الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تقاطعات بين الأديان 22 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 الأسباط

عبد المجيد حمدان

2021 / 9 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تقاطعات بين الأديان
22
إشكاليات الرسل والأنبياء
7
الأسباط

الأسباط ، كما هو معروف ، هم أبناء يعقوب - إسرائيل - الإثنا عشر من زوجاته الأربعة ؛ الأختين الشقيقتين ليئة وراحيل ، وَخادمتيهما بلهة وزلفة . ومعروف أن هؤلاء الأبناء ، كما تعددهم الآيات 23 ، 24 ، 25 ، 26 من الإصحاح الخامس والثلاثون هم : رأوبين ، شمعون ، لاوي ، يهوذا ، زبولون ، يساكر أبناء ليئة ، دان وجاد أبناء بلهة ، أشير ونفتالي أبناء زلفة ، وأخيرا يوسف وبنيامين أبناء راحيل . كما هو معروف أن هؤلاء الأبناء الإثني عشر غدوا آباء القبائل التي غادرت مصر فيما يعرف في التوراة باسم الخروج ، القبائل التي أخذت ذات التسمية ، أي أسباط بني إسرائيل . وما يثير الدهشة عند أي باحث هو أن الكتب المقدسة تضفي على هؤلاء الأسباط ، أبناء يعقوب ، صفات التقديس ، وتضعهم في مراتب الأنبياء ، ودون أن تشير لسبب واحد يبرر هذه المنحة المقدسة . وعلى أي حال ، ولما كانت سِير من اْستعرضناهم من الرسل والأنبياء قد إِكتنفتها إشكاليات خدشت هالات وصور القداسة التي أضفيت عليهم ، فإنه يمكن القول إن سيرة هؤلاء الأسباط ، كما عرضتها الكتب المقدسة ، تعج بهذه الإشكاليات التي لا تثلم فقط هالة القداسة التي لفتهم جميعا فقط ، وإنما تدشدش هذه الهالة فلا تُبقى منها أثرا . كيف ؟
1
لمحاولة الإجابة ، تعالوا نتابع نهجنا الذي دَشناه منذ إسحق ، أي البدء مع القرآن .
في القرآن ، ورد ذكر الأسباط في مواقع عدة ، ومنها أربع آيات رفعتهم لمراتب النبيين ، و 15 آية متتالية تحكي قصة تآمرهم على أخيهم يوسف ، وبما في ذلك استبدال قتله ببيعه عبدا في مصر . وتبدأ هذه الآيات ال15 من الآية 4 ، وتنتهي في الآية 18 من سورة يوسف . ولأن قصة التآمر كما توردها هذه الآيات ، تتعرض لبعض سيرة هؤلاء الأخوة العشرة وهم بعد شباب ، أي لم يكونوا قد بلغوا بعد سن النبوة ، إذاً ًفاسمحوا لي بدء رحلة البحث في سيرة هؤلاء النبيين من هنا ، أي من الآيات ال15 وهي :
{ إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين 4 قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فَيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين 5 وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وَإسحق إن ربك عليم حكيم 6 لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين 7 إذ قالوا لَيوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين 8 أُقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يَخْلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين 9 قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وَالقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين 10 قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنَّا على يوسف وإنا له لناصحون 11 أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون 12 قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون 13 قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون 14 فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون 15 وجاءوا أباهم عشاءا يبكون 16 قالوا يا أبانا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين 17 وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون 18 } .
2
والآن ، وقبل الذهاب إلى التوراة وروايتها لذات الحدث ، ومن ثم المناظرة بين الروايتين ، فقراءة الحدث والوقوف على العبر منه ، تعالوا نلقي نظرة سريعة على الرواية القرآنية ، ولنقف فيها عند دور الأب ، والذي هو نبي تحيط به كل هالات القداسة .
أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية دور الأب السلبي ، وهو النبي ، في موضوع الرؤيا التي تحدثت عنها الآية 4 . الدور الذي اكتفى فيه الأب بِنصح ابنه عدم قص رؤياه على إخوته ، محذرا إياه من إحتمالية إغواء الشيطان لهم بِاستفزازهم للتآمر عليه إن فعل . ولن نسأل لماذا لم يسرع هذا الأب لمعالجة الأمر مع أبنائه ، وهو يرى نذر تحول البغض الذي أوغر به صدورهم إلى فعل تآمري ، قد يتطور إلى فعل إجرامي نتيجة سوء تربيته هو ، إِنحيازه هو ، عدم عدله هو ، بينهم ؟ كما لا نسأل : ألم يكن يعرف ، وهو النبي ، أن عدم عدله هذا هو ما أوصلهم لوصفهم إياه بأنه على ضلال مبين ؟ أو نسأل عن كيفية ممارسته لعدم العدل ، بانحيازه لواحد من هؤلاء الأبناء ، وهو يوسف ، على حساب الآخرين ، ليبلغ تراكم سوء تربيته هذا حد جمع هؤلاء العشرة على التآمر للتخلص من أخ حجب عنهم كل أو بعض عطف أبيهم ؟ مع ذلك ، بدا من الآيات أن يوسف ، هذا الحبيب المدلل ، لم يأخذ بنصيحة أبيه وقص على إخوته رؤياه التي تضعهم في مرتبة العبيد له . فكان أن سارعوا لحبك مؤامرة التخلص منه . ويلفت الانتباه مرة أخرى أن الأب النبي واصل دوره السلبي بعد مجيئهم بخبر التخلص منه . ليسأل المرء : هل من علائم النبوة ، صفات النبوة ، سمات النبوة عدم العدل بين الأبناء ، فَتربية هؤلاء الأبناء على كره الأخ الشقيق لشقيقه ، كره تصاعد حتى قتل واحدهم الآخر ، كما حدث لأبناء آدم ؟ وفشل تربوي أدى لغضب الأب على الإبن لدرجة الحكم بالعبودية على نسله ، كما في حالة نوح ؟ والتخلي عن مسؤوليات الأب تجاه الابن ، كما فعل إبراهيم مع إسماعيل وأبنائه الآخرين ؟ وَإيغار صدر الأخ على أخيه التوأم ، فالتهديد بقتله ، كما فعل إسحق ؟ ولأن الآيات السالفة أغفلت دور الأمهات ، وهن هنا أربع ضرائر ، منهن اثنتان شقيقتان ؛ ليئة وراحيل ، والأخيرة كانت قد رحلت عن الدنيا وقت هذا الحدث الذي قصته الآيات ، فَسنؤجل السؤال هنا عن دور هؤلاء الأمهات في تربية أبنائهن ، وَسماحهن بنمو هذا البغض في قلوبهم إلى الدرجة أوصلت لاجتماع عشرة منهم على التآمر للخلاص من أخيهم ؟ ولن نسأل كيف فعلن هذا وهن هنا يحظين أيضا بِكل هذه الهالات من القداسة ، مكررات فعل من سَبقنهن ؛ حواء مع إِبنيها قابيل وهابيل . سارة مع طرد إسماعيل من جنة أبيه . رفقة مع إِبنيها التوأم عيسو ويعقوب . والشقيقتان الآن ليئة وراحيل اللتين أَعماهما صراع الضرائر لتسود علاقاتهما أفعال المكايدة ؟
3
إذاً ، وبعد هذه الشطحة في قراءة الحدث القرآني ، تعالوا نعود لمطالعة الرواية المناظرة له في التوراة .
ولأن الرواية هنا طويلة ، تستغرق إِصحاحا كاملا هو الإصحاح السابع والثلاثون ، فَسأجتهد في تلخيصه ، آملا أن يكون تلخيصا وافيا .
