الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الركض وراء لقمة العيش في مصر!

ياسين المصري

2021 / 8 / 27
مواضيع وابحاث سياسية


يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «إن الشعوب المقهورة، تسوء أخلاقها، وكلما طال تهميش إنسانها، يصبح كالبهيمة، لا يهمه سوى اللقمة».
وعن أبسط تعريف لكرامة الإنسان، تقول الدكتورة وفاء سلطان، هي: سقف آمن ولقمة نظيفة وعيش بحرية.
نحن نعرف جميعًا أنَّ المصريين هم وحدهم الذين يطلقون على الخبز إسم العيش من ”العيشة والحياة“، وقطعة منه هي ”لقمة العيش“ التي تمسك رمقهم (ولا تسُدُّه كما هو شائع لغويًا) وتبقيهم على قيد الحياة، وذلك لخوفهم من الجوع، إذْ لم يعانِ أي شعب في العالم من المجاعات مثلما عانى منها المصريون، فنقرأ في بردية من 17 صفحة كتب الحكيم المصري القديم أيبوور عن أحداث أول ”ثورة جياع“ وقعت في مصر، تلك البردية تم العثور عليها عام 1828، وموجودة الآن في متحف لاهاي بهولاندا. يحكي فيها أيبوور كيف أصبحت البلاد في عهد بيبي الثاني ( 2278-2247 ق.م,) في حالة ضعف وفوضى شاملة، « فامتلأت البلاد بالعصابات، وامتنع الناس عن الذهاب للحقول ودفع الضرائب، وتوقفت التجارة مع البلاد المحيطة، وهجم الناس على مخازن الحكومة، واعتدوا على مقابر الموتى، وصبوا غضبهم على قصور الأغنياء، وانهارت الحكومة المركزية، وظهرت مقولات مثل “الأرض لمن يحرثها”، حتى اضطر رجال الدين ومَنْ تبقى من الأغنياء للهجرة»، المرجع:
https://de-de.facebook.com/Archaeology55/posts/2405633592878030
وذكر المؤرخ المصري المعروف باسم «تقي الدين المقريزي (1364 - 1445م)»، في كتابه: ”إغاثة الأمة بكشف الغمة“، قرابة ستة وعشرين مجاعة تعرَّض لها المصريون حتى تاريخ ظهور الكتاب، ووصف كل منها بالتفاصيل، وحمَّل مسؤولية حدوثها للحُكَّام الغافلين عن مصالح العباد، ووضح بأن المصائب والمحن تعاظمت على الناس فى مصر بحيث أنهم استحالوا زوالها.. وغفلوا انها من سوء تدبير الزعماء والحكام.
وقال المقريزي إن إحدى أولى المجاعات فى التاريخ حدثت فى مصر القديمة خلال زمن (النبي المزعوم) يوسف.. واستمرت سبع سنوات لكنها لم تؤد إلى موت اعداد كبيرة من الناس لأنه قد تم الإنباء عنها قبل حدوثها بسبع سنوات، فخزَّن المصريون كميات كبيرة جداً من القمح.. حتى صار الغذاء مؤمناً ليس فقط للمصريين بل لأهل الأرض بأسرها (على حد قوله).. كذلك شهدت الدولة المصرية القديمة، فى العام الثامن عشر من حكم الملك زوسر ((https://ar.wikipedia.org/wiki/زوسر، إحدى المجاعات التى تركت علامة واضحة فى الشعب، حيث زاد الضيق بالبلاد لقلة مياه الفيضان لمدة سبع سنوات وقلت الحبوب آنذاك.. واستشعر شيوخ البلاد وأطفالها الجوع.. حتى أن الفرعون نفسه لحق به الهم.. فأرسل إلى حاكم البلاد العليا ورئيس معابد الجنوب وأمير النوبيين يطلب منه المساعدة واحتكم زوسر الى رئيس الكهنة وايمحوتب وأشاروا عليه بتقديم الأضاحى والقرابين إلى أرباب وربات أبو (أسوان الحالية). وتشهد على هذه المجاعة «لوحة المجاعة» التي أشادت بعهد زوسر من خلال نقوش تم تدوينها على صخرة كبيرة باقية حتى الآن فى جزيرة سهيل جنوب مدينة اسوان..
