الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاكمة القاتل

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 9 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
٨٠ - المحاكمة

في الجزء الثاني من الكتاب، ميرسو يصف أيامه في السجن وساعات التحقيق معه وبناء القضية قبل المحاكمة والذي استغرق أكثر من عام كامل. ولم يظهر أية علامة من علامات الندم أو الأسف على قتله إنسانا بدون سبب ظاهر. إنه فقط يشعر بالملل والضجر كلما بدأ التحقيق معه وسؤاله عن سبب عمليه القتل المجاني التي قام بها في ذلك اليوم من أيام الصيف الساخنة على الشاطيء. ويلقي التحقيق الضوء على تفاصيل لم ينكرها ميرسو، مثل أنه لم يبك أثناء سماعه بخبر وفاة أمه، وأمام جثمانها في التابوت كان يدخن ويشرب القهوة بالحليب، وفي اليوم التالي لدفنها يذهب إلى المسبح للترفيه عن نفسه وليشاهد فيلما فكاهيا مع عشيقته الجديدة التي يقضي معها الليلة في شقته. وأكد التحقيق على علاقته بريمون الذي يبدو أنه يشتغل في الدعارة ويستغل بعض النساء، وأن ميرسو قد ساعده بأن كتب رسالة لعشيقته - والتي كانت ضحية - والتي يشهد ضدها لصالح ريمون في مركز الشرطة. وتبدو الجريمة في نهاية الأمر كجريمة تصفية حساب عادية، ارتكبها ميرسو لصالح صديقه ولينتقم من العربي الذي أراد أن يحمي أخته وينقذها من براثن قوادها. وتحكم عليه المحكمة بالإعدام، وأثناء فترة إنتظاره تنفيذ الحكم وترقب صوت خطوات الجلاد في الممر، أكتشف ميرسو جمال الحياة وروعتها، اللذة في تدخين سيجارة وقهوة الصباح وقراءة الجريدة وممارسة الحب مع ماري. وفي إنتظار تنفيذ الإعدام بحقه، حاول القسيس أن يقابله ليعرض عليه العودة إلى الله، ورغم رفض ميرسو مقابلته إلا أنه يدخل زنزانته قسرا وبدون إذن آملا تحويل ميرسو من الإلحاد للإيمان، أو من اللامبالاة للإحساس بالندم وطلب المغفرة. لكن ميرسو قابله بالرفض الجازم، وأكد للقسيس ألا فائدة من الرب، وأنه مجرد مضيعة للوقت، الا ان القسيس أصر على مونولوجه الأخلاقي مما أثار إستياء ميرسو، ونجح القسيس في أن يثير غضب ميرسو الذي هاجمه وكاد يقتله خنقا مفرجا عن حنقه. وبعد ذلك يشعر ميرسو بالهدوء والأمان. وفي الصفحة الأخيرة من الرواية، للمرة الأولى منذ وقت طويل فكر ميرسو في أمه، وخيل إليه بأنه قد فهم لماذا حاولت بدأ حياتها من جديد، " هناك، هناك أيضا، حول هذا المأوى الذي كانت فيه حيوات تنطفيء، كان المساء شبيها بهدنة كئيبة. لا بد أن أمي، وقد أقتربت هذا القرب من الموت، كانت تخس نفسها محررة ومستعدة لأن تعيش كل شيء من جديد. لم يكن لأحد، لأحد على الإطلاق، الحق في أن يبكي عليها." ويعترف في نهاية الأمر بأنه عاش سعيدا طوال حياته وأنه لا يريد أي شيء آخر سوى أن يكون هناك جمهور غفير معاد له أثناء طقوس إعدامه.
الكتاب كله مبني على المشهد الرئيسي وهو قتل العربي والذي يقع في نهاية الجزء الأول المقسم إلى ستة فصول والمكون من حوالي ٩٠ صفحة، ونفس عدد الصفحات في الجزء الثاني الذي يحتوي خمسة فصول، وكأن كامو يبحث عن نوع من التناظر والتقابل الشكلي بين حياة ميرسو قبل وما بعد عملية القتل.أندريه مالرو، الروائي الفرنسي الذي سيصير لاحقاً وزير ثقافة في حكومة شارل ديغول، والذي أطلع على مخطوطة الرواية، في ملاحظاته الإيجابية إلى كامو، نصحه التركيز على مشهد القتل؛ حيث طلب من الكاتب أن "يُقوّي حدّة الشمس ولمعانها على المعدن وتأثيرها على ميرسو".
