الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نقض المرحلة الدينية لدى كيركجارد

هيبت بافي حلبجة

2021 / 9 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يؤكد الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد إننا إزاء ثلاثة مراحل متدرجة من الأدنى إلى الأعلى ، المرحلة الأولى وهي الأدنى ، المرحلة الجمالية ، والمرحلة الثانية وهي المرحلة الأخلاقية ، والمرحلة الثالثة وهي المرحلة الدينية .
المقدمة الاٌولى : من أقوى الأفكار التي تحدد معالم الفكر لدى كيركجارد ، هي فكرة الإنسان ، وفكرة الفرد ، وفكرة الإله والأخلاق . إن تلك الأفكار الثلاثة تتعانق بفروعها وتمد بأسسها إلى جذر مشترك ، جذر يحدد الإطار العام لفكر كيركجارد ، حيث على أثرها يرفض هذا الأخير سطوة الميتافيزيقيا وسطوة ماهو تأملي وسيطرة ماهو غيبي على مكامن قضايانا ، ومن هنا لايقبل بالإشكاليات التي يحدثها اللاهوت المسيحي ، ويرفض الإطروحات النظرية المجردة التي يزعمها هيجل سيما تلك الفكرة القاتلة في نظر كيركجارد ألا وهي الروح المطلقة والوعي المطلق . إن هذا المبنى في التفكير يؤدي إلى ستة دلالات متكافلة متضامنة :
الدلالة الأولى إن الإنسان هو مركز العالم ، الكون ، الوجود ، بل إنه يحل محل الإله نفسه سيما مفهوم الإله في فلسفة هيجل ، فإذا كان هذا الأخير قد تصارع مع نفسه ليمنح الإله صورة أصيلة في الفكرة المطلقة وفي موضوع المقولات وفي إطروحة دورة الكمال التاريخي ، فإن كيركجارد يتصارع مع نفسه ليمنح الإنسان الفرد ، الإنسان القلق ، إنسان المعاناة ، حقيقة ما يعتمل في أعماق نفسه ومايجيش في أعماق خاطره ، فالتصارع لدى هيجل هو في الحقيقة شكلي إفتراضي تركيبي ، بينما هو لدى كيركجارد مجسد للمأساة الإنسانية ، لحجم المفارقة مابين هذا وذاك ، مابين تناقضات هذا وتناقضات ذاك ، حيث هذا وذاك هي حيثيات الطبيعة الإنسانية ، الطبيعة المأساوية .
الدلالة الثانية إن الإله لم يعد إلهاٌ لاهوتياٌ ، لم يعد إلهاٌ مجرداٌ ، إله يتحكم بالسماء والأرض والمجرات إله يهدد البشر بالنار والجحيم ، إله يمتشق حسامه وسوطه ليجلد هذا وذاك ، إله يختبيء في موقع مائت ، إله يموت من الوحدة والإنعزالية ، إنما أصبح إلهاٌ للأخلاق ، للأخلاق التي تعين السمات الجوهرية في علاقة الإنسان بالإنسان ، في موضوع الإنسان والمعاناة ، وفي علاقة الإنسان بالإرض ، دون علاقة الإنسان بالسماء ، أي تحولت الأخلاق ، من أخلاق واعظ ، إلى أخلاق تشارك في تكوين الألم البشري ، أي بتعبير أدق لم تعد الأخلاق أخلاقاٌ للوصايا العشرة ولا أخلاقاٌ تحدد السلوك البشري ولا أخلاقاٌ تدرس في الكنائس أو تدون في اللاهوت ، إنما هي أخلاق تتماهى وتتماثل مع حجم المعاناة في التجربة البشرية ، وتتوازي مع خاصية الإنسانية وليس مع خاصية ذلك الإله المجرد الغائب الذي مهمته هي : أفعل ، لاتفعل .
الدلالة الثالثة إن كيركجارد لايهتم بالوجود ومفهومه إلا بمقدار مايدنو الوجود العام من الوجود الخاص ، إلا بمقدار ما يتطابق الجنس والنوع مع الفرد ، ومرد ذلك إلى أمرين : الأمر الأول إن المعاناة والقلق لاتخصان الوجود العام إنما هما من خصائص البنية الذاتية للوجود الخاص . الأمر الثاني إن المفاهيم ليست ، لدى كيركجارد ، إلا مفاهيم نظرية ، مفاهيم للدراسة ، للتعبير اللغوي ، فالحقيقة الوقائعية هي خاصية الوجود الخاص . ومن هذا المدخل يمكننا أن ندرك لماذا تطرح الوجودية فكرة إن الوجود يسبق الماهية ، لكن الفكرة الأصلية لدى كيركجارد إن الوجود الخاص هو الذي يجعلنا نستنج منه مفهوم الوجود العام ، ومن هذا الوجود العام نستنبط مفهوم الماهية ، فالماهية والوجود العام ليستا ، لدى كيركجارد ، إلا تعابير لغوية . وهذا واضح حتى من خلال أسماء مؤلفاته ، الخوف والرعدة ، المرض حتى الموت ، إما أو ، التكرار وإستفزازات .