وأشار المقريزي إلى أن المجاعات فى مصر استمرت منذ إنهيار الدولة القديمة حتى بدايات الأسرة 12، حتى أنه فى القرن العشرين قبل الميلاد بدأ كل أمير يعزل مقاطعته عن بقية المقاطعات الجائعة.. وظهر على المسلات تفاخر الأمراء بإبقائهم رجالهم ومحاصيلهم وحيواناتهم على قيد الحياة.. وفي زمن حكم الفاطميين في مصر (1036-1094م)، عندما توقف النيل عن الزيادة.. عمت المجاعات وانتشرت السرقات وإرتفعت الأسعار.. واختفى القمح، وإضطرب حبل الأمن، وخطفت النساء من الطرقات، ولجأ الناس إلى أكل الكلاب والقطط.. ووصل سعر الكلب إلى خمسة دنانير بينما سعر القط ثلاثة!! وكثر الغش والفساد ممَّا اضطر ”الحاكم بأمر الله“ إلى أن يمتطي حصانه ويدور فى الأسواق لضبط الغشاشين بنفسه.. وكان يأمر عبده الأسود «مسعود» بأن يفعل الفاحشة العظمى (علنًا) فى المحتكرين والغشاشين حتى يتوبوا ويتوقفوا عن استغلال معاناة الناس. ومع إستمرار الغلاء إنتشرت الأوبئة والأمراض.. وبعدما أصدر الحاكم تعليماته إلى رجاله وقام بتأديب كل من إستغل معاناة الناس، هدأت الأسعار ولكنها عاودت الإرتفاع بعد وفاة الحاكم بأمر الله وعادت المجاعة من جديد بعد أن ضعفت سلطة خلفه ”الظاهر لإعزاز دين الله!“.. الذي لم يكن يشعر بآلام الناس وصرخات الجوعى التى ملأت الكون وأدت إلى وفاة الآلاف. واستمر الإحتكار والتلاعب بالأسعار، وفى عام 414 هـ (1024م)، إزدادت حدة المجاعة وكثر ضجيج الناس واستغاثتهم إلى الله من على جبل المقطم..
غير أن أخطر ما تعرضت له مصر فى ذلك الزمن هو ما يسمى بالشدة المستنصرية التي بدأت 456هـ/ 1064م، وهى إحدى المجاعات التى حدثت أيام ”المستنصر“ الخليفة الفاطمي الخامس فى مصر واستمرت سبع سنين .. ويصفها المقريزى فى كتابه بقوله: «أنه قد استولى الجوع على الناس فأكلوا القطط والكلاب واختطف الانسان من الطرقات ليؤكل.. فوقف الناس فى العراقات يأكلون من ظفروا به ويخطفون الآدميين بالكلاليب، وبيع لحم الإنسان عند الجزارين، وأكل الناس الجيف.. وأكل بعضهم بغلة الوزير نفسه.. فلما شنق الذين اتهموا بأكلها، لم يتورع الناس عن أكل جثثهم تحت ظلام الليل».
ولفت المقريزي في كتابه، إلى حدوث مجاعة مشابهة «أيام الحافظ لدين الله وفي عهد الفائز وفي سلطة العادل أبي بكر الأيوبي سنة 596هـ (1200م) بسبب توقف النيل عن الزيادة، فأكل الناس صغار بني آدم من الجوع فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا والمرأة تأكل ولدها، وكان يدخل الرجل دار جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل».
وفى عهد المماليك ما بين عامى 1780 ـ 1784 مرت البلاد بمجاعة أخرى، جعلت الفلاحين يتركون اراضيهم هرباً من دفع المال للبكوات.. وإنخفض سعر«العملة» 54% وقتل الجوع سدس سكان مصر.. وبلغت البلاد من الفقر لدرجة ارسلت الأستانة قوات بقيادة غازى باشا عام 1786 لتحصيل صرة المال للباب العالى.. فقام الباشا بإعدام الفلاحين وجلدهم وأهان رجال الأزهر.
***
رد المقريزي هذه المحن في فصل خاص إلى سببين:
الأول: «توصل الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة كالمناصب الدينية وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها واضطرارهم لتسديد ما وعدوا به السلطان من أموال إلى تعجلها من أعضاء حاشيتهم وأعوانهم فيقرروا عليهم ضرائب تدفعهم أن يمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا الذين يضطرون إلى الاستدانة وبيع ما يملكون من أثاث وحيوان.
والثاني «ارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحاصيل مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد وقد هلكت دوابهم، ولعجز آخرين ممن يملكون الأراضي عن زرعها لارتفاع سعر البذر ونقص اليد العالمة، ثالثها رواج الفلوس النحاسية التي أصبحت النقد الغالب، واحتفاء الدراهم والدنانير من التعامل لعدم ضربهما ولسبك ما بأيدي الناس منهما لاتخذاه حليا، وقد تفنن الأمراء والأتباع والأعوان في الترف والتأنق وتباهوا بفاخر الزي وجليل الحلي، فكان أن دهى الناس وذهب المال وقلت الأقوات وتعذر وجود المطالب». لمطالعة الكتاب على الرابط التالي:
https://foulabook.com/ar/book/إغاثة-الأمة-بكشف-الغمة-pdf

