الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة كتاب: رتق الذاكرة التاريخية - منعطفات التاريخين العربي والإسلامي

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 8 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مقدمة كتاب:

رتق الذاكرة التاريخية

منعطفات التاريخين العربي والإسلامي

إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي

تعريب: فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع

صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

بالتعاون مع

دار نشر شركة آمازون في المملكة المتحدة

الطبعة الأولى
2021


قد لا يختلف عاقلان على أن تغييب التاريخ وتزويره وتلوينه بالافتراء والتضخيم والتأويل التلفيقي أحد أهم وسائل توطيد هيمنة الفئات المسيطرة على مصادر السلطة والثروة والإعلام في مجتمع ما على «عديد المستضعفين المظلومين» المتغولين على حيواتهم وكينونتهم وحتى أحلامهم، كما هو الحال في تراجيديا «الاستبداد العربي المقيم»، لإيهامهم بأن الواقع المؤوف الذي يعايشونه هو من طبائع الأشياء، ومسلمة لا بد من استبطانها واستمرائها، لما يرتبط بها من «مقدمات تاريخية جلها تلفيقي أو مصطنع أو مجتزأ في أحسن الأحوال» أفضت بقوة «التاريخ العرمرم خلبياً» إلى «تشكيل الواقع كما هو عليه الآن» الذي ليس سوى «الجاحدين بصيرورة التاريخ» ليتفكروا بمحاولة الانقلاب على ما أنتجه في الواقع الراهن من «بؤس ونكوص واهتلاك».
ومن ناحية أخرى فإن معرفة التاريخ وقراءة انعطافاته وتَكَشُّفَ الآليات الناظمة لحركيته تؤسس لتلمس الحقيقة بأن التاريخ يتحرك دائماً ببطء شديد، وبصيرورة يحرك بوصلتها واتجاهها سواء كان ذلك تقدماً ونهوضاً أو تقهقراً و نكوصاً إرادة البشر المتآثرين مع مفاعيل «حركية التاريخ»، ويتصل في أحلك الأحوال التاريخية، كما هو حال الشعوب العربية المقهورة المظلومة الحبيسة في أوطان شكلية لا تعدو عن كونها سجوناً عملاقة، بمقولة المناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي والتي مفادها «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» بشكل يعني أن الصبر والمصابرة والاجتهاد وعدم التراخي والتسليم بواقع الحال البائس هي الوسائل شبه الوحيدة لتحريك التاريخ في اتجاه يخدم مصلحة «البشر من المستضعفين المقهورين المنهوبين»، و سوى ذلك فإن التاريخ لا بد أن يستمر في التحرك في اتجاه معاكس يساير إرادات وتخطيط وتدبير الفئات المهيمنة من الأثرياء الأقوياء النهابين ومن لف لفهم من أفاقين ومرتزقة وجلادين ووعاظ سلاطين. والاطلاع على الإرث التاريخي للفضاء المجتمعي للشعوب العربية والإسلامية في غرب القارة الآسيوية وشمال أفريقيا، أو ما يعرف شيوعاً بمنطقة «الشرق الأوسط» جهد معرفي ضروري لا بد منه لأجل تأصيل رؤية عقلانية وإجابة رشيدة على «سؤال الهوية» المضني والكامن في تكوين العقل الجمعي والفردي لكل أبناء تلك المجتمعات. وهو السؤال الذي تحور وتطفر تناحرياً في العالم العربي راهناً جراء عدم نضوج واكتمال رؤية عقلانية لصيرورة تكونه التاريخي ومآلاته الطبيعية المرتبطة بتلك الجذور، مفضياً إلى أشكال «تلفيقية» وأخرى «عجائبية غرائبية» أو «متطرفة» من الوعي بهوية «الذات الجمعية» في أي مجتمعات راهنة من وريثات تلك العربية الإسلامية السالفة لها، منظوراً إليها من منظار التاريخ التفاعلي الجدلي التآثري الذي لا بد أن يظهر «هرائية» الارتكان السكوني عبر «إشهار الانتماء» العرقي أو حتى العقيدي إلى «راية قبيلة واحدة» يتم توسيعها لتصبح مناطقية أو إثنية أو حتى قطرية أو قومية في منطقة جغرافية كانت عبارة عن «بوتقة كليانية» لانصهار الكثير من «الأقوام والمجموعات البشرية» التي حلت وارتحلت في ذلك الفضاء الجغرافي، وتفاعلت وتآثرت وتداخلت فيما بينها بشكل متشابك ومعقد لا بد أن يستدعي الكثير من التعقل و«إعادة قراءة مدققة لحقائق التاريخ» عند الاشتباك مع المهمة الكأداء المرتبطة مع السؤال الضاغط لتعريف «هوية الذات الفردية والجمعية» في المجتمعات العربية والإسلامية تاريخياً وفكرياً واجتماعياً قبل التدرك إلى أشكال «هرائية» من التصنيفات التي لا سند علمياً لها من الناحية التاريخية من قبيل التصنيفات «العرقية» أو «القَبَلِيَّة» النكوصية التي لا تعدو في تكوينها عن مستوى «الإرث الشعبي- الفولكلور» الذي قد يصبح حقيقة في ضوء غياب حقائق علمية موثقة تفصح عن نفسها بجلاء لتحل محله في الوجدان الاجتماعي الجمعي.