الدلالة الرابعة في العلاقة مابين الواقع والمعنى والمفهوم ، فإن كيركجارد يسلك طريقاٌ معاكساٌ لهيجل ، فهذا الأخير يذهب من المفهوم إلى المعنى ومن ثم إلى الواقع ، في حين إن كيركجارد يمنح السلطة المطلقة للواقع ، بل إنه لايرى إلا الواقع من خلال القلق والمعاناة والكبد والمرض ، بل إنه بنفسه يتماهى معه ، وهذا هو شرط الخاصية لدى كيركجارد ، وهذه هي ميزة نقطة الأصل والبداية في محاولة إدراك ما نحاول ان ندركه . ويمكن القول إن التجربة البشرية ، ورغم بعض الإرتباكات لدى كيركجارد هنا وهناك ، أخذت بعداٌ ذاتياٌ أصيلاٌ خارج تلك الإطروحة البليدة التي دأب عليها الفلاسفة والمفكرين : ميتافيزيقية الوجود ، مفهوم الوجود ، الوجود الإلهي ، الغائية ، العلة الغائية ، اللامنتهي ، المطلق ، الكلي ، وكأنهم كانوا يدركون هذه المقولات وفي الفعل هم أجهل الناس بها ، لإنها ليست إلا تخمينات سخيفة وفرضيات متناقضة .
الدلالة الخامسة في موضوع العلاقة نفسها ، فلقد إنحصرت لدى كيركجارد في مجال ماهو خاص بما هو خاص مابين ماهو خاص ، أي لم تعد العلاقة مابين الخاص والعام إلا على المستوى الإدراكي ، ولا مابين العام والعام إلا على المستوى التعبيري ، ولامابين الغيبي والتأملي والتجريدي إلا على المستوى النقدي ، ولامابين المفهوم والمفهوم إلا على مستوى المقارنة والتماثل . وهذا الفهم الصحيح لموضوع العلاقة يضفي على مفهوم السبب ومفهوم الإرادة نوعاٌ جديداٌ من المعنى ، فلو تمعنا في موضوع صلاة الإستسقاء التي تجسد في معناه الديني حالة غبية وسخيفة ، لكن في موضوع الإرادة ، إذا أدركنا إن الإرادة قد تكون جزءاٌ من الحدث والظاهرة ، وتؤثر في حدها الطبيعي في وعي الطبيعة ، فإن الطبيعة بوعيها قد تسعى إلى تلبية شروط هذا الحدث تماماٌ مثلما تلبي الطبيعية بوعيها محتوى قانون الجذب المرتبط بالإرادة . وهكذا ومن المثال السابق يمكننا أن ندرك إن موضوع السبب لم يعد إلا حزمة من العلاقات الخاصة مابين هذا وذاك ومابين الكل ، أي نستطيع القول إن السبب الذي أصبح يناقض أساس العلاقة مابين العلة والمعلول ويرفض محتوى العلة الغائية والعلة العقلية : هو مختبر تتشابك فيه مجموعة أسباب ، هو حدث يتعانق مع بقية الأحداث .
الدلالة السادسة إن الفلسفة التأملية ليست إلا الجانب السيء الدراماتيكي للفكر البشري ، ولقد فرضت عليه شروطها الخاصة من مقدمات وقواعد وأكسيومات وأفكار فطرية ومقولات قبلية ومفاهيم نظرية وفرضيات أضطرارية باطلة ، الأمر الذي أثقل كاهل البشرية بإطروحات لايمكن التخلص منها إلا بمشقة بالغة ، والذي لازلنا نقاسي من نتائجه المقيتة حتى هذه اللحظة . ولقد تكررت الحالة مع الفقه الإسلامي الذي إستند إلى فرضيات باطلة في المعتقد ، وركب على هذه الفرضيات فرضيات تأولها ثم فرضيات وإطروحات تفسر هذه الحالات الآخيرة ، وهكذا إلى إن أصبح لدينا مؤلفات تعالج نتائج نتائج هذه الفرضيات ، ولا أحد يتسائل ماهو مصير هذه المؤلفات كلها بالآلاف : في حال إن ذلك الإله المفترض لم يكن موجوداٌ أصلاٌ ، وماذا لو لم يوجد نبي بالأساس !! .