***
وفى كتاب «الإفادة والإعتبار فى الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر» للرحالة المؤرخ الطبيب الشهير البغدادى يصف رحلته الى وادى النيل فى نهاية القرن السادس الهجرى والثانى عشر الميلادى، وما شاهده من مظاهر مجاعة اخرى ألمت بمصر فيما بين عامى595 ـ 598 هـ (1199 - 1202م)، فذكر في صفحة 18 تحت عنوان: ”المصريون وأكل لحوم البشر“، أن الفقراء لشدة المجاعة عليهم كانوا ينبشون قبور الموتى ويلتهمون جيفهم، وكانوا يقتلون أولادهم ويأكلون لحومهم، وأن هذه المظاهر كانت لغرابتها فى مبدأ الأمر موضع دهشة الناس ومحور حديثهم..لكن لم يلبث المصريون لإمتداد المجاعة لديهم وطول ممارستهم لأكل لحوم البشر أن اصبحت هذه الفظائع اموراً عادية.. بل أخذ كثير من الناس يجدون لذة فى هذا النوع من اللحوم بل لم تعد مقصورة على الفقراء من الناس وأصبح كثير من اغنياء القوم يؤثرون اللحم الانسانى ويعدونه من مظاهر الترف والأبهه». لمطالعة الكتاب على الرابط التالي:
https://www.noor-book.com/كتاب-الافاده-والاعتبار-في-الامور-والمشاهدات-والحوادث-المعاينه-بارض-مصر-pdf
ولا نغفل عن ثورة الجياع في احداث 17 ـ 18 يناير عام 1977، والتي عمت البلاد شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا دون تنظيم.. وكانت بسبب رفع سعر رغيف العيش، ووصمها السادات بأنها انتفاضة الحرامية واتهم الشيوعيين بمحاولة قلب نظام الحكم وعمل مؤامرة ضده..
https://ar.wikipedia.org/wiki/انتفاضة_الخبز_(1977)والتى
***
من الملاحظ أن بلاد العربان تعاني جميعها من قلة الموارد الزراعية، لأن جميع الأنهار التي تمر بها نابعة من بلاد أخرى، ومن ثم ليس في استطاعتهم التحكم في مياهها، لذلك يحرص حكامها على وضع الغالبية العظمى من مواطنيها عند خط الفقر المادي ومن ثم المعنوي، بحيث يخاف المواطن أشد الخوف من الجوع، فينشغل بقوته اليومي والركض وراء لقمة العيش التي يمسك بها رمقه، فينتظر طويلا في طوابير همجية للحصول على الخبز، أو على المواد التموينية، إلى جانب إغراقه في أتون البيروقراطية البغيضة للحصول على الخدمات الأخرى، والهدف من ذلك هو إحداث “اغتراب وجودي” لديه، فلا يهتم بما حوله ومن حوله، وفي المقابل يحدث “اغتراب نخبوي” لدى أصحاب النفوذ، فلا يهتمون به وبمشاكلها، الأمر الذي يقلص الحدود بين الخوف من الموت والرغبة في الحياة لدي الإنسان!
***
من الأفلام العبقرية التي تناولت هذه القضية، ومازال يثير الكثير من الجدل، ويمكن مشاهدته كاملًا على شبكة الإنترنت، الفيلم الأسباني: المنصة the platform، من إنتاج عام 2019، إذ يفرز البشر في هذا العالم من حيث خضوعهم التام لحاجتهم الأساسية للطعام من أجل البقاء، إلى ثلاث شرائح: ”مَن هم في الأعلى، ومَن هم في الأسفل، ومَن هم ساقطون“، ويوضِّح الفيلم كيف أن الجوع يمكنه أن يجبر المرء مهما كان مستواه العلمي أو الاجتماعي، على القيام بأفعال لم يكن ليقوم بها في حال الشبع، فيدمِّر لديه كل القيم الإنسانية والعقائد الدينية والفن والعلم والحكمة ويقوِّض الحب والصداقة ويهدم الأخلاق والطموح والنجاح والشهرة. الجوع يمكنه ببساطة أن يسفه ويزيل كل شيء جميل وضروري في حياة الإنسان ...
الفيلم لم يحاول إيجاد حل لمشكلة الجوع بين البشر، بل تناول مشكلة عدم إشباعه من خلال سوء توزيع الموارد والثروات الطبيعية على سطح هذا الكوكب، الأمر الذي يتسبب في حدوث المجاعات والفقر، ونشوب الحروب، وانتشار الجرائم والعنف، وتهديد استقرار النظم والمجتمعات.