والسياق الأخير لا بد أن يقود أي عاقل حصيف إلى الالتفات إلى الأهمية المرهفة لأي جهد يقترب قليلاً أو كثيراً من مهمة «رتق الذاكرة التاريخية»، والتي تبدو مهمة ملحة في الزمن الرديء المعاصر الذي أصبح مترعاً «بتزوير منقطع النظير» لحقائق التاريخ أو «لي عنقها وكسره في بعض الأحايين»، و«التلفيق العاري» إن اقتضت الضرورات «الذرائعية الحضيضية» عبر «اختراع حقائق تاريخية لم تحدث قط»، أو «عملقة حوادث واجتثاثها من سياقها الحدثي والتاريخي»، وتضخيمها لتصبح «مفاصلاً خلبية في صيرورة التاريخ المزور»، وجزءاً محورياً من أدوات «اعتراك أبناء المجتمع الواحد» في ملحمة سرمدية «يجاهد كل الممسوسين» فيها للحاق بركب «قابيل المنتشي» بنصره الماحق على «قتيله وشقيقه هابيل».
ولا بد من الإشارة أيضاً إلى الواقع الفكري الأليم في الحالة العربية المرتبط بغياب شبه مطلق لاجتهاد المؤرخين الناطقين بلسان الضاد في عمل شامل موسوعي يوثق تداخلات التاريخين العربي والإسلامي بشكل علمي منهجي موضوعي منذ حقبة نهوض الإسلام في شبه الجزيرة العربية وحتى الحقبة المعاصرة، وهو غياب «مقصر» ترك معظم الاجتهادات في ذلك الحيز الاستثنائي الأهمية لمؤرخين من غير الناطقين بلسان الضاد، وغالبيتهم خلال بضعة العقود الأخيرة يكتبون باللغة الإنجليزية. وهو واقع «مخجل ومخز» بأقل التوصيفات لكل القادرين على القيام بتلك المهمة الملحة من الناطقين بلسان الضاد، وخاصة أولئك الأكاديميين المؤهلين في الجامعات العربية، والذين فضلوا القعود والارتكان إلى حياة «السكينة» والعمل في جامعات تحول معظمها إلى «مدارس ثانوية كبيرة» واجب الأستاذ الجامعي فيها «إلقاء محاضرة هنا وهناك»، دون الالتفات إلى الواجب و«فرض العين» على كل «أكاديمي مخلص صدوق» بالاجتهاد بالبحث العلمي الممنهج المدقق، للقيام بواجب معرفي يمثل السبب الموضوعي لتأهيل كل الأكاديميين «الأحقاق» في جميع أرجاء الأرضين.
ومن زاوية أخرى، فإن القراءة المتمعنة في صيرورة تكون التاريخ العربي والإسلامي بشكل منهجي خطوة محورية لتَكَشُّفِ «الأخطاء التاريخية العظام» التي قام بها العرب والمسلمون، والتي أشار إلى الكثير المهم منها ابن خلدون في «المقدمة» سواء بشكل صريح أو تلميحاً، وهو ما لا بد من الاتكاء عليه لتفهم الآلية التي أفضت إلى نكوص وتقهقر «الحضارة العربية الإسلامية»، وتنكس المجتمعات التي انطوت عليها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وقد يكون أهم ما أشار إليه ابن خلدون في ذلك السياق الأخير رؤيته الثاقبة لمفهوم «العصبية» والتي أفضت إلى حالة مضمرة أو معلنة من «تفرقة» بين من هو «عربي» وآخر «أعجمي»، قادت إلى «اهتراء بنيوي وداخلي» في تكوين المجتمعات العربية الإسلامية آنذاك، نظراً للصدوع التي أنتجتها في المجتمع من خلال تجاهلها للحقيقة الثاقبة «بخلبية الأنساب»، و«عوار النسابين»، بالإضافة إلى الحقيقة الدامغة بأن معظم منتجي النتاج الحضاري والعلمي في سياق «الحضارة العربية الإسلامية» كانوا ممن ينظر إليهم ظنياً بأنهم من «الأعاجم» بينما كانت قلة ضئيلة منهم تنظر إلى نفسها بكونها من «العرب العاربة» أو «الأعراب المستعربة».