المقدمة الثانية : في موضوع الآن الوجودية والقرار الوجودي ، إذا أدركنا تلك الدلالات الستة على فهمها الصحيح سندرك تماماٌ ماهي الآن الوجودية وماهو القرار الوجودي ، ولايقصد من الآن الوجودية لا مفهوم الزمان ولامفهوم المكان لإنها تمثل حالة حضورية في الوجود ، شرط ألا يفهم من ذلك إن كيركجارد يقصد معالجة المفهوم ، وشرط ألا نماثل مابين هذه الآن ومابين الصيرورة . وأما القرار الوجودي فهو ليس قراراٌ نفسياٌ ، كما إنه ليس قراراٌ يخص موضوعاٌ إجتماعياٌ ، إنما هو موقف في حدث وجودي ، وفي الحقيقة ، لدى كيركجارد ، لايمكن أن نفهم حقيقة القرار الوجودي بدون الآن الوجودية كما لايمكن أن ندرك أصل الآن الوجودية بدون القرار الوجودي . ولكي ندرك المقصود لابد من أن نرى كيف عالج كيركجارد محنة النبي إبراهام ، إبراه يم ، مفردة كوردية ، ومحنة أيوب ، وسنكتفي درءاٌ للتكرار بسرد محنة النبي إبراهيم . في السرد المسيحي يأمر الرب إبراهام بذبح إبنه إسحاق ، وهنا ثمة نقطتان أساسيتان تثيران الدهشة في بواطن فكر كيركجارد . النقطة الأولى هي إن ذبح الأبن مطعون فيه مهما يكن السبب والدافع ، ويتساءل كيركجارد ماهي الحكمة من ذلك . النقطة الثانية إن إبراهام قد أستيقظ باكراٌ جداٌ ، ويتساءل كيركجارد عن سبب إستيقاظ إبراهام باكراٌ جداٌ ، فكان الجواب إن إبراهام أستيقظ باكراٌ لتنفيذ الرغبة الإلهية ، لكن على مايبدو إن كيركجارد لم يجد حكمة في الأمر ولم يقتنع بسبب الإستيقاظ . وهكذا يؤكد كيركجارد إن سبب إستيقاظه باكراٌ جداٌ هو إنه لم ينم أبداٌ من هول المعاناة وشدة القلق ، وكان يتقلب يمنة ويسرة ثم يسرة ويمنة حتى بزغ الفجر فما كان منه إلا أن يتأخذ قراره الوجودي لإنهاء هذه الآن الوجودية ، وفي الحقيقة لم يكن لديه خيار آخر ومن هنا ندرك تلك العلاقة الحميمية مابين القرار الوجودي والآن الوجودية . ونفس هذا المبدأ يتماثل مع محنة أيوب حيث لاخيار آخر له سوى أن يتطابق القرار الوجودي مع الآن الوجودية .
المقدمة الثالثة : في موضوع الواقع ، إن الواقع لدى كيركجارد هو المعيار الوحيد والتام للحياة للوجود للفكر لكيركجارد نفسه ، هو الذي يحدد مانحن عليه من آلام ومعاناة وشقاء ومرض ، لذلك يرفض بالمطلق خضوع الواقع للمنطق ولمقدماته وللمقدمات العقلية ، ويعتبره ، وهذا هو نقده الجوهري للتيارات الفلسفية العقلية ، أي يعتبر المنطق ، تفكير يصادر الحياة ، يصادر كل شيء ، وضمن هذا المفهوم نود أن نذكر هذه النقاط الخمسة التي هي متضافرة ومتكاملة وتوضح رأي كيركجارد في تلك الفلسفات العقلية ، وتؤكد من جانب آخر على فهمه الحقيقي لذاته ولإطروحاته الفلسفية ، وهذه النقاط هي ، مفهوم النسق الفكري ، مضمون التجريد ، محتوى الحقيقة ، أساس الزمان ، أسس الضرورة .
في النقطة الأولى يرفض مفهوم النسق الفكري ويحتسبه نوعاٌ من الربط العقيم مابين تلك الآراء ، بل نوعاٌ من الربط القسري أحياناٌ ، لإن الفيلسوف مضطر إضطرار الضرورة إلى تبرير آفكاره كلها والتكييف فيما بينها ، لخلق حالة تشمل كل الكون والوجود ، وهذا مثار سخرية وجهل بطبيعة وبنية الأشياء ومواضيعها ، ومن هنا كان يرفض أن يطلق مفردة النسق الفكري على آرائه . وفي الحقيقة هذا جانب مميز في فكر وواقع كيركجارد ، لإن مجرد البحث عن نسق فكري متكامل متراسق يفضي بالضرورة إلى مغالطات قاتلة هنا أو هناك .
