي بدأت منذ عام 1968 حيث كان مجيئ تلك الطغمة الحاقدة على الشعب ايذانا ببدء عهد جديد من خراب الوطن وتدمير قيم الإنسان العراقي وتغيير اخلاقه العراقية الطيبة الى اخلاق قطاعي الطرق الهمجية ، بعدها تعاقبت المصائب على الشعب العراقي وكلما اتت مصيبة كانت اسيجة الدور ترتفع ساف او سافين على الجيران ، وبعد اشهر قليلة من مسرحية ناظم كزار عام 1973 على ما اذكر ظهرت مسرحية اخرى في بغداد لترهيب الشعب بأسم ابو طبر وشاهدتُ بعيني كيف كان رجال الأمن يدخلون بيوت المواطنين ليقيسوا اطوال الرجال والنساء ليقارنوها بطول ابو طبر فهل رأيتم دناءة وإرهاب اكثر من ذلك ؟ ودارت الحرب العراقية الإيرانية وخوفا من جاندرمة الجيش الشعبي والقواطع بدأت اسيجة الدور ترتفع مرة اخرى وهكذا حتى جاء البطل الصنديد نوري المالكي القائد العام للقوات المسلحة واعلن ان الجميع يجب ان يحملوا معهم اكفانهم لأن الساعة اقتربت وأنشقت خزينة الدولة ونهبت وبهذا لم تعد الحاجة لتعلية الأسيجة لأن المواطن لم يعد له شيئ ليسرق ، تحياتي استاذ جعفر


2 - شكرا عزيزي عبدالفادي
جعفر المظفر ( 2021 / 8 / 21 - 12:42 )

شكرا لدخولكم النبيل على مقالتي هذه آملا أن تنال المقالات القادمة أو السابقة رضاكم

اخر الافلام

.. الولايات المتحدة تعزز قواتها البحرية لمواجهة الأخطار المحدقة


.. قوات الاحتلال تدمر منشآت مدنية في عين أيوب قرب راس كركر غرب




.. جون كيربي: نعمل حاليا على مراجعة رد حماس على الصفقة ونناقشه


.. اعتصام لطلبة جامعة كامبريدج في بريطانيا للمطالبة بإنهاء تعام




.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح