الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العملية الإبداعية بين استبداد العقل وازدواجية المثقف العربي

هاتف جنابي

2006 / 8 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


(1)
المقدمة

بدءا، نرى من الحكمة أن نشير إلى صعوبة التفريق تماما، بين العقل كبنية فوقية(فكرا وممارسة ذهنية) وبين العقل كبنية تحتية(كوعاء وتكوين من الناحية الفزيولوجية والجنسية)، لأننا بمجرد التفريق على هذا الأساس سنكون مضطرين لبحث طبيعة الجنس العربي، وهذه المسألة ليست من أولويات هذا البحث. لا ننوي أيضا التحدث عن أزمة في بنية العقل العربي؛ لأن الأزمة المفترضة لا تحدث، عادة، في البناء كوعاء(قد يكون قاصرا أو عاجزا) وإنما في محتواه، وإن حدثت في الوعاء فهذا يعني أن الجنس الذي ينتمي إليه متخلف قياسا بالأجناس الأخرى. وقد تحدث الأزمة في طريقة التفكير والنظر للأشياء والعالم وفي تقييمهما، في المعايير التي قد يفرزها العقل ويستند إليها الفرد في تفكيره وسلوكه، والتي قد تبدو في شكلها ومحتواها انعكاسا لفاعلية عقلية ما.
كما أنني هنا لا أنوي التحدث عن أزمة بذاتها في الإبداع العربي، وكأنني أوحي بعقم الفكر العربي، فثمة حالات ابداعية وفكرية تستحق التوقف عندها من قبل النقاد والدارسين. غير أنني أشعر منذ سنوات عديدة (يشاركني في ذلك عديد متزايد من المثقفين العرب)، بعد قراءة وتأمل متواصلين في المسيرة الفكرية والعلمية والثقافية العربية، أن هناك خللا؛ ثمة عجز عن إدراك أشياء وتجاهل أشياء مهمة أخرى، ثمة تأكيد على أمور آنية وماورائية وتجاهل أخرى مفصلية وجوهرية تخص الكون والوجود ومصير وحرية الإنسان العربي وسواه، ثمة تقلب سريع غير مبرر في الآراء والمواقف، ثمة نزعة عصبية، وتآمرية، وتهميشية، وازدواجية في السلوك، وتعدد وجوه الشخص الواحد(أهي حالة انفصام أم ماذا؟)، ثمة عشائرية وحزبية فكرية وسياسية وتفكك في البنية والمنظومة الفكرية والثقافية العربية، ثمة تسطيح للأفكار وجمود يرقى إلى التحجر وسادوماسوخية في داخل كل واحد، ثمة شيء مقلق ومحير تفاقم حتى شكّل ظاهرة في الحياة العربية، ثقافيا، علميا، سياسيا واجتماعيا. إن القضية تبدو متشعبة ومتشابكة هنا وهناك، غير أننا نعتقد أن لا مفرّ من تسليط الضوء على بنية وطبيعة العقل العربي ذاته.

الاجتهاد والنظام المعرفي

كان الشرقيون ومنهم العرب يجمعون ما بين العقل والقلب، فهم لم ينظروا إلى القلب على أنه مجرد جهاز مستقل، ولذا حمّلوه بمشاعر وعواطف، وبصيرة هي من بنات العقل قبل كل شيء، ويبدو أن هذا الفهم له علاقة بنظرة بدائية مشتركة بين كافة الشعوب البدائية من جهة، وبجوهر الدين الإسلامي الذي يجمع ما بين الديني والدنيوي الذي يعطي الحدس من جانب آخر مكانة ملحوظة، يقابلها عدم وثوق كلي بالعقل وبمعطياته التي تظل بنظر المشرعين المسلمين غير كاملة ودقيقة. وقد يكون مرجع عدم الوثوق بالعقل ناجما عن التخوف من العملية العقلية ذاتها التي تجابه المقدس من خلال محاججته والتشكك به. مقابل هذا التصور، نجد أن الفكر الأوروبي، في القرون الأربعة الأخيرة بصفة خاصة، قد انحرف عن الحدس لصالح مبدأ الشك، معترفا بسيادة العقل.
إن ثنائية الحدس الديني والعقل اللاهوتي تتجلى في أوضح صورها في الإسلام
إذا كان ابن تيمية مؤثرا حتى الآن في العالم الإسلامي، فإن الفقيه الشافعي(ت سنة 204 هجرية) لا يقل عنه تأثيرا، فهو الذي بحث في الجوانب التشريعية والفقهية للقرآن، ويعتبر"المشرّع الأكبر للعقل العربي" ، لأنه استنبط الأصول الأربعة: القرآن، السنّة، الإجماع والقياس التي يسير عليها حتى اليوم أغلبية العالم الإسلامي. لأنه ما إن حل القرن الثالث الهجري حتى أصبحت صورة المذاهب أكثر تبلورا، ولربما رسوخا من ذي قبل. لكن "هذه المذاهب المتلاقية شرعت تتباعد برجالها، وتتجافى بالقائمين عليها، والمنتسبين إليها،، ببدء شيوع فكرة التقليد للمذهب والتعصب لرجاله والمناظرات التي اتخذت قاعدتها أن تعرف الحق بالرجال، لا أن تعرف الرجال بالحق" هذا يعني، أن كل شيء من هنا فصاعدا (ما دام الأمر قد أصبح واضحا للمسلم) يرجع إلى أصول واضحة معلومة لا يمكن المحيد عنها، سواء كانت الأصول أربعة أو أكثر أو أقل، فثمة مرجعية نصية مقدسة وهي الأساس وما عداها فهو تابع أو دائر في فلكها. وعلى هذا، فقد كان لا بد من جهد ومثابرة بليغين لكي تُثبت هذه الأصول. ولذا نرى أن جل جهود النحاة والفقهاء والمتكلمين وأهل الرأي وسواهم، قد انصبتْ في القرون الأولى للإسلام على علوم اللغة والدين، وعلى كل ما يمكن أن يسندها من شعر ونصوص أدبية، معتبرين القرآن والسنة مرجعا أساسيا للتشريع والفقه والإلهام. من هذا المنطلق جرى التركيز على ما يسمى بالعلوم الاستدلالية الصرفة، من نحو وفقه وكلام وبلاغة وغيرها من فنون القول والأدب. فكانت الأبحاث الأولى منصبة(بطبيعة الحال) على تفسير النص القرآني والشعري من جهة، وعلى تبيان أسس وحيثيات قيام النص من جهة أخرى. على أن المناخ العام في البحث والتأليف، خلال القرون الأولى الإسلامية، كان مكرسا لوضع أصول وأسس ما يُسمّى ب"علم البيان" وتثبيته كعقل معرفي يُرجع إليه في فهم واستيعاب الأصل.
وقد رأينا أنه بالرغم من تأكيد القرآن والسنة على أهمية المعرفة والعقل في الحياة الإنسانية، وبالرغم من الدور المتميز الذي أولاه للعقل الحكماء والمتكلمون والمعتزلة، على الخصوص، إلا أنه لم يوظف توظيفا ديناميكيا، ولم يستغل بمرونة كما ينبغي في تشكيل "المعرفة الإسلامية". لقد ظل العقل أسير المقدس وخاضعا لتجلياته من جهة ولقراءته الأحادية الجانب، وتأويله من لدن الفقهاء، على أساس أن الكمال للمقدس وحده، وأن الحقيقة من جوهره. وهذا يعني أيضا، أن اكتساب المعرفة يحقق عبر التركيز على الحدس وعلى العقل بالاستناد إلى الأصل القرآني كمسلمة ومرجع لا محيد عنه ولا مجال لمحاججته أو التشكيك فيه. لقد كان العقل مقبولا بالقدر الذي كان يخدم فيه الفقه والتشريع ويدعم صحة ما جاء في القرآن والسنّة والتماهي معهما، وما عدا ذلك فهو مرفوض أو مشكوك فيه. بعبارة أخرى أشد وضوحا، وظف العقل تماما لخدمة الأصل (القرآني) باعتباره يمثل الإرادة الخالقة الكاملة المنزهة التي تمثل الخير بأسمى معانيه وصوره. لقد جرى نقل تعاليم تلكم الإرادة إلى الواقع؛ إلى الحياة اليومية، فحددت أبعاد النص القرآني والسنة، خلال القرون الثلاثة الأولى على وجه الخصوص. إلا أن المشكلة نشأت، باعتقادنا، حينما تم ربط الغيبي بالواقعي، بإعطائه أولوية وأحقية أبريورية، وبشكل سرمدي غير خاضع للمناقشة والمراجعة أو إبداء الرأي. وبما أن الغيبي يتمثل بنص لغوي – ديني، فإن اللغة صارت مقدسة أيضا إذ فقدت ما لها من استقلالية ذاتية، بحيث يمكن تعديلها أو المساس بقواعدها، خوفا من المس بالمقدس، وهذا ما يفسر لنا إلى حد ما أسباب تعثر وبطء تطور اللغة العربية. بعد أن تم خلط الغيبي بالعلمي وبالواقعي، بات الأمر محسوما لصالح الفقهاء والمتكلمين في معركتهم ضد النزعات العقلية(كالمعتزلة) مثلا. لقد تحول الدين إلى مجرد منظم للعلاقة بين الخالق والإنسان، وبين الإنسان والإنسان، ونتيجة لذلك وسواه، "أغفل جانب الحق والباطل في الدين الإسلامي الذي هو أهم جانب فيه وأقواه"
ولم تفلت اللغة العربية من هذا الجو الذي ساد الفكر. يذهب محمد عابد الجابري إلى أن الجملة العربية، اسمية كانت أو فعلية، أصبحت معنية بإصدار بيان، وليس بإصدار حكم كما هو الحال في اللغات الآرية.
لقد أحيطت اللغة وأساليبها بهالة استثنائية باعتبارها لغة القرآن والسنّة، وجرى تغليب اللفظ على المعنى تارة، كما فعل الجاحظ وأبو هلال العسكري وابن رشيق القيرواني وغيرهم. والمزج بين اللفظ والمعنى تارة أخرى، كما فعل أبو حيان التوحيدي وأبو هاشم الجبائي.
قسّم عبد القاهر الجرجاني الكلام على ضربين: ضرب يدل عليه اللفظ وآخر مخفي في داخل اللفظ نفسه.
ومهما يكن من أمر، فقد تم خلال القرون الخمسة الأولى على الخصوص، تشكيل نظام معرفي عربي-إسلامي يستند إلى أصول واضحة راسخةـ تعتمد على النص القرآني والسنة، وما كان دور الفقهاء والمتكلمين واللغويين سوى تثبيت تشكيلة واسعة من القيم والمفاهيم والتصورات، بله حتى التخيلات (التي شملت السلوك وكافة مرافق الحياة الدينية والدنيوية) والدفاع عنها عند الضرورة. كان هذا الأمر بحد ذاته إنجازا كبيرا، على صعيد اللغة والفقه والتشريع والتفسير ووضع المباديء العامة للجماعة. إنما الإشكالية التي نحن بصددها تمس دور العقل العربي المحيرفي تلك الفترة وما يليها، فالمسلمون، ممثلين بمذاهبهم المعروفة من أهل السنة والأشاعرة والمعتزلة وسواهم، لم يحتكموا إلى الأحكام العقلية تماما، ولم يتجاوز الاجتهاد عندهم حدود الموازنة ما بين نظام النص ونظام العقل. أي أن الفعالية العقلية آنذاك لم تكن مستقلة، لا كليّا ولا ذاتيا، عن هيمنة واستبداد المقدس. لم يمنح للعقل حيز أكبر في مسيرة المعرفة وإعمال الفكر. لأن ذلك يعني بلورة سابقة وممارسة فتجربة خطيرة بالنسبة للسائد، تحتكم إلى مبدأ حرية الاختيار المرفوعة وعيا عقليا ومعرفيا. الذي حصل كان عبارة عن مطابقة ما بين "نظام اللغة ونظام العقل، بين النحو والمنطق".
