الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تصيرُ مشهورًا وجماهيريًّا؟

فاطمة ناعوت

2021 / 9 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"جاورِ السعيد، تسعد.” حكمةٌ قالها سلفُنا الحكيم، وحال تأمّلها، نجدها تصدُق حينًا، وتخفقُ حينًا. فكثيرًا ما جاور فقراءُ أغنياءَ، وتعساءُ جاوروا سعداءَ، فلا اغتنى الأولون، ولا سعِد الآخرون. أما الحكمةُ الراهنة التي قلّما تُخفق فتقول: “غازلِ المتطرفين يصفقُ لك الناسُ، واضربْ المشهور، تشتهر.” اكتبْ على صفحتك، أو اصرخ بصوت خطابي مجلجل على الفضائيات: “ابن رشد كافر"، "نجيب محفوظ زنديق"، "طه حسين ملحد"، "نصر حامد أبو زيد مُهرطق"، "فرج فودة يحاربُ الإسلام"، وسوف تجد ملايين الآذان تُنصِت لك وتكبّر وراءك وترفعك على الأعناق وتصنع منك بطلا قوميًّا وداعية وحامي لواء الدين، وخليفةَ الله على الأرض.
ليس مهمًّا أن تكون على دراية بتعريف كلمة: “مهرطق- زنديق- ملحد- كافر"، بل حبّذا لو لم تكن تعرف معانيها. لا، بل "لابد" ألا تكون على معرفة بمعانيها، وإلا فسَدَ الأمرُ كلُّه. وبكلّ تأكيد، ليس مهمًّا على الإطلاق أن تكون قد قرأت حرفًا للوليد ابن رشد، أو محفوظ، أو أبي زيد، أو طه حسين أو فرج فودة. بل "لابد" أيضًا ألا تكون قد قرأت حرفًا لأي منهم وإلا “باظت الطبخة”. فأغلب الظن أنك لا تعرف مَن هم، وماذا كتبوا، وما جنسياتهم، وما العصور التي جاءوا فيها وجادوا بفيض علمهم على أبنائها، وما هي الفاتورة الباهظة التي دفعوها من أجلك “أنت”. نعم من أجلك أنت. فلو كنتَ تعرف من هم، ما قلتَ عنهم ما قلتَ، بل ترحّمت عليهم.
منذ سنوات كنتُ في جلسة مع بعض أصدقائي من الأطباء المصريين في مدينة أبو ظبي. جاءنا شابٌّ متأنق يلبس بدلة وكرافت. قدّمه الأصدقاءُ فعلمتُ أنه مندوب شركة تأمين من إحدى الدول العربية. كنّا نناقش رواية "شجرة البؤس" للأسطورة المصرية د. طه حسين، فإذا بهذا الشاب يقول: (أنتم المصريين أمركم عجيب غريب! تفخرون بكافر! سلمت يدُ الذي قتله!) فأخبرته بدايةً أن "طه حسين" لم يُقتَل. ثم سألتُه ماذا قرأ لعميد الأدب العربي، ولماذا كفّره؟! فأعلن بتعالٍ وفخر بأنه لا يقرأ للكفار!
هذا المندوب الذي يرتزق من أعمار الناس بإقناعهم بعمل بوليصة تأمين على الحياة، أفتى بكفر إنسان واستحقاقه القتل، وهو لا يعرف مَن هو ولا ماذا كتب. ذلك النموذج منتشرٌ في الأمّة العربية، من خليجها إلى محيطها، بكل أسف. أولئك هم "السمعيون" الذين يُغذّون عقولَهم من فُتات ما يسمعون دون أن يبحثوا ويستوثقوا ويقرأوا.
لاحظتُ أن معظم من يكفرونني ويسبّونني على صفحات التواصل الاجتماعي يكتبون اسمي: (نعوت). ماذا يعني هذا؟ يعني أنهم "سمعوا" الاسم، فكتبوه على "السمع"، ولم "يقرأوه" مكتوبًا على مقال أو كتاب أو بحث أو قصيدة. فكيف يجد امرؤٌ الجرأةَ أن يرميني بالكفر وهو "لم" يقرأ لي كتابًا ولا مقالا؟ الإجابة ببساطة أنه "سمع" بكفري، من "مستمع" آخر، وهذا بدوره كوّن رأيه عني "سماعًا" من "مستمع" آخر لم يقرأني، وهلمّ جرّا. لكن أحدًا منهم لم يقرأ اسمي مطبوعًا على كتاب أو جريدة، فضلا عن قراءة آرائي وأفكاري التي يظنها حربًا على الدين، وأظنُّها حربًا على مُشوهي الدين. لكنه ببساطة منح نفسه الحق في تكفيري، ولو تمكّن مني لقتلني ليدخل الجنة، وفق ظنه.
مَن قتل "فرج فودة"، تبيّن للقضاة أنه "أميٌّ" لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه متيقّنٌ كل اليقين من كفر "فرج فوده" فأفرغ رصاصَ مسدسه في قلب مفكر إسلامي كبير، دافع عن الإسلام بدمه ضد مشوهي الإسلام. والذي طعن "نجيب محفوظ" لم يدر إن كان روائيًّا أم طبيبًا أم ساعي بريد، لكنه "سمع" أنه كافر فرشق خنجره الآثم في عنق الكهل المسنّ الذي حمل لمصر مجدَ "نوبل”. والذي قاضاني يخطئ في كتابة لفظ الجلالة، (الله) فيكتبه (اللة)، حاشاه، ثم يزعم أنه يدافع عن الإسلام، وهو لم يقرأ القرآنَ الكريم، الذي تُستهلُّ جميعُ سورِه باسم الله، إلا سورة "التوبة".
إنها المزايدةُ الرخيصة ومغازلةُ موجة التطرف والإرهاب الفكري، والاستسهالُ في هدر الدم والتكفير ومنح النفس حقَّ محاسبة الناس ودينونتهم عن جهالة، وكذلك سوء استخدام حقّ التقاضي الذي يسمح لكل "مستمع" لا "يقرأ" أن يقاضي كاتبًا أو مفكرًا أو أديبًا، دون أن "يقرأ" له حرفًا. فيُحكم على ذلك الأديب بالسجن أو تقضي عليه رصاصةٌ أو طعنة خنجر عمياء. التنويرُ هو الحلُّ الذي به تنهضُ الأمم. “الدينُ لله والوطنُ لمن يحبُّ الوطن".

***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي