الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مقدمة كتاب: مهد الحضارات - التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 9 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


مقدمة كتاب

مهد الحضارات

التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب

إعداد وتقديم: د. مصعب قاسم عزاوي

تعريب: فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

الطبعة الأولى

2021

صادر عن دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع في لندن

بالتعاون مع

دار نشر شركة آمازون في المملكة المتحدة


مفهوم الهلال الخصيب يمثل صورة ذهنية لبوتقة بزوغ الحضارات الكبرى في الفضاء الجغرافي لوادي الرافدين وبلاد الشام ووادي النيل منذ الألف الرابع قبل الميلاد بشكل يمكن استكناه الكثير من تفاصيله الدقيقة من خلال ما تركه أولئك الأسلاف من تركة مكتوبة يمكن من خلالها تلمس صيرورة نشوء تلك الحضارات وتآثرها فيما بينها منتجة نموذجاً مبهراً من نهوض بني البشر خلال رحلتهم الأخيرة في الانتقال من نمط حياة الصيد والالتقاط إلى حقبة الاستيطان في مجتمعات زراعية منذ خواتيم العصر الجليدي الأخير الذي أكمل انحساره منذ الألف العاشر قبل الميلاد.
وقد يكون أحد أهم العناصر المميزة لحقبة بزوغ الحضارة في الهلال الخصيب هو حالة الاتصال الحضاري الوطيد بين جميع المجتمعات التي حلت وارتحلت وتوسعت وانحسرت واندثرت من ذلك الفضاء الجغرافي، وهو اتصال فريد وعميق العرى يظهر بالتدقيق فيه بأن الفناء المكاني للهلال الخصيب كان بوتقة انصهار للعديد من المجتمعات والحضارات التي تداخلت وتشابكت في صيرورة تكونها الحضاري بحيث يصبح الكل منهلاً ورافداً لغيره من المجتمعات القرينة له أو السالفة له أو اللاحقة عليه؛ وهو ما تجلى في الصيرورة الزمنية لنهوض مجتمعات الهلال الخصيب منذ الألف الرابع قبل الميلاد سواء مع السومريين في وادي الرافدين، أو الأسرة الفرعونية الأولى في وادي النيل، وهما اللذان أصبحا حجرا الأساس لبناء كل الحضارات اللاحقة لهما في حضارات الأكاديين والبابليين والآشوريين والكلدانيين والعموريين والكنعانيين والفينيقيين والعيلاميين والحوريين والنوبيين، وبشكل أقل عمقاً في تواشج العرى مع حضارات شعوب البحر المتوسط الأخرى، وأقوام شعوب بلاد الأناضول من الحثيين، وسكان الخاصرة الجنوبية لوادي النيل من الكوشيين.
والحقيقة الأكثر رسوخاً راهناً تنطلق من أن جميع التصنيفات البائدة لحضارات الهلال الخصيب على أساس الاختلافات اللغوية بين أقوام مجتمعات المنطقة، أو بالاستناد إلى ملاحظات أركيولوجية واستنتاجات حفرية حول أنماط تشييد الأبنية وصناعة الأواني الفخارية من الصلصال وتلوينه و زخرفته، أو صناعة الحلي والأدوات الأخرى، جلها تصنيفات اعتباطية تجتزئ الحقائق، وتفسرها بشكل لا موضوعي، يتنافى مع الاكتشافات البحثية المعاصرة التي تشي بتداخل وطيد واتصال حضاري لا ينقطع بين جميع الأقوام التي سكنت منطقة الهلال الخصيب، والتي قام كل منها بالبناء على ما وصل إليه أسلافه في المنطقة من مستوى لغوي وقدرات إبداعية في شتى المجالات، بحيث لا يمكن بأي شكل موضوعي تخليق أي فاصل تعسفي لتفريق أقوام المنطقة على أساس لغوي كما كان الحال شيوعاً بين لغة السومريين ومن تلاهم في صيرورة التاريخ الحضاري لمنطقة الهلال الخصيب من الأكاديين والبابليين والآشوريين. وذلك التوصيف الأخير يعني عملياً بأن نشوء الحضارات في منطقة الهلال الخصيب كان يقوم دائماً على أكتاف الحضارات والأقوام السابقة التي لم يتم محو وجودها السالف وإبداعها الحضاري واللغوي، وإنما استدماجه في كينونة التالي لهم من أقوام ومجتمعات تمثل توسعاً واستمراراً لمن سبقهم دون أن تكون حلولاً في محلهم بأي مقاربة عقلانية علمية مدققة، وهو ما يشي بعسف منظومات التقسيم الاعتباطي للمجتمعات المعاصرة التي ما زالت تعيش في فضاء الهلال الخصيب على أسس إثنية، أو عرقية، أو لغوية، أو تاريخية تلفيقية مصطنعة، أو غيرها.
ومن ناحية أخرى فإن قراءة مدققة لصيرورة التاريخ القديم لمنطقة الهلال الخصيب لا بد أن تفضي إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم التحضر وقوننة العلاقات الاجتماعية بين البشر، وتأسيس عقد اجتماعي حقيقي في المجتمعات التي يعيش فيها أبناء الهلال الخصيب المعاصرين حتى لو كان على نهج الشريعة البادرية التي اختطها حمورابي في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، لينصف المظلومين والمهضومين ولا يتركهم فريسة لا نصير لها حينما يتكالب على حيواتها ومستقبلها وأحلامها النهابون والأفاقون وبهلوانيو صناعة وتبرير هيمنة الأقوياء الأثرياء على المفقرين المستضعفين.
وفي نفس السياق الأخير لا بد من التمعن في تقاليد تنصيب الملوك البابليين، والتي ورثها منهم الآشوريون من بعدهم، والتي تكرس مفهوم أن «الملك خادم لرعيته» وليس قيِّماً على قومه بما يتجاوز دوره في خدمتهم وفق الشريعة الدنيوية التي اختطها أسلافهم، حتى لو كانت من الناحية الطقسية قد تنزلت من إنليل أو مردوخ أو أي من آلهة شعوب الهلال الخصيب على اختلاف أسمائها. وهو التمعن الذي لا بد أن يفضي إلى تحريك رغبة عارمة في وجدان أخلاف أولئك الأسلاف في منطقة الهلال الخصيب لاستنهاض قدرتهم على الفعل الحضاري، والاجتهاد الجمعي، والصبر والمصابرة، في الرحلة المضنية التي لا بد من خوض غمارها، لمواجهة شرور الاستبداد المقيم والمخيم على كل تفاصيل حيواتهم وأحلامهم بصغيرها وكبيرها، بشكل أعادها في غير موضع جغرافي من فضاء الهلال الخصيب إلى مستوى حضاري تنكسي نكوصي كان أبناء نفس تلك المجتمعات قد تجاوزوه في عدة مراحل من تاريخهم السالف، ومنذ الألف الرابع قبل الميلاد، وهو ما يجعل من مهمة الاجتهاد الجمعي الواجب لمقاومة الاستبداد وغيلانه ومفاعيله مهمة ملحة لأحفاد أولئك العظام الذين كانت أرضهم «مهد الحضارات» في غابر الأيام؛ ولا بد لكل عاقل ذي ضمير حي من أولئك الأخيرين من بذل كل غال ورخيص للدفاع عن حق أبناء تلك المجتمعات الراهنين في العيش الحر الكريم العادل وعدم الاندثار «حضارياً» من خارطة المعمورة إلى حيز المجتمعات البائدة لعدم اجتهاد أبنائها في الدفاع عن وجودها وكينونتها وحقها في الاستمرار والوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مفاوضات الهدنة: -حماس تريد التزاما مكتوبا من إسرائيل بوقف لإ


.. أردوغان: كان ممكنا تحسين العلاقة مع إسرائيل لكن نتنياهو اختا




.. سرايا الأشتر.. ذراع إيراني جديد يظهر على الساحة


.. -لتفادي القيود الإماراتية-... أميركا تنقل طائراتها الحربية إ




.. قراءة عسكرية.. القسام تقصف تجمعات للاحتلال الإسرائيلي بالقرب