يبدأ الإصحاح بالإشارة إلى أن الحدث وقع ويوسف ابن 17 سنة ، وأن أباه كان يخصه بمحبته الأمر الذي أصاب يوسف بالغرور ، فَالشعور بِالاستعلاء على إخوته من جهة ، وأصاب إخوته بأمراض الحسد والغيرة منه ، فتحول هذه الغيرة إلى بغض وكره له من جهة أخرى . كما يشير الإصحاح إلى أن يوسف ، ومنذ طفولته حين كان يرعى الغنم مع إخوته أولاد الخادمتين بلهة وزلفة ، تخصص في نقل نَميمتهم ، والتي وصفها الإصحاح بِالرديئة ، إلى هذا الأب الذي لم يوقف ابنه المدلل عن فعل هذه العادة الكريهة ، الأمر الذي فاقم بُغض إخوته له . أكثر من ذلك كان يوسف يرى في مناماته أحلاماً - رؤىً - ، دأب على قصها لإخوته ، بالرغم من سوء وقعها على سمعهم . منها أنهم حزموا حزما في الحقل ، وأن حزمته قامت وانتصبت ، فما كان من حزمهم إلا أن قامت هي الأخرى ، أحاطت بحزمته وسجدت لها . أغضب هذا الحلم أخوته لأنه يعني تملكه وتسلطه عليهم : " فقال له إخوته أَلعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا . وازدادوا أيضاً بغضا له من أجل أحلامه ومن أجل كلامه " الآية 6 . وبالرغم من غضبهم وتصاعد بغضهم له ، واصل يوسف قص أحلامه عليهم ،وبما يحمل القص من مناكفة وَمماحكة تتسم بروح الاستعلاء . قال :" إني قد حلمت حلما أيضا وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي " الآية 10 . قص حلمه هذا على أبيه وإخوته " فانتهره أبوه وقال له ما هذا الحلم الذي حلمت . هل نأتي أنا وأمك وإخوتك ونسجد لك إلى الأرض ، فحسده إخوته وأما أبوه فحفظ الأمر " الآية 11 . وهكذا كان أن اجتمع حسد الإخوة مع البُغض الذي كان قد أخذ في التراكم في نفوسهم منذ فترة .
ينتقل الإصحاح بعد ذلك إلى سرد حكاية التآمر وكما يلي : يقول الإصحاح أن الإخوة انتقلوا ، من مكان سكنى أبيهم قرب الخليل ، إلى رعي غنمهم عند شكيم - نابلس . لم يرافقهم يوسف البالغ من العمر 17 سنة ، لكونه الأثير لِقلب أبيه . الإصحاح يبرر خص الأب ليوسف بهذه المحبة لكونه ابن شيخوخته ، بالرغم من أن بنيامين الشقيق الأصغر ليوسف هو من تنطبق عليه صفة ابن الشيخوخة هذه ، وأكثر، لأن بنيامين عاش يتيم الأم التي توفيت أثناء وِلادته . ولأن يوسف هو الأثير ، يقول الإصحاح ، فقد صنع الأب له قميصا ملونا أضاف لحسد الأخوة حسدا جديدا . ولكن الإصحاح يمضي إلى القول أن يعقوب أراد يوما الاطمئنان على غنمه وبنيه ، فأوكل ليوسف تنفيذ هذه المهمة . لبى يوسف طلب أبيه . ذهب إلى إخوته . تاه يوسف ، ودله رجل من المنطقة عليهم . ولما رأوه قادما من البعيد عرفوه من قميصه الملون . ومن لحظة رؤيته هذه انبعثت المؤامرة التي كانت قد حيكت للتخلص منه وبرزت خيوطها من جديد .
" فقال بعضهم لبعض هوذا هذا صاحب الأحلام قادم 20 فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله فنرى ماذا تكون أحلامه 21 فسمع رأوبين وأنقذه من أيديهم . وقال لا نقتله 22 وقال لهم رأوبين لا تسفكوا دما . اطرحوه في هذه البئر التي في البرية ولا تمدوا إليه يدا . لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه 23 " .
حدث كل هذا التشاور والحوار قبل وصول يوسف إليهم . وعند الوصول خلعوا عنه قميصه الملون وطرحوه في ذلك البئر القفر الذي لم يكن فيه ماء .
