الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مسكويه فيلسوف الادباء

مهدي النجار

2006 / 8 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


من المفيد حين ندرس عطاءات أسلافنا المثقفين،أن نتذكر إن بيننا وبينهم أزمنة سحيقة وان فضاء اتهم المعرفية غير فضاءا تنا المعاصرة، هذا التذكر يجنبنا المغالطات الاسقاطية،أي إسقاط مفاهيمنا الحديثة على ما أنتجوه من طروحات وتصورات، بمعنى آخر إن إمكانيات أسلافنا العلمية هي إمكانيات ازمنتهم وظروفهم الاجتماعية وما كان بإمكانهم أن يتجاوزوها، لذا لا يمكن أن نحاكمهم أو نتحاور معهم على وفق معايير عصرنا واليات فهمنا الراهنة ،هذا ظلم ما بعده ظلم ،لان لكل فترة من فترات التاريخ تصوراتها ومعاييرها الخاصة،فعلى سبيل المثال ،نلاحظ سطحية التصورات ((العلمية)) التي توردها الفلسفة الكلاسيكية حول تطور الجنين والإنسان البيولوجي أو التصورات الخاطئة عن الأرض كونها مركز الكون أو عن الفلك والأجرام السماوية وعلاقتها بالتراتب الهرمي للعقل و وظيفتها .ليس قصدنا أن نبحث هنا عن اصل تلك التصورات وفصلها ،عن جنسها ونسبها ،كل ما هنالك هو أن نسجل ملاحظة مهمة هي إن مثل هذه التصورات البدائية لا تلزمنا بشيء على الإطلاق في زمن تسارع الاكتشافات العلمية والتقنية وتصاعد وتيرة التقدم المعرفي خاصة فيما يتعلق بالتعرف على بنية الكون اللانهائية وعمره وتمدده اللامحدود، كذلك في مجال تشريح الإنسان وعلوم الأجنة والهندسة الوراثية..الخ ،لكن الذي يشعل النار في القلب هو هذا الترهل الثقافي الاجتراري التكراري الذي تنوء بكاهله الثقافة العربية الإسلامية الراهنة والذي يتمظهر في خطابات ترقيعية ُمهلهلة مملة لم تصل الحد الأدنى من عمق وعقلانية الأسلاف ،زاعمة إن كل المعرفة والعلوم قد تم إنتاجها في الماضي وبالتالي لا تؤمن هذه الخطابات بان هناك علاقة بين التراث الثقافي وبين الزمن الذي تم إنتاجه فيه ،أي لا تكترث كثيرا لا بالظروف الاجتماعية ولا بالزمن الذي انتج هذه الفكرة دون تلك أو هذا التصور دون ذاك ،إنها منهجية تعتقد بان الأفكار تبقى كما هي منذ الأزل والى الأبد لكان الأفكار لا تتأثر بالبيئة التي تنتجها وتنتشر بها أو الزمن الذي يحتضنها من حيث الهموم والحاجات والإمكانات وهي بالضرورة مختلفة من بيئة لأخرى ومن زمن لاخر.
تمايز العصر (القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي)الذي عاش به صاحبنا الأستاذ مسكويه (أبو علي احمد بن محمد بن يعقوب مسكويه 325 ـ 421 هجري/937 ـ 1030 ميلادي )بان شهدت الثقافة العلمية والفلسفية المُستلهمة من الإغريق أو المنقولة عنهم توسعا نظريا وانتشارا وأهمية ذات أبعاد استثنائية في المناخ الإسلامي
، من جهة ثانية نلاحظ وجود جو واسع من التسامح بالنسبة لتلك الفترة،وفي هذا الجو نشهد انتشار مختلف أنواع المعارف والثقافات وتزايد تبادلها وتفاعلها وتبلورها .
إن شيوع مثل هذا التسامح في تلك الفترة يُدهشنا اليوم خصوصا إذا ما قارناه بما نشهده اليوم من ضيق عقلي وانغلاق ثقافي وتزمت فكري في شتى أنحاء العالم الإسلامي ،وهذا يشير بوضوح إلى وجود حركة فكرية عقلانية ونزعة إنسانية تضع الإنسان في مركز اهتمامها بدأت تزدهر لفترة من الزمن،ذلك إنها هزمت بعدئذ ،أي بعد القرن الخامس/الحادي عشر الميلادي،وقضي عليها من قبل الظلامية والانغلاق الفكري .
إن مسكويه كان ينتمي إلى هذا التيار الواعد (العقلانية والنزعة الإنسانية ) وقد اخضع بشكل واضح موقفه الديني إلى القوة التساؤلية الجبارة للعقل،شعار مسكويه هو : العقل أولا،بجانب ذلك كان ينتمي إلى الاتجاه المشترك لدى الصوفية الذين يعتبرون إن معرفة الذات عن طريق (( محاسبة النفس )) هي الأولي والضروري للتوصل إلى الحكمة .