لقد سيطر هذا التصور بله النظام على الحياة الفكرية، خصوصا في أوساط أهل السنة، لأن المتصوفة والتيارات الباطنية، وإلى حد ما الشيعة، قد تجاوزت الشريعة والنظام المعرفي السائد(فلنقل من الآن: التأويل الديني المُتبنى رسميا) آنذاك، برجوعها إلى ما هو مخفي وكشفي وإلى تأويلات بعيدة ومخالفة لما هو سائد، في مقاطعها الكبيرة. ورغم أن الشيعة قد فسحوا، أكثر من سواهم، المجال للاجتهاد، إلا أنهم ظلوا هنا وهناك أسيري تخريجاتهم، كما ولم يبتعدوا في النظر إلى الحقيقة الكلية والمعرفة، عن محورين هما: محور المعرفة الرسمية السائدة من علوم اللغة والدين والفقه، ومحور الكشف عما هو وراء ظاهر النص، وهذا ما يمكن أن يصطلح عليه ب"التأويل الشيعي" أي تفسير النص القرآني والنظر للسنة وفقا لمرجعية دينية يعتقدون أنها أولى من سواها بتسيير الشؤون الدينية والدنيوية ، بقسط من التضخيم أو التفخيم غير المجدي والمضر بعواقبه أحيانا. أقصد ما أسميه " التمددية الاستحواذية السلبية"؛ أي منح المرجعية الدينية ما هو من حق وواجب الآخر الدنيوي، خصوصا أهل السياسة والإدارة. هذا يعني تأسيس نظام معرفي أحادي الجانب أيضا، تتم فيه وعبره الاستفادة من إعمال المخيلة والتخييل، والتمسك ببعض التخريجات والتصورات والتأويلات(المنافية للمنطق والواقع أحيانا) لبعض الأمور الغامضة في السنة والنص القرآني على وجه الخصوص.
غير أن التأويل الشيعي(باستثناء بعض الحالات) لم تدجنه وتمسخه السلطة، لأنه بقي خارج النظامين المعرفي والسياسي السائدين. وعليه فهو تأويل ذو منحى سياسي معارض، يمثل مرجعية دينية غير سلطوية.
لقد وظفت المعرفة من قبل النظام السائد آنذاك لبحث العلاقة بين الخالق والإنسان، وبين بني البشر أنفسهم، ثم جرى تنظيم تلك العلاقة بدقة، بحيث لم يعد ثمة مجال للنقد والمراجعة أو لإعادة النظر فيما جرى تقريره في عصر وزمن غير زماننا. وعلى ضوء ذلك جرى فهم "حدود الله على أساس حدي لا حدودي أوقع العقل العربي في مواقف حدية دائما، فأصبح هذا العقل لا يرى إلا الأبيض والأسود... وابتعد عن مفهوم الوسط...وعن مفهوم الديمقراطية وإجماع أكثرية الناس على التشريع المقترح".
لقد أصبحت السلطة بمرور الوقت، بغض النظر عن مثالبها، محصنة ومدعومة بثبوتية النظام المعرفي الديني الرسمي السائد. هذه الثبوتية المدعومة باستحواذ سياسي جعل المؤسسة الرسمية مجوفة من الداخل، شكاكة فيما عداها، ومفتقدة للإقدام والمبادرة ومرهونة بآلية الحفاظ على السلطة حتى ولو كلفها ذلك خيانة شرف المقدس.