في النقطة الثانية إن مضمون التجريد يتنافر مع محتوى الواقع ، لإنه يفرض نوعاٌ من السلوك الذهني على خواص التفكير ، فالتجريد كعملية ذهنية يجافي العوامل الحياتية في الواقع ، حيث إن هذا الأخير هو مقياس ترمومتري حركي تفاعلي لايمكن ضبط محدوداته بإسلوب تجريدي . وفي الأصل إن التجريد لدى تلك الفلسفات العقلية لاموازنة له ويخضع إلى تكييف تستحوذ الإعتباطية على جانب كبير منه ، وهذا واضح جداٌ لدى هيجل وفلاسفة الإسلام .
في النقطة الثالثة إن محتوى الحقيقة هو تصوري بحت في تلك الفلسفات ، ويخضع في جزء منه لإعتقاد وحالة تصورية ترتبط في النهاية بحدود مدارك الفيلسوف والمفكر ، وهنا تكمن مشكلة أساسية ، سيما إذا أرتبط ذلك بمضمون التجريد ، وهي إننا نكون إزاء الحقيقة الجافة التافهة ، ونلغي مضمون الحقيقة التي تنكشف لنا رويداٌ رويداٌ ، والتي قد تتطور في كل مرحلة من مراحل التاريخ نفسه . وهنا يؤكد كيركجارد : مافائدة أن أبني صرحاٌ فارهاٌ ضخماٌ أخاذاٌ ، وأنا أعيش بجانبه في كوخ حقير متواضع سخيف ، وذلك دلالة على المفارقة مابين الواقع الفعلي الذي نعيشه وتلك الحقيقة المجردة الخيالية لدى تلك الفلسفات العقلية .
في النقطة الرابعة إن المنطق في تعريفه وفي مبناه هو خارج أساس الزمن ، في حين إن الواقع يحتوي على الزمن نفسه سواء من خلال مفهومه الخاص ، سواء من خلال الحركة ، سواء من خلال العلاقة مابين الزمان والمكان . ومن المؤكد إن ماهو خارج الزمن هو ، لدى كيركجارد ، خارج الحركة ، خارج التغيير ، خارج الكون ، وبالتالي فإن الواقع لايعرفه ، ولايمكن أن يتعرف عليه ، ولايمكن أن يحتسبه موجوداٌ . وهذا يفضي بنا إلى نتيجة ذات جسامة على مستوى التفكير وهي إن العلاقة في المنطق ليست إلا علاقة تصورية وهنا تكمن خطورة الزيغ والتيه .
وفي النقطة الخامسة إن المنطق كي يكون منطقاٌ ، وإن العلاقات العقلية كي تكون كذلك ، لامناص من أن تتحكم فيه ، وفيها ، الضرورة بأسسها ، أي إن المنطق كي يبني ذاته وكي ننتقل من هذا إلى ذاك ، لابد من الضرورة ، وإذا ماغابت الضرورة فلايمكن للمنطق أن يكون لإنه سيتحول آئنذ ومنذئذ إلى حالة لاضرورة ، وهذه الحالة سوف تسلب من المنطق الأمر الذي جعله منطقياٌ ، وهكذا سوف يجد المنطق نفسه في حالة تسيطر عليها العبثية ، وكيركجارد لايقصد العبثية الغائية لإنها مرفوضة هي ونقيضها على حد سواء ، إنما يقصد بالعبثية الحالة التكوينية ، الحالة التي يمكن أن نتحقق منها من خلال الواقع ، من خلال الإمكان الواقعي .
المقدمة الرابعة : في موضوع تلك المراحل الثلاثة التي أشرنا إليها في البداية ، المرحلة الجمالية ، المرحلة الأخلاقية ، المرحلة الدينية .
في المرحلة الأولى ، الجمالية ، ينبغي أن نتدارك الأمور التالية ، الأمر الأول إن مفردة الجمالية ليست صحيحة وخادعة بل تسمية سخيفة لإنها تتماثل مع مفهوم مرحلة التوحش الأولي ، فلاجمالية في هذه المرحلة ، إنما هي مرحلة الحس والإحساس والمراقبة والإبصار والغريزة والعاطفة ومسألة الهرمونات والحاجات البشرية وقضايا الحشد . الأمر الثاني إن كيركجارد يؤكد على قضية في غاية الأهمية وهي إن الإنسان كائن ، كما النبتة وكما الحيوان والطير ، متحد متآلف مع الطبيعة ، فهو لم يلد إنساناٌ إنما تآلف وتكون في حضنها رويداٌ رويداٌ ، وهكذا فإن الوجود يسبق الماهية كما إن الفرد يسبق المجموع . الأمر الثالث إذا أدركنا الأمر الثاني أدركنا إن الإنسان هو رقم من الأرقام ، فرد من الأفراد ، واحد من الحشد ، ويكون مستوى الإختيارات ، إما أو ، في حدها الأدنى . وهنا لابد من أن تتضح المفاهيم التالية : إن الفرد يتبع المجموع لإنه لايملك بعد خاصية مميزة في ذاته ، إن الحشد لايفرض قواعده من باب القصد الواعي إنما هو جملة مسائل تتكامل في حدودها العامة ، إن الآخر ليس آخراٌ كطرف حقيقي في مضمون العلاقة ، أي إن الكل يتبع ماينجم من الواقع بصورته البسيطة الأولية والبدائية .
هذا من جانب مضمون هذه المرحلة ، لكن من ناحية مفهوم هذه المرحلة ، فإن كيركجارد يؤكد إن كل مرحلة من هذه المراحل تتمتع بخواصها على شكل دوائر خاصة بها وقواعد تميزها ، ولايمكن لأي شخص أن يتجاوز مرحلة إلا إذا بلغ مستوى اليأس ، فطالما هو يتمتع بالسعادة والرضى النسبيتين في هذه المرحلة فإنها سوف يبقى فيها إلى الأبد ، لذلك ثمة أناس يبقون في هذه المرحلة ، وأناس وهم الغالبية العظمى ينتقلون إلى المرحلة الثانية ويبقون فيها إلى الأبد ، ولاينتقل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة إلا القليل من الناس . وهنا لابد أن ندرك موضوعين أثنين ، الأول إن الإنتقال لايحدث من خلال المنطق ، من أستدلال وأستنتاج ، إنما يحدث على شكل قفزة من الداخل إلى عالم مجهول ، عالم لايدركه الشخص في البداية أبداٌ . والثاني لابد ان يتحقق اليأس تماماٌ ، ومن خلاله ينتقل الإنسان إلى المرحلة الأعلى ، لإن اليأس خلق حالة طلاق بائن مابين الشخص والمرحلة التي هو فيها .
في المرحلة الثانية ، الإخلاقية ، الشيء الأساسي في هذه المرحلة هو الربط مابين الإله كذات ومابين الأخلاق ، أي نحن إزاء إله الأخلاق وليس أمام أخلاق الإله ، وفي المطلق لايوجد إله كي يكون له أخلاق ، ومن خلال هذه الفكرة الجوهرية تتماهى معها فكرة إن الآخر أصبح له تمثلاٌ منفصلاٌ عن الآنا وعن الحشد ، فكما رأينا إن الآنا والآخر والحشد كانت ذوات مندمجة في المرحلة الأولى ، لكن في هذه المرحلة أنفصلت الآنا عنهما كما إنفصل الآخر عنهما وكذلك الحشد ضمن شرط إن الأخلاق بإلهه الذي يمثله أصبحا من ضروريات هذه المرحلة . وغني عن البيان لابد من اليأس من هذه المرحلة كي تتحقق القفزة إلى خارج دائرتها ، فما كان يصح في المرحلة الجمالية يصح بالضرورة هنا .
في المرحلة الثالثة ، الدينية ، لكي نعي محددات هذه المرحلة من الضروري أن نستعيد تلك الحكاية السخبفة مابين الإله والنبي إبراهام ، حيث إن الإله أمر أبراهام بذبح إبنه إسحاق ، على رغم إن هذا الفعل يحتسب دنساٌ نجساٌ في اللاهوت التوراتي . هنا يؤكد كيركجارد إن هذا الفعل يعد ، إرجاءاٌ للأخلاق وتعطيلاٌ لها ، وضرباٌ لموضوع الأخلاق في المرحلة الثانية . أي إن الإله الذي كان غائباٌ في المرحلة الأولى ، أصبح إيجابياٌ في المرحلة الثانية ، ليغدو سلبياٌ مجرماٌ في المرحلة الثالثة ، فهاهو يأمر بإقتراف جريمة كاملة ليعطل محتوى الأخلاق ويرجىء مجاله . هذا من جانب الفعل الإلهي أما من جانب الفعل الإنساني ، فإن كيركجارد ينطلق من إيمانه المسيحي ليؤكد إن على الإنسان ، وعلى الرغم من ظاهرة القلق والمعاناة ، أن يلبي مضمون الفعل الإلهي ، وهذا هو تأصيل فكرة المرحلة الدينية ، وسموها الطبيعي والقصدي على المرحلتين السابقتين . ولإنها كذلك ، ولإن كيركجارد يؤمن برسالته المسيحية من خلال الواقع ومن خلال الإله كذات ، فإن الإنسان لايمكنه أن ييأس ، فلا يأس في هذه المرحلة ، لإنه لو وجد يأس لقفز الإنسان بالضرورة إلى مرحلة مجهولة أخرى رابعة ، وهذا الفرض ، حسب كيركجارد ، لايمت إلى إمكان التناقض .