وقد يكون العنصر الأهم في أي قراءة عاقلة متعقلة ومتأنية للتاريخ العربي والإسلامي هو تفهم الآلية «الاعتباطية» التي تم من خلالها تخليق الدول القطرية في الفضاء الجغرافي الناطق بلسان الضاد أساساً، وغيرها من المجتمعات التي كانت جزءاً عضوياً من بنيان ما قد يستقيم تسميته «الحضارة العربية الإسلامية»، وهي الآلية «الاعتباطية» في تخليق الدول القطرية التي تمت بشكل لا يستند إلى أي أساس تاريخي أو اجتماعي أو اقتصادي، وكان الهدف المحوري منها تقاسم المصالح بين المستعمرين وخاصة الفرنسيين والبريطانيين في النصف الأول من القرن العشرين، والذي وجد المستعمرون سواء من البريطانيين أو الفرنسيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، بأن السبيل الأجدى للحفاظ على مصالحهم قد لا يتمثل في استعمار مباشر مكلف مادياً وبشرياً، وإنما باستعمار غير مباشر يضمن تدفق كل مزايا الاستعمار المباشر دون الحاجة لتحمل أكلافه، وهو ما تحقق عبر تخليق دويلات مضعفة ومبتورة عن محيطها التاريخي والجغرافي والاقتصادي، بشكل جعلها غير قادرة على تحقيق أي نهضة حضرية تبرر وجودها ككيانات سياسية، ودون سبيل لترسيخ وجودها السياسي سوى «بالقوة العارية» التي تم تكوينها وتوطيدها على النهج الذي أدمنه المستعمرون الإمبرياليون دائماً، والمتمثل في تخليق «نظم نواطير استبدادية أمنية» تستمد قوتها «القمعية» مما يرسله «أسيادها وأولياء أمرها» من المستعمرين القدماء إلى «ثكناتها وفروع استخباراتها وسراديبها الأمنية» من نتاجهم الذي لا يتفوقون بغيره على كل أمم الأرضين، وأعني هنا «الحديد والنار»، ليقوموا بدورهم الوظيفي المتمثل في إرغام «طوفان المقهورين المظلومين» بالقبول بالأمر الواقع، والذي يعني القبول «بمفاعيل التقسيم الاعتباطي» لمجتمعاتهم، والتغول على كل تفاصيل حيواتهم وسرقة مواردهم الاقتصادية، وحرمانهم من أي تنمية حقيقية وتحسين لمستوى معاشهم اليومي، من أجل قيام النواطير بواجبهم «المقدس» في السهر على مصالح «أولياء أمرهم» من «المستعمرين القدماء» الذين لم يرحلوا إلا شكلياً عن المجتمعات التي كانوا يحكمونها في سالف الأيام من خلال «المفوضين السامين»، وهم الذين بزهم «النواطير الاستبداديون المعاصرون» في «حسن الالتزام» في «أداء واجبهم الوظيفي»، والذي قد يكون على رأس قائمته «النهب المنظم» للمجتمعات التي يتغولون عليها «طغياناً واستبداداً»، وتهريب «نتاج عملية النهب الممنهج» تلك لتستقر في موئلها الطبيعي في خزائن ومصارف «أصحاب الحل والعقد» من المستعمرين القدماء كما لو أنهم لم يرحلوا أبداً عن أرض «المقهورين المستضعفين».
ومشروع «رتق الذاكرة التاريخية»، مشروع اجتهادي «من العيار الثقيل»، قام فيه فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع بدور «الجنود المجهولين» الذين لا يكلون ولا يتوانون عن «الاجتهاد الصابر المصابر لتأصيل التنوير والعقلانية والرشاد» في المجتمعات الناطقة بلسان الضاد، وهو ما تجلى في هذا المشروع بالاجتهاد المدقق والبحث العلمي المتأني لتجميع وتنقيح وتنضيد وتعريب آلاف الصفحات من اللغة الإنجليزية إلى العربية، بشكل قد يسهم في تحقيق الهدف الجوهري من هذا المشروع الاجتهادي الضخم، والمتمثل في السعي لرتق الذاكرة التاريخية المثقوبة التي أصبحت ترقى دون مبالغة إلى «فقدان ذاكرة جمعي» و«أمية تاريخية متأصلة» في الكثير من المجتمعات العربية المعاصرة، والتي أصبح فيها «الجهل التاريخي سيد الموقف الدموي» الذي يتفاخر فيه قابيل بنحر شقيقه هابيل في كثير من الأحايين، في مأساة شاملة عمقاً وسطحاً عنوانها العريض «الاقتتال الأهلي» بين أبناء المجتمع الواحد لأسباب خلبية جلها مختلق تلفيقي أو مجتزأ من سياقه ومشوه عن أصله التاريخي في أحسن الأحوال.
وكما هو الحال دائماً الشكر موصول لأعضاء فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع المجتهدين الخلص الطيبين لتطوعهم وتحملهم لنفقات تعريب وتنضيد وإخراج هذا المشروع المعرفي الذي «لا بد منه»، وتقديمه بشكل مجاني وميسر للقارئ بلسان الضاد، علَّ ذلك يسهم لو قيد أنملة في إعادة الاعتبار للوعي التاريخي المغيب عربياً، وتأصيل «العقلانية التاريخية» كمنهج لقراءة التاريخ وانعطافاته، ويمهد الطريق للفئات المستنيرة في العالم العربي للقيام بواجبها الضروري في الاجتهاد بكل ما هو ممكن لإيقاف «حمام الدم السرمدي» المفصح عن نفسه في غير موضع عربي، أو ينتظر أوان إظهار «وجهه القبيح» وهو يعتمل راهناً «كالجمر تحت الرماد» في ما تبقى من خارطة العالم العربي المكلوم المحزون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي