الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الافعى و قبلة الحياة

رماز هاني كوسه

2021 / 8 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


معظمنا يعرف قصة الحسناء النائمة التي تستيقظ من سباتها بعد قبلة على فمها من حبيبها . و هذه القصة هي من كلاسيكيات الادب المعاصر . فهل يمكننا العثور على شبيه لهذه القبلة (التي سنصفها بقبلة الحياة) في التراث الثقافي القديم للانسانية ؟
لنبدأ من شعار الطب المعروف و هو الأفعى الملتفة حول العصا أو الكأس . هذا الشعار مأخوذ من الأساطير اليونانية و تحديدا من اسكيليبيوس إله الطب لديهم . و قصة الأفعى باختصار أن اسكيليبيوس لم يكتف بشفاء المرضى بل حاول إعادة الأموات للحياة و أثناء بحثه عن وسيلة لذلك شاهد أفعى ميتة اقتربت منها أفعى أخرى مخرجة من فمها عشبة وضعتها في فم الأفعى الميتة فعادت للحياة (نقل العشبة من الفم الى الفم بشكل مشابه لقبلة الحياة في قصة الحسناء النائمة .... أو في قصة الضفدع الذي يتحول لأمير بعد قبلة من حبيبته ..... تغيير الحالة لحالة اخرى بعد القبلة ) و من هنا عرف اسكيليبيوس سر إعادة الأموات للحياة و أن هذه العشبة المسماة عشبة زيوس تعيد الحياة للاموات .
السؤال هنا من أين جاءت الأفعى بهذه العشبة الفريدة التي تمنح الخلود ؟
للإجابة عن ذلك لنعد قليلا إلى أسطورة جلجامش الرافدينية التي تتحدث عن رغبة جلجامش بالخلود بعد موت صديقه انكيدو . هنا يتوجه جلجامش الى الشخصين الوحيدين اللذين حصلا على الخلود و هو أوتنابشتم و زوجته اللذان نجيا من الطوفان و يسأل أوتنابشتم عن سر الخلود فيجيبه بأن عليه البقاء مستيقظا لستة ايام متتالية ليحصل على الخلود فلا يقدر جلجامش على ذلك و هنا تتدخل زوجة أوتنابشتم و تخبر جلجامش بوجود عشبة للخلود موجودة بأعماق البحر فيبحث عنها جلجامش و يعثر عليها في دلمون أرض الخلود حيث يغوص و يحصل عليها .و أثناء عودته إلى مدينته و بينما كان يغتسل على ضفة نهر تأتي أفعى و تاكل العشبة و بالتالي يفقد جلجامش الخلود للأبد .
بالمقارنة بين الأسطورتين نلاحظ أن الأفعى في قصة اسكيليبيوس و التي أخرجت العشبة من فمها و أعادت الميت للحياة تبدو أنها امتداد لقصة أفعى جلجامش التي ابتلعت عشبة الخلود و من هنا اكتسبت قدرتها المميزة على إعادة الأموات للحياة . و هذه النقطة تظهر كنقطة تقاطع مشتركة بين الاسطورتين . و هو ما يفسر قدرة أفعى اسكليبيوس على إعادة الحياة للأموات . و ممكن أن نطرح هنا أن الأفعى و العشبة وصلت للتراث اليونان من التراث الرافدي القديم و هو أمر متوقع مع وجود علاقات تجارية بين المنطقتين .
اختيار الافعى كرمز للخلود لم يأتي عشوائيا بأي حال من الأحوال . فالانسان القديم لاحظ أن الأفعى تبدل جلدها بشكل دائم و اعتبر هذه العملية إشارة لتجديد الحياة و قوة الشباب و من هنا تم الربط بين الأفعى و الخلود و أصبحت الأفعى مع الزمن رمزا للشفاء و الطب باعتبار الطب يهدف لمنح الانسان الصحة و العافية و بالتالي المحافظة على حياته ... أي الخلود . طبعا هذا من ناحية ميثولوجية بعيدا عن بعيدا عن موضوع الخواص العلاجية لسم الافعى و تاثيراته على بعض الامراض .
طبعا فكرة تناول الأفعى للعشبة تأتي ضمن مجموعة من الإشارات و الرموز التي نجدها في القصة و منها موضوع الاستيقاظ لستة أيام كاملة و هو الشرط اللازم لحصول جلجامش على الخلود و هو ما لم يقدر عليه . البقاء مستيقظا لهذه الفترة يعنى البقاء بحالة نشاط و عمل لستة ايام و هو ما يدفعنا للتساؤل عن مدى الترابط بين هذا الشرط للحصول على الخلود و ما بين قصة الخلق في العهد القديم التي استغرقت ستة أيام و من ثم ارتاح الرب في اليوم السابع . البقاء نشيطا لمدة لستة ايام بلياليها يتطلب قدرات لا يملكها جلجامش البشري و لذلك فشل في تحقيق هذا الشرط و لو استطاع تحقيقه لدل ذلك على قدراته الالهية و بالتالي خلوده . بينما فشله يؤكد بشريته و فناؤه .
و كخاتمة فإن أفعى جلجامش التي سرقت الخلود منه نراها تعود للظهور في الأدب الديني الابراهيمي و تحديدا في العهد القديم عندما قام الحنش باغواء حواء و آدم لياكلا من شجرة المعرفة المحرمة و بالتالي طردهما الإله من الجنة (حتى لا يأكلا من شجرة الحياة و يكتسبان الخلود بعد أن أكلا من شجرة المعرفة و اكتسبا العلم و الحكمة فيصبحان خالدين و حكيمين كالآلهة ) . الحنش هنا أغوى آدم و حواء بالأكل من شجرة المعرفة و لكنه لم يغويهما بالأكل من شجرة الحياة . حتى عند خداعه لآدم و حواء تجنب الحنش منح الخلود للبشر .
الأفعى بقيت في ميثولوجيا الشعوب و ثقافتها رمزا للخلود و استمرت بلعب الدور المنوط بها في الأدب الديني سواء الابراهيمي أو ما سبقه و المتمثل بحرمان البشر منه إما بشكل مباشر كما في أسطورة جلجامش أو بشكل غير مباشر كما في قصة آدم و حواء بتمكنها من اغواء أول بشريين و طردهم من الجنة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 10. June 2024


.. الانـتـخـابـات الأوروبـيـة: مـن سـيـحـكـم فـرنـسـا؟ • فرانس




.. -صفعة- عمرو دياب تتصدر المشهد وليدي غاغا تنفي شائعة حملها..


.. هل تكون مقامرة ماكرون.. جائزة لبوتين؟| #التاسعة




.. صفعة عمرو دياب.. بين القضاء وتوقعات -ليلي عبد اللطيف-!| #منص