وحدث أن مرت قافلة للإسماعيليين - عرب - محملة بسلع في طريقها لمصر . هنا لمعت في رأس أخيهم يهوذا فكرة قام بعرضها عليهم : " فقال ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه 27 تعالوا فَنبيعه للإسماعيليين ولا تكن أَيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا فسمع له إِخوته 28 " . أخرجوا يوسف من البئر ، وباعوه للإسماعيليين - العرب - بعشرين من الفضة ، والإسماعيليون بدورهم بَاعوه في مصر لرئيس شرطة الفرعون المدعو فوطيفار .
وَلإتمام المؤامرة ، وحياكتها على الأب ، مَزقوا قميص يوسف ، ذَبحوا تيسا من الغنم ، غمسوا القميص الممزق في دمه ، وذهبوا به لأبيهم ، زاعمين عدم رؤية يوسف ، ولكنهم وجدوا هذا القميص . ولأنهم شكوا أنه قميص يوسف ، جاءوا به لأبيهم بغرض التعرف عليه . أكد الأب أنه قميص يوسف وأن وحشا رديئا أكله . ناح عليه الأب ، وطال نواحه . وحاول بنوه وبناته تعزيته دون طائل .
4
والآن ، وبعد تثبيت الروايتين ؛ القرآنية والتوراتية ننتقل لمحاولة المقارنة بينهما .
أول ما يلفت الانتباه في هذه المقارنة ذلك التطابق المذهل بينهما من حيث الجوهر ، وذلك الاختلاف غير المخل في التفاصيل . يتطابق الجوهر في التأكيد على حقيقة أن انحياز الأب ، قصر محبته لأحد بنيه ، عدم العدل بين هؤلاء البنين ، عدم مساواته في الرعاية والعطف بينهم ، أو ما نسميه اليوم بقصور الأب التربوي ، هو ما انعكس في صورة البغض الذي تطور إلى التآمر ، فوقوع الجريمة ، أملا في استعادة محبة هذا الأب الفاقد لمعايير التربية السليمة وأساسها المساواة ، الإنصاف المتأتي من العدل بين بنيه . تطابق في الجوهر متمثل في النقل شبه الحرفي لبعض النصوص كما في الآية 4 من سورة يوسف :{ إذ قال يوسف لأبيه يا أبتِ إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين } ، والآية 10 من الإصحاح :" … إني قد حلمت حلما أيضا وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي " .
أما الاختلاف في التفاصيل فيعود ، في ظني ، إلى : 1- الاختلاف بين لغتي التوراة والقرآن ، من حيث كونهما أَداتي التعبير عن الأفكار . 2- الاختلاف بين منهجي التوراة ، بميلها الشديد للتفصيل ، ومنهج القرآن في اعتماده الإيجاز وتحميل أوسع المعاني على أقل الكلمات ، أو ما يسمى بإعجاز القرآن اللغوي ، وهو الأمر المفقود في التوراة . و 3- وهو الأهم في ظني ، أن القرآن كَلاحق زمني للتوراة نحا إلى تخليص النص مما اعتبره شوائب ، أو نقائص علقت بهذا النص ، وفي المقدمة تنزيه الأنبياء عن فعل الخطأ ، وخصوصا فعل الخطيئة التي جرمها الكتابان المقدسان . الخطيئة التي لا ترى التوراة بأسا من إيرادها كما وقعت ، وكما لا ترى بأسا في عدم تنزيه هذا الرسول أو ذلك النبي عن فعلها ، لكونهم بشرا في البداية وفي النهاية ، فيما يرى القرآن أن فعلهما من قبل هذا الرسول أو ذاك النبي ، فعلا غير جائز لكونه ينسف فكرة المقدس والتقديس ويخلعها من جذورها .
5
وكمثال تعالوا نأخذ موقف الأب ، من رؤيا الإبن بخصوص سجود الأب والأم والإخوة الأحد عشر لهذا الإبن ، كما وردت في الآيتين 4 من القرآن ، و 10 من التوراة .