فالأحداث الأولى يسردها ميرسو بطريقة موضوعية محايدة لدرجة الرعب، بينما في الفصل الثاني نفس الأحداث تحكى من زاوية نظر جديدة، القاضي والمحامي العام ومحامي ميرسو والشهود. ونلاحظ أيضا من الناحية الزمنية، الجزء الأول والذي يبدأ بموت والدة ميرسو وحتى إغتيال العربي تدور أحداثه خلال ثمانية عشرة يوما من أيام الصيف، أما الفصل الثاني والذي ينتهي بدوره بموت ميرسو فإنه يأخذ عاما كاملا حتى الصيف التالي. الموت هنا محطات أساسية لزمن الرواية، موت الأم، قتل العربي، ثم إعدام القاتل، وكأن القضية هي قضية الموت، ليس الموت كقضية وجودية عاشها ميرسو وإنما كإشكالية ميتافيزيقية أو كتراجيديا يونانية تجريدية. الأم ماتت قبل بداية الرواية ولا نعرف عنها سوى القليل، العربي بدوره لا نعرف عنه شيئا، بل ولا نعرف حتى إسمه. هذا الملخص السريع لأحداث القصة لا يمكن أن يعطي صورة واضحة عن كل جوانب النص الشكلية والفنية وخلفيتها السياسية والإجتماعية. لقد أراد كامو أن يقدم لنا ويعرفنا على نموذج الإنسان العبثي أو الإنسان الذي يعيش مواقف عبثية ووصف ظاهرة العبثية ذاتها من خلال تجربة الشخصية الرئيسية في الرواية "ميرسو"، الذي يدفن والدته التي وضعها في مأوى العجزة منذ سنوات، ثم يلتقى بماري في اليوم التالي ويسبحان معا ثم يذهبان للسينما ويمارسان الحب في تلك الليلة، وبعد عدة أيام يطلق خمسة رصاصات على رجل على الشاطيء لا يعرفه ولا يعرف حتى إسمه، ثم يقضي عدة شهور في السجن وتحكم عليه المحكمة في النهاية بالإعدام، ولكنه في نهاية الأمر لقد كان راضيا بحياته. ميرسو يعيش كل هذه الأحداث بطريقة هادئة وشديدة البرود وبدون أي إنفعال وكأن الأمر لا يعنيه مباشرة، إنه يعيش خارج حدود العالم الإجتماعي، وكأنه يطفو على سطح الأشياء والأحداث دون أن يلمسها. الواقع عنده هو تتابع الأحداث دون رابط بينها وكل حدث مستقل عما قبله وما بعده وكأنه ألغى تتابع الأحداث وقوانين السببية. تسأله ماري إن كان يحبها، لم يضحك، فقط قال أنه لا يعتقد ذلك. وعندما تطلب منه أن يتزوجها يقول لها بأنه لا يؤمن بالزواج، وأن الزواج والحب أشياء لا معنى لها، ولكنه سيتزوجها إذا أرادت ذلك. وكأنه لا يريد أن يلتزم أو يأخذ أي قرار من شأنه أن يغير حياته الروتينيه. حتى في العمل، عندما يعرض عليه رئيسه في الشركة أن يرسله إلى باريس لأنه يريد أن يفتح فرعا جديدا للشركة هناك، فإن ميرسو يرفض العرض قائلا بأنه لا يجد مبررا لتغيير حياته وأنه مقتنع وراض بحياته كما هي. وأثناء المحاكمة بدأ يستمع إلى الأحداث التي مرت به في هذه الأيام الصيفية قبل عملية الإغتيال من وجهة نظر قاضي التحقيق والمحامي والشهود، بدا له الأمر كأنهم يتحدثون عن شخص أخر لا علاقة له به.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. استعدادات إسرائيلية ومؤشرات على تصعيد محتمل مع حزب الله | #غ


.. سائق بن غفير يتجاوز إشارة حمراء ما تسبب بحادث أدى إلى إصابة




.. قراءة عسكرية.. المنطقة الوسطى من قطاع غزة تتعرض لأحزمة نارية


.. السيارات الكهربائية تفجر حربا جديدة بين الصين والغرب




.. طلاب أميركيون للعربية: نحن هنا لدعم فلسطين وغزة