(2)
وإذا اتفقنا مبدئيا مع (هاملتون جيب) في أن من دواعي نجاح الدعوة المحمدية كان مستوى الفهم العقلي العام(وليس العلمي)الذي"ارتقى لدى كثير من مستمعيه {محمد}إلى درجة أن الرموز القديمة والشعائر أصبحت فارغة من معناها وقيمتها ولم تعد تروي ظمأهم إلى ما يجثم وراء الحوادث الظاهرة" ، فإن هذه العقلية وسواها قد جرى استنزافها واستنفاد طاقاتها ، ليس في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى وحسب، كما ذكر جيب، وإنما خلال القرون الخمسة الأولى، أي حتى رحيل أبي حامد الغزالي الذي يعتبره المفكر (محمد عابد الجابري) مسؤولا عن تدشين"مرحلة الانحطاط" التي عمّت المنطقة العربية. لأنه قد مارس "عملية التفكيك وإعادة توزيع القطاعات المعرفية في الثقافة العربية بوعي وبصورة ممنهجة"
في واقع الأمر نرى مثل هذه الإرهاصات في مطلع الإسلام متمثلة في تقويض رموز الثقافة العربية الوثنية الدينية والمادية المنسوبة إلى العصر الجاهلي. وسواء اتفقنا مع هذا التشخيص أم لا، فإن الدور الذي لعبه الغزالي في ترسيخ وتدعيم سلطة التقليد المسنودة بالنص في النظام المعرفي العربي الإسلامي الرسمي كان مفصليا وهاما للغاية. لقد أدى هذا الدور إلى زعزعة الإيمان بالعقل وإلى تحجيم دورالفلاسفة والفلسفة التي طالما كان يسخر منها ويقلل من أهميتها. لقد تجنب الغزالي كل ما من شأنه إثارة التناقض الذي يعتبر العمود الفقري لحرية الجدال وأساسا للوجود، والقرآن كان مثالا للموزانة ما بين هذه المتناقضات. لم يُعر الغزالي مبدأ السببية أهمية في منهاجه الذي كرسه لخدمة النظام المعرفي السائد، هذا النظام الذي وصل بعد الغزالي إلى ذروة تطوره، ولم يعد قادرا على النمو أبعد من ذلك، بل صار منذ نهاية القرن الرابع الهجري سُدّا في وجه أية محاولة عقلية أو رؤيوية مغايرة للسائد.
ومن الجدير ذكره هو أن انفتاح العرب على الثقافات الأخرى، خصوصا اليونانية، تم بعد أن ترسخ النظام المعرفي العربي الإسلامي. غير أن حركة الترجمة التي نشطت في زمن المأمون قد خلقت هي الأخرى حركة فكرية – علمية ذات منحى فكري – فلسفي قائم على الجدل العقلي والمحاججة، وعلى مبدأ السببية والمقدمات والنتائج، وهذا الجو الجديد، مضافا إليه بعض التوجهات السياسية، وتنامي دور المعتزلة، هو الذي دفع الخليفة المأمون إلى الانحياز إلى فكرة "خلق القرآن" الأمر الذي قاد إلى تناقض بينه وبين الفقهاء، حتى أنه أمر بسجن أحمد بن حنبل لاختلافهما في الرأي.
كانت التفاعلات والجدل الفكري أمرا طبيعيا نظرا للتطور والتنوع الذي وسم الحياة العربية الإسلامية في العصر العباسي الأول، على وجه الخصوص. ففي الوقت الذي كان فيه ابن سينا(ت سنة 428 هجرية) يحاول التوفيق بين الدين الإسلامي والفلسفة الإغريقية، كان ابن حزم (ت 456 هجرية) يرفض التقليد ويدعو إلى التمسك بالجذور أو الأصول وبالاعتماد على الحجج العقلية. وكما كان (ابن رشد) قد اعتمد منهجا عقليا مرنا أدى إلى رفع العلوم وإعلاء شأن العقل، وانتقد الغزالي والنظام المعرفي السائد آنذاك. كان (ابن خلدون) قد أسس منهجا علميا جديدا في دراسة التاريخ. وهكذا أصبحنا أمام حركتين: تتمثل الأولى بسلطة التقليد وتسمى مرة "الأصولية" ومرة "السلفية" وهي تنضوي تحت نظام معرفي "بياني" واحد سائد، وحركة ذات منحى عقلاني انتقادي لم تتمكن من إزاحة الحركة الأولى، كما أنها تتواصل فيما بعد لأسباب عديدة. لعل أهمها هو انهيار المراكز الحضارية العربية الإسلامية واحدة تلو الأخرى، مما حوّل الحركة الأولى إلى نظام معرفي مهيمن ومسيطر على العقلية السياسية والشعبية.