المقدمة الخامسة : إذا كان الواقع هو ركن التاريخ والحياة فإن العمود الفقري لهما هو الذات ، فحتى الإله هو في النهاية ذات وليس موضوعاٌ ، كما إن الإنسان هو ذات ، فالذاتية هي المشتركة مابين الإله والإنسان ، لذا فإن كيركجارد يكره المجموع ، ويرفض الماهية ، ويركز على الفرد ، يركز على الحيوان الذي هناك ، على النبتة التي تنمو في ظروف صعبة . فالألم والمعاناة والقلق واليأس هي خصائص الفرد وليس خصائص المجموع كما تزعم الفلسفات الكلية العقلانية ، فإنت الذي تعاني وتتألم من المرض حتى الموت وليست ماهيتك هي التي تعاني .
المقدمة السادسة : يمايز كيركجارد مابين مفهوم التناقض ، وإمكان التناقض ، وموضوع التناقض ، ويرفض الأول والثالث ، ويبقي على الثاني لإنه مرتبط بالواقع ومرتبط بالذات ، وبهذا المعنى فإن التناقض هو بإمكانياته الفعلية التي تحدث للفرد من خلال واقعه ومن خلال ذاتيته . أي إن إمكان التناقض يحدث حدوثاٌ ، وقد يشتد هنا ويضعف هناك ، وقد يبلغ حدود السلوك الشرطي لإن الواقع والذات تقتضيانه ، لكنه ينبغي ألا يبلغ قضية المفهوم ، أو قضايا في المنطق ، أو موضوعات في الإستدلال والإستنباط .
نكتفي بهذا القدر ، ونبين مآخذنا على هذا التصور بالشكل التالي :
أولاٌ : في موضوع تلك المراحل التاريخية الثلاثة ، الجمالية ، الأخلاقية ، الدينية ، ومسألة الإنتقال من الأدنى إلى الأعلى أو القفز منها وإليها وإلى المجهول ، والقضية الخرافية لشخصية خرافية ليست موجودة أصلاٌ ، قضية سيدنا إبراهام عليه السلام . ثمة شرطان جوهريان للقفز ، الأول هو شرط داخلي بنيوي ، وهو شرط اليأس فبدونه ، وحسب كيركجارد ، لايمكن حدوث القفز إلى المجهول . والشرط الثاني هو شرط الواقع ، وقبول الواقع للموضوع ، فهل كان كيركجارد منسجماٌ مع إطروحاته في عموم هذه الرؤيا ؟
فمن جانب إن الأمر الإلهي لإبراهام لايمكن أن يصدر لا من اليأس ، ولا من الواقع ، ولا من التجربة البشرية الأرضية ، لإنها في الأصل والتأصيل جريمة إلهية ، وأركان الجريمة تختلف جذرياٌ عن موضوع القلق والمعاناة البشريين ، لما لها من قصدية وعمدية مباشرة ، سيما إن إسحاق لم يرتكب أي مخالفة ، مهما كان نوعها ، في حق هذا الإله المزعوم . وتبدأ الإشكالية مع كيركجارد إنه يستند في المرحلة الدينية على قضية لاتمت إلى الواقع بصلة ، وكيركجارد بدون الواقع لاوجود له .
ومن جانب إن الشرطين ، اليأس والواقع ، ليس مؤهلين للسماح بالإنتقال أو القفز من المرحلة الثانية الأخلاقية إلى المرحلة الثالثة الدينية ، لإن هذه المرحلة الأخيرة ليست جزءاٌ من الواقع ، وإذا زعم أحدهم إنها كذلك عندها تتغير دلالة الواقع ونكون إزاء مفهوم جديد للواقع ، حينها تنهار كافة إطروحات كيركجارد ، وينهار هو أيضاٌ .