إذا كان ياقوت الحموي (معجم الأدباء ) قد وجد عبارة ممتازة لوصف شخصية التوحيدي عندما قال بأنه (أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ) فان محمد اركون في كتابه الضخم والمهم جدا (نزعة الإنسية في الفكر العربي 1997 )يؤكد بان مسكويه لا يمتلك الثقافة اللغوية نفسها أو الأسلوب الأدبي الرائع نفسه الذي كان يمتلكه التوحيدي إلا انه يقترح استحقاقه في الأقل لقب ((فيلسوف الأدباء))فهو من بين كل مثقفي جيله أحد أولئك الذين ساهموا اكثر من غيره في نشر بعض الاهتمامات ذات الطبيعة الفلسفية وقد تم التراسل بين ((فيلسوف الأدباء)) أي مسكويه،و((أديب الفلاسفة)) أي التوحيدي ونتج عن ذلك كتاب ((الهوا مل والشوامل))و ألف مسكويه كتبه الأخرى ،ألف منتخبات من الحكمة : ((الحكمة الخالدة)) وتاريخا كونيا : ((تجارب الأمم)) ورسالة في الأخلاق :((تهذيب الأخلاق) ) إضافة إلى ((الفوز الأصغر)) و((الفوز الأكبر)) وكتابه(( المستوفي في الشعر)) ولا ريب في إن كتاب ((تهذيب الأخلاق)) عام 375 ـ 376هجرية/986 ـ987 ميلادية (حققه قسطنطين زريق .بيروت1966 ) هو الكتاب الأهم في إنتاج مسكويه فهو يحتل خاتمة مساره،وتتويجا لسنوات عديدة من القراءة والمراقبة والتأمل العميق وهو يجمع بين دفتيه كل المسائل والموضوعات المعالجة في مؤلفاته الأخرى ولكنها هنا مكثفة ومرتبة بطريقة معينة لكي تشكل نظاما من البناء الفلسفي ذي الضخامة التي لا يستهان بها. يقول محمد جلوب فرحان :إن مسكويه انتصر في كتابه ((تهذيب الأخلاق ))للفعل الثقافي …تضمن فعل مجابهة للمرتكزات النصية للبرنامج التربوي التقليدي عبر برنامج تربوي يُرجح الفلسفة وينحاز لمباحثها (الجدل الثقافي عند العرب) .
على ضوء ذلك يمكن وصف مسكويه بأنه مفكر مختص بصناعة الأخلاق (أو علم الأخلاق كما في مصطلحاتنا المعاصرة) وقد ألح كثيرا على تأسيس الأخلاق على الميتافيزيقا وعلم الكون، وكانت هذه الصناعة هي الأقرب إلى نفسه، يقول مسكويه في تبرير ذلك:
(( لما كان للجوهر الإنساني فعل خاص لا يشاركه فيه شيء من موجودات العالم كما بيناه فيما تقدم ،وكان الإنسان اشرف موجودا ت عالمنا ثم لم تصدر أفعاله عنه بحسب جوهره …وكان عدمه أروح من وجودها ،وجب أن تكون الصناعة التي تعني بتجويد أفعال الإنسان حتى تصدر عنه أفعاله كلها تامة بحسب جوهره ، ورفعه عن رتبة الاخس التي يستحق المقت بها من الله عز وجل والحصول في العذاب الأليم ، اشرف الصناعات وأكرمها)) (تهذيب الأخلاق).
كان درس العرب والمسلمين في فترات ازدهارهم،ومن بينهم شيخنا مسكويه ،يتركز في بحثهم الدؤوب عن أجوبة نهائية ويقينية لإشكاليات زمانهم ،لم يتضمن درسهم إثارة أسئلة تحرك الهمم دائما نحو المزيد من البحث والفتوحات المعرفية وهنا يكمن الفرق بينهم وبين فيلسوف اليونان الكبير أر سطو ،ولم تُفهم النصوص الإغريقية لذاتها وبذاتها بقدر ما كانت تفهم على ضوء حاجات المجتمع العربي الإسلامي في ذلك العصر وتلبية هذه الحاجات بالذات ،لذا تجلت الحكمة (الفلسفة) لديهم على إنها طريق للنجاة في الدار الآخرة،اكثر مما هي بحث حر،متعثر،متردد،منفتح،لا ينتهي أبدا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على تفاصيل كمين جباليا الذي أعلنت القسام فيه عن قتل وأس


.. قراءة عسكرية.. منظمة إسرائيلية تكشف عن أن عدد جرحى الاحتلال




.. المتحدث العسكري باسم أنصار الله: العمليات حققت أهدافها وكانت


.. ماذا تعرف عن طائرة -هرميس 900- التي أعلن حزب الله إسقاطها




.. استهداف قوات الاحتلال بعبوة ناسفة محلية الصنع في مخيم بلاطة