الشيء الذي نخلص إليه هو أن النظام"التقليدي" المذكور كان مرتبطا بالإسلام كعقيدة وكجوهر باديء الأمر، مهملا حرية الإنسان في الاختيار، متدخلا في شؤونه الشخصية وتفاصيل حياته، ملاحقا إياه، تحت ذريعة تنظيم العلاقة بينه وبين الخالق. ثم انعطف هذا النظام في العصر الأموي ليصبح نظاما مرتبطا بالسلطة السياسية والإدارية بشكل وثيق، بحيث جرى توظيفه سياسيا وأيديولوجيا، وأخذ يستعين بمظلة السلطة المبسوطة في التطبيق، الأمر الذي كان من بين أهم الأسباب التي جعلته سائدا في عملية تبادل للأدوار بينه وبين السلطة. وعليه"فإن الاستبداد الذي عانى منه العقل البياني استبدادان: استبداد الحكام بالسياسة واستبداد السلف بالمعرفة". فمنذ موت الخليفة (عثمان بن عفان) أصبح المجتمع العربي الإسلامي يشكك بالفكر المغاير ويلاحقه، وبعدها صار أتّباع القرآن والسنة والإجماع فرضا، آل بموجبه الإجماع إلى ما سنه الفقهاء بدعم من النظام. إن الإجماع كان يعني أول الأمر إجماع الأكثرية على تشريع معين مرتبط بظروف محددة، ثم صارت فكرة الإجماع بعد عصر الخلفاء الراشدين شكلية تماما، ولم تخضع التشريعات فيما بعد لإجماع حقيقي للأكثرية.
وعليه فمنذ العصر الأموي ارتبطت الثقافة العربية بالمؤسسة الرسمية السياسية(المحتكمة إلى المرجعية الدينية) وسارت معها جنبا إلى جنب، وما إن سقطت المؤسسة السياسية حتى انهارت معها. وقد أدى هذا الانهيار من جهة إلى انكماش وجمود الحركة العقلية والعلمية، لانعدام شروط مواصلة الجهد الفكري الذي قادته "الحركة العقلية الانتقادية"، ومن جهة أخرى، حصل على الصعيد الاجتما- سياسي انفصام بين الدولة والمجتمع؛ بين الدولة والمواطن، فلم تعد الدولة تمثله، وبين الفقيه وسُنة التطور، وبينه وبين جوهر الإسلام. وصارت الدولة سلطانية يقابلها حلم العودة إلى الخلافة (أو الإمامة الشرعية) غير المنجزة، كما يذهب العروي.
أما على الصعيد الفردي فقد حصل انكسار داخل الشخصية العربية، واتسعت الهوة بين الواقع والطموح أو الحلم المشروع، بحيث صار الجوهر الإسلامي الذي يقارب بمعقولية بين الميتافيزيقي والواقعي(بين السماء والأرض) مجرد فكرة خيالية وحلم طوباوي يصعب تحقيقه، في ظل واقع يبدو أنه صورة مزيفة ومشوهة لذلك الجوهر – الحلم.
لقد قدمت دراسات متعددة للمجهود الفكري والعلمي العربي الإسلامي، لكن ما قُدّم من دراسة لطبيعة وبنية العقلية العربية ما زال ضئيلا قياسا بحجم المشكلة وأهميتها.
الملاحظ هو أن العقلية العربية المعاصرة تزداد تفككا وفوضى وعجزا، بحيث أصبحت تفتقر إلى المرونة ونقد الذات. وعلى هذا فإن دراسة ابن خلدون في المقدمة التي مرّ عليها عدة قرون تبدو ذات أهمية بالغة في تسليط الضوء على مسائل مازالت حيوية، كالعلاقة بين التحولات الاجتماعية والنفسية وتطور العمران، والعلاقة ما بين الحضارة والبداوة التي ماتزال تتحكم بالعقلية العربية المتنفذة (بحكم الثروة) وسواها حتى اليوم.