ولإظهار مدى بشاعة الجوع بين البشر وحاجتهم الضرورية للطعام، تجري أحداث الفيلم داخل سجن من نوع خاص، يتكوّن من عدة مئات من الزنزانات الضيقة والمتراصة رأسيًا فوق بعضها البعض، وفي كل منها شخصان. ويخضع جميع المساجين فيه لقانونين أساسيين، الأول هو أن زنزانة كل سجين تتغير عشوائيا كل شهر، فقد يكون في واحدة علوية، ثم يستيقظ بعد شهر ليجد نفسه في أخرى سفلية أو العكس، وهكذا. والثاني هو أن الطعام ينزل من أعلى إلى أسفل على طاولة رخامية غنية بأطعمة متنوعة وشهية تبعًا لرغبات المساجين، وبكميات تكفيهم إذا أكل كلٌّ منهم ما يحتاجه فقط، دون احتفاظه بأي طعام منها. ويجب عليه أن يأكل خلال دقيقتين لا أكثر مما على الطاولة قبل نزولها إلى الزنزانه التي تليه. وكلما نزلت إلى دور نقص الطعام بها، خاصة وأن جميع من في الأدوار العليا يأكلون دون أي اهتمام لأن يتركوا شيئاً من الطعام لزملائهم في الزنزانات التي هي أسفل منهم، وبذلك لا يتبقَّى لمن في الأدوار السفلى سوى أن يأكلوا بعضهم بعضا (حرفيا) ودون تردد.
وبالرغم من أن المساجين جميعًا يدركون أن الأدوار تتغير كل شهر، وأنه بإمكانهم المحافظة على حياتهم طوال فترة السجن إذا التزم كل منهم بأكل حصته الضرورية فقط، إلَّا أنهم فضَّلوا دائما أن يتمسكوا بالمزايا التي يحصلون عليها من الدور الذي يتواجدون فيه، فحين تواجدهم في الأدوار العليا لا يكتفون بالتهام أكبر كمية من الطعام فحسب، بل رأوا أن من حقهم التبوّل أو التغوَّط على مَن هم دونهم، أو على الطعام قبل أن ينزل إليهم!
ويظهر الفيلم أن نجاة النزلاء ليست مسألة شخصية، خاصة عندما يكونوا محكومين بمجموعة سلوكيات تفرضها طبقتهم وما سيأكلونه كنتيجة لذلك، ويصبح السؤال متعلقاً بالتضامن بينهم، خاصة وأن الطعام على اللوح الرخامي يكفيهم جميعًا، ولكن الأثر المتاح من الحرية لهم والذي يقع في حدود ضيقة جدا بين الخوف والرغبة، الخوف من الموت جوعًا والرغبة في البقاء على قيد الحياة، لا يبقى لأي منهم سبيلًا سوى أن تكون نجاته على جثث الآخرين، وأن يتعامل مع الجميع ممن حوله على هذا الأساس. هذا يذكرنا بقول الفيلسوف الإنجليزي واسع الشهرة توماس هوبز، إن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"!
والفيلم كما هو واضح يحاكي بهذا السجن حقيقة دامغة للطبقات الاجتماعية في أي مجتمع، فعندما يكون المرء في طبقة اجتماعية غنية ينسى هموم الطبقة الاجتماعية الفقيرة ولا يهمه سوى أن يعيش حياته المرفهة. وعندما يكون المرء في طبقة اجتماعية فقيرة، يلقي دائمًا باللوم على الطبقة الاجتماعية الغنية الأعلى منه بسبب الحياة البائسة التي يعيشها. ولكن الشيء المثير للاهتمام في الفيلم يتمثل في أن الأغنياء رغم ثرواتهم وأموالهم وكل زينة الحياة التي يراها الآخرون يستمتعون بها، لا يعيشون دائما حياة سعيدة، وأنهم كما نسمع دائمًا أن شخصًا شهيرًا أو غنيًا يعيش الكآبة.. وفي نهاية المطاف تجده أقدم على الانتحار! هذا ما رأيناه في الفيلم عندما قفز العديد من السجناء الذين في الأعلى وانتحروا رغم أنهم يوجدون في زنزانات عُليا، ويتميزون بكونهم الأوائل الذين يأكلون من طبق الطعام اليومي.
