الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة اولية في فكر جوستاف لوبون 2/ 4

داود السلمان

2021 / 9 / 22
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


(2) المعتقدات الدينية في خضم تطور الحضارات
آمن الانسان، منذ فجر التاريخ، بوجود مُدبّر خالق للكون، وهذا المُدبُر يجب طاعته والتقرّب اليه بالعبادة والصلوات وبغير ذلك، ومنها انطلقت الاديان وتعددت الآلهة والمعتقدات، ثم تطورت هذه الاديان رويدًا رويدًا، حتى استحقت أن تُدرس ويُنظر في تاريخها، فأنبثق - في اقل من قرن - علم جديد، قام به عدد من الاساتذة والاكاديميين الغربيين، فسمي هذا العلم بـ "علم الاديان".
يقر جوستاف لوبون بأن تَكوَّن المعتقدات الدينية في كل وقت أهمُّ عنصر في حياة الأمم، ومن ثم في تاريخها، وكان ظهور الآلهة وموتها أعظم الحوادث التاريخية، وتُولد مع كل مبدأ ديني جديد حضارة جديدة، وما انفكت المسائل الدينية تكون من المسائل الأساسية في قديم الأجيال وحديثها، ولو حدث أن أضاعت البشرية آلهتها لكان مثل هذا الحادث في نتائجه أهم الحوادث التي تمت على وجه الأرض منذ فجر الحضارات الأولى.
لوبون يرى أنّ جميع النُّظم السياسية والاجتماعية منذ بدء الأزمنة التاريخية قامت على معتقدات دينية، وأن الآلهة مَثَّلَت الدور الأول على مَسْرَحِ العالم في كل زمن، وإذا عَدَوْتَ الحب، الذي هو دين قوي أيضًا ولكنه شخصي موقت، وجدتَ المعتقدات الدينية وحدها تؤثر في الأخلاق تأثيرًا سريعًا، وممكن أن نتبين حال أمة نَوَّمَتْهَا أوهامُها من خلال ما يطلق عليه فتوح العرب والحروب الصليبية وإسبانيا في زمن محاكم التفتيش وإنكلترا في الدور الپيوريتاني وفرنسا في ملحمة سان بارتلمي وحروب الثورة الفرنسية. وللأوهام تأثير دائم يبلغ من الشدة ما يتحول به كل مزاج نفسي تحولًا عميقًا، ولا مِراء في أن الإنسان هو الذي يَخْلُق آلهته، ولكنه إذا ما خلقها استعبدته من فوره، وليست الآلهة وليدة الخوف كما زعم لوكريس، بل هي وليدة الأمل، ولذلك تبقى ذات نفوذ أبدي.
وما توصل اليه لوبون من نتيجة (متأسفًا بذات الوقت) في كتابه "السنن النفسية لتطور الامم" أن تطور الحضارات يُحْدِثُ في الإنسان الحاضر طائفة من الاحتياجات من غير أن يَمُنُّ عليه بوسائل قضائها فيوجب بذلك سُخْطًا عامًّا في النفوس. فالتطور أصل التقدم، ولكنه أصل الاشتراكية والفوضى أيضًا؛ أي أصل ذينك التعبيرين المرهوبين اللذين يَنِمَّان على قنوط جماعات لا تستند إلى معتقد. قابِلوا بين الأوربي القلق الهائج الساخط على حظه والشرقي الراضي بمصيره، تروْا أنهما يختلفان في حالهما الروحية، والأمة تتحول إذا ما تحول طِراز تصورها ومن ثم تفكيرها وسَيْرها.
وينبهنا لوبون أنه أول ما يجب أن يبحث عنه المجتمع هو إيجاد حال نفسية تجعل الإنسان سعيدًا، وإن لم يفعل المجتمع ذلك لم يُكتب له طويل بقاء، وقد استندت جميع المجتمعات التي قامت حتى الآن إلى مَثَلٍ عالٍ قادرٍ على إخضاع النفوس، وهذه المجتمعات قد اضمحلت بعد أن عاد ذلك المثل الأعلى لا يُخْضِعُها.
يقول لوبون ومع ما تكون عليه المعتقدات من قدرة عظيمة تلوح الأخلاق القومية، دائمًا، من خلال النمط الذي تُنْتَحَل به هذه المعتقدات ومن خلال المظاهر التي تؤدي إليها، وانظروا إلى المعتقد الواحد في إنكلترا وإسبانيا وفرنسا تجدوا الفروق عظيمة جدًّا! وهل كان الإصلاح الديني ممكنًا في إسبانيا؟، وهل كانت إنكلترة تخضع لنير محاكم التفتيش الهائل؟ أفلا تُرَى بسهولة لدى الأمم التي انتحلت الإصلاح الديني أخلاقُ العروق الأساسية التي حافظت، بالرغم من تنويم المعتقدات، على صفات مزاجها النفسي الخاصة كالاستقلال والإقدام وعادة التعقل وعدم الخنوع لسيد؟.
ويرى لوبون أنه أقل تغيُّر في معتقدات الأمة يؤدِّي إلى سلسلة من التطورات في حياتها بحكم الضرورة، ومما رأيناه من أن رجال دين القرن الثامن عشر بفرنسا كانوا يَبْدُون مختلفين عن رجال القرن السابع عشر.
ويصل لوبون بنتيجة مفادها أنه إذا كان المجتمع المسنُّ يرتجُّ فوق أسسه، وكانت جميع نظمه ترتجف ارتجافًا عميقًا، فلأنه يَخْسَر بالتدريج ما قام عليه حتى الآن من المعتقدات القديمة، وهو إذا ما تم فقدُه لهذه المعتقدات حلَّت محله حضارة جديدة قائمة على إيمان جديد بحكم الضرورة، ومما يدل عليه التاريخ أن الأمم لا تعيش طويلًا بعد تواري آلهتها، وأن الحضارات التي قامت بفعل هذه الآلهة تموت معها، فلا شيء أشد تخريبًا من عَفْر الآلهة الميتة.
يريد القول لبون أن الدين هو البناء الاساس في تشيد الحضارة، فلا توجد حضارة بدون دين، فاذا اضمحل الدين ستنهار الحضارة!.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. في ظل التحول الرقمي العالمي.. أي مستقبل للكتب الإلكترونية في


.. صناعة الأزياء.. ما تأثير -الموضة السريعة- على البيئة؟




.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا


.. تصاعد ملحوظ في وتيرة العمليات العسكرية بين حزب الله وإسرائيل




.. اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مدينة الخليل لتأمين اقتحامات