وفي ختام هذه الفقرة نود أن نصوغ بعض الاستنتاجات التي قد تساعدنا على مواصلة الفكرة الرئيسية لبحثنا، ونجملها على الوجه الآتي:
أولا- إن"النظام المعرفي العربي الإسلامي" الذي تأسس خلال القرون الأولى الهجرية قد تمحور حول الدراسات اللغوية والفقهية والشرعية. ونتيجة لذلك تم إخضاع العقل لخدمة هذه الأغراض، قدم خلالها فكرا تأسيسيا متمثلا في نظام معرفي"بياني" تحول بمرور الوقت إلى نظام معرفي وحيد تستند إليه السلطات المتعاقبة(تقريبا) التي تحولت بدورها ، منذ العصر الأموي، إلى سلطات قمعية تعسفية ذات طابع شمولي تستعين بالدين عند الضرورة، مبتعدة عن جوهره في الوقت ذاته. وقد أدى ذلك إلى خلق حالة انفصام وفجوة بين النظام المعرفي وجوهر أصله القرآني الذي كان أكثر رأفة وتسامحا، وتحولت المعرفة إلى معين ونصير للإستبداد، ومحاربة الرأي الآخر المغاير. وكان من نتائج تلك الممارسة أن أصيبت العقلية العربية بالانكماش والشلل فيما بعد.
ثانيا- إلى جانب النظام المعرفي المذكور، نشأ تيار معرفي عقلي نقدي(على صعيد العلوم الطبيعية والفلسفية والإنسانية) كان يعتمد غالبا، على الحوار والتثاقف والاستنباط والاستقراء، ويحتكم إلى مبدأ السببية. ظهر هذا التيار منذ القرن التاسع الميلادي بوضوح فكان بمثابة ردة فعل على واقع الحال الذي مثله وعبّر عنه النظام المعرفي(الرسمي في أغلب الأحيان). كان على النزعات الجديدة أن تتحول إلى نظام معرفي بديل أو مواز ٍ يقود الحياة الفكرية العربية نحو آفاق أرحب وأغنى بالاستناد إلى العقل والعلم، بحيث يصعب احتواء العقل وكسر شوكته وتسييره وفقا لمشيئة النظام المعرفي- الديني-السياسي القائم آنذاك. غير أن اعتماد السلطات المتعاقبة على النظام المعرفي التقليدي الأول الذي عمل بشتى الوسائل والسبل على تهميش واحتواء الحركة العقلية، بل محاربتها أحيانا وتشويهها وتسفيه الفلاسفة والمفكرين والتشكيك بقدرة العقل، واعتباره عاجزا عن ادراك الكون والماورائيات بدون اللجوء إلى الأصل المقدس، أدى كل ذلك إلى تحجيم النزعات العقلية النقدية.
ثالثا- رغم تنوع الحياة الفكرية والدينية الظاهري، إلا أنها كانت تستند إلى مرجعية فقهية – معرفية تعتمد أساسا على أصول جرى سنّها وفقا للنص القرآني، والسنة، ومن ثم الإجماع، وفُرض اتّباعها، وسمح بالقياس وفقا لها لا غير. إن النظام المعرفي المذكور لم يؤسس ذاته وفقا لمبدأ حرية الاختلاف، حرية الفكر والرأي والاختيار، وإنما قام على أساس تفسير الأصل، والدفاع عنه، فتم خلط بين أمور تعود للخالق وأخرى تعود للإنسان، وأحيل كل شيء، تقريبا، للمشيئة الربانية التي انتهكت وزُيّفتْ هي الأخرى.
رابعا- تغلغل النظام المعرفي السائد في الوسط الشعبي بسبب استناده إلى المرجعية الدينية من جهة، وتوظيفه الدعم الرسمي لتثبيت مواقعه من جهة أخرى، ناهيك عن توظيفه الطقوس والخرافات والأساطير وكل ما ينتمي إلى الغيبيات. ومقابل ذلك ظلت النزعات العقلية النقدية تجربة وممارسة محصورتين وسط الخاصة أو ما يسمى بالنخبة من أهل المعرفة، وهذا ما يفسر لنا جزئيا، دواعي عدم تواصله بعد انهيار النظام الأيديولوجي العربي في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي. لقد تشبثت الذاكرة الشعبية المغيبة والمثقلة أساسا بما تعودت عليه، بما حفظته وتلقنته واعتبرته مرجعا لها، ولم يبق في ذاكرتها(في فترات الانكماش والجمود) إلا عموميات النظام المعرفي الرسمي المتقرن وسحريته التغريبية. لقد تماهت الذاكرة الجمعية الشعبية من حيث العقم والتسطيح مع جمودية وتقرن النظام المعرفي الرسمي.