ومن جانب إن المرحلة الدينية لاتقبل ، في جذورها ، موضوعة اليأس ، لإنها لو قبلت ماكانت مرحلة دينية أو روحانية بالتعريف الذي حدده كيركجارد ، ولقفزنا منها إلى مرحلة رابعة ، وهذا يعني ، لو صحت الحالة العكسية وصدقت ، إن اليأس ليس من ضرورة الحياة ، أي إن الإنتقال من مرحلة إلى أخرى ينبغي أن يتمتع بمعيار غير المعيار الذي حدده كيركجارد .
ومن جانب طالما إن المرحلة الدينية هي النهائية ، وهي التي تتمتع بالديمومة والإستمرارية ، وتحتضن الإستقرار والسكينة ، فهذا يعني إن المرحلتين الأوليتين لسيتا إلا محطات للعبور ، محطات مؤقتة ، حينها لاقيمة للواقع ، ولاقيمة للقلق ، ولاقيمة للمعاناة ، ولاقيمة لكيركجارد ولا لإطروحاته العديدة في هذا الخصوص .
ومن جانب ، من الجانب الشخصي ، حينما يتحدث كيركجارد عن المراحل الثلاثة فإنها ينبغي أن تكون بالضرورة ثابتة وموضوعية ، وإلا كنا إزاء عدد آخر هائل من المراحل ، وطالما هي كذلك ، وإستناداٌ إلى مفهومه الخاص به ، فإنه قد بلغ وحايث المرحلة الأخيرة ، الدينية ، وهذا يعني إنه قد تحرر ، عندها ، من المرحلتين السابقتين ، لإن وحسبه لايمكن أن يبلغ الإنسان مرحلة متقدمة إلا شريطة أن يتحرر من المرحلة التي سبقتها ، وطالما إن الأمور قد بلغت ما بلغت ، فإن كيركجارد كان ينبغي أن يحدثنا عن نفسه خارج موضوع القلق والمعاناة والمرض .
ثانياٌ : ثمت تناقض جسيم مابين المرحلة الدينية ومابين العلاقة مابين الآن الوجودية والقرار الوجودي ، فهذه العلاقة الأخيرة تحدث مابين الذات والذات ولنفس الذات ، فالشخص يعاني من القلق ، الآن الوجودية ، ويعاني من مجابهة القلق ، القرار الوجودي ، أي بتعبير أصدق إن الشخص ، حسب كيركجارد يعاني ويقلق من الآن الوجودية كما يعاني ويقلق من القرار الوجودي بنفس الدرجة ، في حين إن المرحلة الدينية لاتقبل البتة بالعلاقة مابينهما لإنهما تحدثانا في مجالين مختلفين ، فثمت إله يصدر أمراٌ ، الأمر الذي في حقيقته هو خارج الآن الوجودية الحقيقة للشخص ، وثمت إبراهام من يتلقى هذا الأمر ليصدر قراراٌ وجودياٌ موازياٌ للقرار الإلهي وليس للآن الشخصية الموازية ، وفي الأصل ، وحتى لو وجد نوع من القلق والمعاناة فإنهما ليستا من نفس التأصيل في الحالتين . ثم في فعلية القضية ، في المرحلة الدينية ، فإن القرار الوجودي الموازي للأمر الإلهي يختلف في مبناه وبنيانه راديكالياٌ عن القرار الوجودي في المرحلتين السابقتين ، أي فيهما يتحقق إن الألم يواجه الألم ، في حين إن في المرحلة الدينية لايوجد ألم وجودي حقيقي لإنه لو وجد لوجد اليأس ولو وجد اليأس لكانت المرحلة الدينية مرحلة مؤقتة عابرة الأمر الذي يرفضه كيركجارد نفسه .
ثالثاٌ : إن كيركجارد نفسه أمام إختيارين ، إما أو ، إما أن يذهب مع الواقع ومآسيه وتطوراته وبنيانه حتى النهاية ، عندها يكون الواقع هو الذي يحدد الفكر والإطروحات والأنظمة والمفاهيم والمعاني ، كما يحدد القلق والمعاناة والألم والمرض ، أو أن يذهب مع نوع خاص من نظام فكري معين مثلما فعل هيجل وكانط وديكارت وسبينوزا والقديس أوغسطين و توماس الأكويني وغيرهم وفلاسفة الإسلام . في الحالة الأولى لايمكن القبول بتلك المراحل الثلاثة أو بغيرها ، لإن الرفض يشمل هنا كل تصور مسبق مهما يكن نظامه الفكري الخاص به . وفي الحالة الثانية يتحول الواقع إلى مجرد بناء تبعي مكمل للأسس الموضوعية التي ترسم المبنى الفعلي لصيرورة الأفكار ، وآنئذ تنتفي الكيركجاردية من كيركجارد . ولكن أن ينطلق كيركجارد من الواقع بإصوله ومن ثم يكمل بتلك المراحل فهذا يعد بحق سخافة فكرية وترقيع سطحي ، والدليل على ذلك هو إدخال الإله في موضوعاته ، ذلك الإله الذي وإن كان ذاتاٌ وليس موضوعاٌ لايمكنه إلا أن يصادر حقيقة وفعلية الواقع ، والواقع إن لم يكن كاملاٌ بصورة ذاتية فإن كيركجارد يصبح ناقصاٌ ، لإنه يؤكد أكثر من مرة : إنني أتحدث عن ذاتي ، وإن كتاباتي ليست إلا أنا .