***
لقد أظهر الفيلم مدى التضارب بين الرأسمالية والاشتراكية، فتجلت الرأسمالية بصفة عامة في نظام السجن الذي يقرر كمية الطعام التي تنزل إلى السجناء، وأن سجناء الطبقات العليا يحظون بالطعام كله ليأكلوا منه حسب هواهم دون الاهتمام بترك شيء منه للذين أسفلهم، وتجلت الاشتراكية في الأحداث عندما ظنت المسجونة ”إيموغيري“ أن بإمكانها إقناع السجناء في الطبقات العليا بأكل كمية معقولة من الطعام لكي يبقى منه شيء لباقي سجناء الزنزانات الذين في الأسفل، ولكن الأمر حُسم تبعًا للنظام الرأسمالي الذي لا يبقى شيئًا من الطعام نهائيا للسجناء أصحاب الزنزانات الأخيرة، مما اضطرهم لأكل بعضهم البعض من أجل البقاء. وهكذا أصبح النزلاء جميعهم أشقياء لإدركهم لما هم فيه من شقاءه، وتخلوا عن العظمة الإنسانية بعدم أدراكهم لشقاء الآخرين. فالرأسمالي، الذي يصنع التابوت لغرض بيعه، يبتهج طبعًا لانتشار الطاعون… بحسب قول كارل ماركس .
لا أحد في العالم يَسْلَم من شهوة جمع المال والاستحواذ على السلطة والنفوذ، وتلك أمور لها أصولها في النزوع القوي نحو التحكم في لقمة العيش، وتحتِّم على الاعلام والفضائيات والمؤسسات ورؤوس الاموال العابرة للقارات، محاربة اي تحول وطني يخرج عن ربقتها وسجنها وعولمتها. فالرأسمالية تحرم الإنسان من غاية السعادة في الحياة بهذه الشهوة المتأججة والمتسمة دائمًا بالأنانية والجشع، وتجاهل الآخرين، والارتباط الوثيق بالتوزيع غير العادل وغير الفعال للثروة والسلطة، والميل نحو احتكار السوق من قبل قلة إمبريالية متسلطة ومنتفعة، والخوْص في الحروب المضادة للثورات وتتبني أشكالٍ مختلفة من الاستغلال الاقتصادي والثقافي؛ وقمع العمال والنقابيين وعدم المساواة والبطالة وعدم الاستقرار الاقتصادي. إنها تتجه باستمرار نحو احتكار القلة لكل مناحي الإنتاج، وتترك الكثرين يتضورون جوعًا. لذلك لا بد وأن تكون المهمة الأساسية للعقل البشري هي العمل الدائم على تحسين الوجود المادي والمعنوي للإنسان والبحث الدائم عن أوضاع سياسية من شأنها تحقيق الكفاية والعدل له، وعن صيغ لنضجه ورقيِّه الإنساني، خاصة وأن العالم بوجه عام يشهد حاليًا أسوا سلسلة انتكاسات لحقوق الإنسان لا تشمل الدول المتخلِّفة فحسب، بل وتشمل أيضًا الدول المتحضِّرة.
الآن وبعد قرابة 70 عام من حكم العسكر في مصر، تحققت أقوال ابن خلدون، في واقع دولة أصبحت شبيهة تمامًا بسجن المنصة، حيث انفصلت فيه كلية الطبقة الحاكمة، ومعها طبقة الأثرياء الجدد عن المجتمع، عزلوا أنفسهم عن الشعب في مجمعات سكنية خاصة بهم، محاطة بالأسيجة والأسوار والحراسات المشددة. لا يأبهون بتفكك المجتمع من حولهم، وبانهيار القيم الإنسانية بينهم، تركوا المجتمع يغوص كل يوم في وحل الصراع من أجل لقمة العيش!، فظهرت على سطح المجتمع السلوكيات الشاذة، كاللجوء إلى التلوُّن والتدليس والكذب والغش والجريمة، بل وإلى الانتحار وأكل لحوم الحمير، كبداية لأكل لحوم البشر، عندما تصل الأسباب التي بدأت قبل 70 عامًا إلى نهايتها في يوم ما، كما وصفها المقريزي!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اشكرك
سعيد الشامى ( 2021 / 8 / 27 - 16:23 )
هذا من اروع واقوى المقالات التى تصف حاله مصر البائسه المزريه على مر التاريخ , ربما المصرى المعذب الجائع الان يدهش من ان المصريين كانوا يأكلوا بعضهم فى الماضى بسبب المجاعه والفقر المدقع والذل الانسانى , هذه احتماليه ان تحدث فى المستقبل القريب بسبب بلطجه وقهر العسكر الساديه وسرقاتهم لكل الاراضى والموارد والاموال بكل صلف وغرور وعنجهيه ووحشيه , لقد كنا نسمع الى زمن ليس بالبعيد جمله غبيه بلهاء تقول ( مصر مقبره الغزاه ) الحقيقه تقول ان مصر فعلا مقبره كبيره للشعب العبد المستباح الجائع من طرف زبانيه العسكر المجرمين المحتلين