خامسا – تناست الشخصية العربية في ظل اندفاع الإسلام تناقضاتها الداخلية، مما جعلها تبدو متماسكة ومتناغمة ومتسقة في أهدافها أول الأمر. فكانت أكثر ثباتا في الدفاع عما تؤمن به حتى لو كان الإيمان مخالفا للمألوف والسائد. ولنا في ذلك أمثلة عديدة متمثلة بالشخصيات الدينية والفكرية والسياسية المختلفة، التي صمدت في مواجهة حملات القمع والتقتيل التي قادها النظام السياسي ضدها. هذا الثبات على المبدأ لم يعد قائما، كما كان، في القرون السبعة الأخيرة، بل على العكس، نلاحظ نوعا من الاستسلام والانهزامية وعدم الاكتراث بما يجري. وربما ينفعنا هنا المثال البولندي. كان المواطن البولندي خلال تقسيم بولندا ما بين الجيران الثلاثة(روسيا وبروسيا والنمسا) يشعر بانفصام العرى بينه وبين السلطات الدخيلة، فلا انتماء يشده إليها ولا شعور بالتزام إزاء ما يحدث، فكان هو في وادٍ والسلطات في آخر.
سادسا- إن إشكالية "خلق القرآن" كما يبدو، قد ساهمت إلى حد ما في تعدد واختلاف وجهات النظر فيما يتعلق بدراسة العلاقة ما بين اللفظ والمعنى. فمرة فُضّل الأول على الثاني، ومرة حدث العكس، وثالثة جرى وضعهما في نفس المستوى. رافق ذلك كله عملية كبت للعقل ولحريته وللغرائز الإنسانية، رغم النفوذ الذي تمتع به المعتزلة خلال حكم المأمون والمعتصم والواثق(812- 847م). استمر الصراع داخل الفرد بين ما هو بدوي ومدني، بين ما تريده السلطة والمجتمع وما يتطلع إليه الفرد"المكبوت" في كل شيء، الذي وجد نفسه مندفعا لاتباع طرق ملتوية، أحيانا، لتبرئة نفسه ودعمها على كافة المستويات. هذه الوضعية ولدت حالة من الانفصامية والازدواجية في ذهنية ومن ثم في سلوك العربي، أخذت تنمو في الخفاء حتى ظهرت اعتبارا من العصر الأموي الذي أعاد العلاقات القبيلية ونمّاها. فكان أن وصل الفرد إلى تناقض بين ما يضمر وينوي وبين ما يفعل علنا. حدث ذلك أول الأمر في المنظومة اللغوية، وهذا قد يفسر لنا جزئيا، على الأقل، نشوء وتنوع حركة التفسير التي لا تخلو من مقاصد أيديولوجية. ومنذ القرن التاسع عشر، بعد أن وضع العقل العربي على المحك، خاصة نتيجة اصطدامه بالحضارة الأوروبية الصاعدة بدون عقد، وما تولد عنه من شعور بالعجز والاحباط والنقص والانبهار معا، أصبحت الازدواجية والانفصامية سمة بارزة في شخصية المثقف العربي. انسحبت هذه الحالة على سلوك الأنظمة العربية التي تضمر شيئا وتفعل في العلن أشياء مغايرة.
(يتبع)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حماس وإسرائيل.. محادثات الفرصة الأخيرة | #غرفة_الأخبار


.. -نيويورك تايمز-: بايدن قد ينظر في تقييد بعض مبيعات الأسلحة ل




.. الاجتماع التشاوري العربي في الرياض يطالب بوقف فوري لإطلاق ال


.. منظومة -باتريوت- الأميركية.. لماذا كل هذا الإلحاح الأوكراني




.. ?وفد أمني عراقي يبدأ التحقيقات لكشف ملابسات الهجوم على حقل -