رابعاٌ : إن الإشكالية الكبرى تكمن لدى كيركجارد في إن أقواله بقيت تموضعية ، في مجال خاص ، في حدود لم تأخذ أبعادها المفروضة أن تأخذ ، فهو لم يدرك حقيقة قوله ، ماهو الواقع ، ماهو القلق ، ماهو اليأس ، ماهو المرض ، لذلك عندما سرد المفهوم التاريخي لتلك المراحل لم ير سوى ذلك الإله المسيحي الذي يمنح المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة موضوع الأخلاق وموضوع مابعد الأخلاق ، أي تعطيل الأخلاق وإرجائه . وحينما علل قيام إبراهام باكراٌ على أساس القلق لم يكن هذا القلق هو أصل تلك المرحلة ، المرحلة الدينية ، إنما كان الإله هو المحرك ، هو الفاعل ، لذا كان يسمي هذه المرحلة أحياناٌ بالمرحلة الروحية . ماذا لو أهملنا موضوع الإله ، لتهافت مضمون تقسيم تلك تلك المراحل ، وما كان قد بقي سوى المرحلة الجمالية ، المرحلة التوحشية ، الإنسان في مواجهة القلق والمعاناة واليأس ، وكإن الإنسان هو وحش ضار بدون هذا الإله الذي علمنا الأخلاق والروحانيات ، في حين كان من المفروض رؤية إن الإنسان وعلى الرغم من كل مآسيه هو الذي خلق الإله ، هو الذي نظم حياته التوحشية على شيء من قواعد أخلاقية ، قواعد قانونية ، لتنظيم العلاقة مابين الآنا والآخر والحشد ، لإن الحياة شرعت في تمييز مجال كل جهة من هذه الجهات ، وهكذا تكون ونشأ في نفس الوقت إمكان التناقض ، فالشخص يلتزم بتلك القواعد للحفاظ على موقعه ويخترقها حينما يمكنه أن يكون قادراٌ ، وشرط توفر الإرادة ، أن يؤذي غيره .
خامساٌ : في بنيوية فرضية تلك المراحل الثلاثة ، ومثيلاتها ، فإن تلك الفرضية إما أن تكون صادقة على طول الخط ، أو أن تكون كاذبة على طول الخط ، أو أن تكون نسبية هنا وهناك ، أو أن تكون جزئية هنا وهناك ، أو أن تخضع لقانون الإحتمالات ، أو أن تخضع لقانون الفراغ خارج الإحتمالات ، أي إن الشخص يدرك إن ذلك يؤدي إلى نتيجة ما لكن هو لايعرف أبدأٌ كما إن الوضع يكون مفتوحاٌ من حيث الأصل والتأصيل ، لكن إن يدعي كيركجارد إن هذه القفزة من مرحلة إلى أخرى هي قفزة إلى المجهول فينبغي أن يلتزم بمضمون المجهول ، لكنه يحدد المرحلة القادمة ويقدم خصائصها كما لو كانت معلومة فهذه هي مغالطة جسيمة ، وهذه المغالطة تطيح بأسس ومضامين هذه المراحل التاريخية الثلاثة ، وفي الأصل ما كان من المفروض أن يحدد كيركجارد لاوجود تلك المراحل ولا حتى غيرها ، لإنها في الفعل تناقض حقيقة القلق ، حقيقة اليأس ، حقيقة المعاناة ، حقيقة الواقع . وإلى اللقاء في الحلقة التاسعة عشر بعد المائة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مصر تعلن طرح وحدات سكنية في -رفح الجديدة-| #مراسلو_سكاي


.. طلاب جامعة نورث إيسترن الأمريكية يبدأون اعتصاما مفتوحا تضامن




.. وقفة لتأبين الصحفيين الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل


.. رجل في إسبانيا تنمو رموشه بطريقة غريبة




.. البنتاغون يؤكد بناء رصيف بحري جنوب قطاع غزة وحماس تتعهد بمقا