2 - من البديل؟
منير كريم ( 2021 / 8 / 27 - 19:02 )
تحية للاستاذ المحترم
انا معك ان هذا النظام ظالم ومستبد ولكن
من هو البديل لهذا النظام ؟
الليبراليون يتعاونون مع الاخوان
واخرون يتعاونون مع السلفيين
ولا يوجد افق
الافق انغلق منذ انقلاب 52
شيوخ الدين دمروا العقل والذوق المصري , فمثلا يريدون ادخال الحجامة بمناهج كلبات الطب
الحل يبدأ بتغيير الوعي اذا كان ذلك ممكنا قبل ان تصبح مصر وبقية الدول العربية كافغانستان
شكرا لك


3 - وراء كل خراب فتش عن الضابط الغبي + الشيخ أبو عمامة
أنور نور ( 2021 / 8 / 28 - 15:52 )
سنغافورة نهضت وتقدمت ومتوسط دخل الفرد فيها يزيد عن دخل المواطن الأمريكاني
وماليزيا نهضت
واليابان نهضت بعد ضربها بالقنابل الذرية وصارت أعجوبة وايقونة
أما بلاد النهر والبحرين - أبيض وأحمر - والبحيرات العديدة .. فترزح تحت الفقر و تستورد السمك . و تحصل علي القروض الخارجية . اذ يعشش فيها عشرات الآلاف من صرصير الأزهر , يفسدون العقول ويخربونها .
وثعابين العسكر .. يتمددون ويتحكمون في كل محافظة . وكل مجلس مدينة , وكل وزارة . وكل هيئة من هيئات الدولة . يبثون فيها سموم الخراب بجهلهم وغبائهم
وراء كل خراب فتش عن الضابط العسكري الجاهل الغبي . وبجانبه الشيخ أبو العمامة الذي يسكن بعقله في عصر ما قبل 1400 عام

اخر الافلام

.. كاميرات مراقبة ترصد فيل سيرك هارب يتجول في الشوارع.. شاهد ما


.. عبر روسيا.. إيران تبلغ إسرائيل أنها لا تريد التصعيد




.. إيران..عمليات في عقر الدار | #غرفة_الأخبار


.. بعد تأكيد التزامِها بدعم التهدئة في المنطقة.. واشنطن تتنصل م




.. الدوحة تضيق بحماس .. هل يغادر قادة الحركة؟ | #غرفة_الأخبار