في التوراة استنكر الأب طموح ابنه الذي رآه آنذاك غير مبرر. لذلك نَهره ، زَجره ، لما رآه كطموح ، كتصور ، كرغبة ، ليس فقط في سجود ، أو خضوع ، أو قبول الإخوة بقيادته ، بل وسجود أو قبول الأب والأم بهذه القيادة . فعل يعقوب ذلك ، نهر ابنه ، لأنه لم يكن على علم وقتها بما خبأه الغيب لهم . لم يعرف أن هذا الإبن ، استنادا لمعرفته بتأويل الأحاديث ، سَيفسر حلما للفرعون ، وأن تفسيره سَيرفعه ليصبح الشخصية الثانية في مصر من حيث قوة السلطان . كما لم يعرف الأب يعقوب أن الحال في أرض فلسطين ستضيق به وَبأبنائه ، وأنهم سيضطرون إلى الهجرة لمصر ، فَاللجوء لِكنف هذا الإبن ومن ثم الخضوع لسلطانه .
لكن مؤلف القرآن ، ككتاب لاحق زمنيا للتوراة ، كان على علم بهذه الوقائع ، ومن ثم فقد قدم رد فعل الأب في صورة نَقيضة ، كما نصت الآيتان 5 و6 : { قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين * وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وَإسحق إن ربك عليم حكيم *} .
أيضا نزه القرآن يعقوب عن إصابته بداء الغفلة . فهو وقد كان يعرف حجم الحسد ، وعمق كره الإخوة العشرة لأخيهم ، الحسد والكره اَللذان زَرعتهما ، أَنبتتهما وَرعتهما ، تربيته الفاسدة والقائمة على عدم العدل بين هؤلاء الأبناء ، والمتمثلة في انحيازه لواحد على حساب الآخرين ، لم ينتبه إلى احتمالية تحول هذا الكره إلى سعي للتخلص من هذا الابن المحبوب ، أملا في استعادة المساواة في حب الأب لهم جميعا ، كما شرحت ذلك لنا نصوص التوراة . القرآن استبدل ذلك بتحايل الأبناء على أبيهم ، ووقوع هذا الأب في شَراك تلك الحيلة بالرغم من تَنبهه المسبق إلى نواياهم ، بحسب نص الآيات : 11، 12 و13 : { قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون * أرسله معنا غدا يرتع ويلعب إِنا له لحافظون * قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون * قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون *} . أكثر من ذلك أشار القرآن ، في الاية 15 أن يوسف كان يعرف بمؤامرة إخوته ، وأن هذه المؤامرة هي سبيل وصوله لمصر فَتبوئه المكانة الرفيعة التي حصل عليها ، ومن بعدها لجوء إخوته إليه طلبا للمساعدة ، فالاعتراف له بالسلطان عليهم ، تطبيقا لِلرؤيا التي نصت عليها الآية 4 ، تلك الرؤيا التي دفعتهم للتآمر عليه ، هذا بالطبع بعد عتابه لهم على ما فعلوا وشهامته في عدم الرد عليهم بالمثل . { فلما ذهبوا به وأجمعوا على أن يجعلوه في غيابة الجب وأوحينا لَه لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } الآية 15.
6
نأتي بعد ذلك للوقوف ، في مُواصلتنا للمناظرة بين الروايتين ، على السِّمات التي أهلت هؤلاء الأسباط لمراتب النبيين ، بما تحمله هذه المراتب من هالات القداسة .
تصرخ لنا الآيات بالصفات الرديئة التي كان عليها هؤلاء الأسباط العشرة . أولها ذلك الحسد الذي ملأ نفوسهم من محاباة الأب لأخيهم يوسف وعلى حسابهم ، القميص الملون مثالا ، وثانيها ذلك البغض الذي تنامى في صدورهم وعقولهم ، والذي دفعهم في النهاية لِلإجتماع عصبة ، فَحياكة مؤامرة التخلص من أخ ، كل ذنبه أن أباهم خصه بمحبته ، وأن هذا هو من زرع فيه التنصت فنقل النميمة ..الخ . ذكرنا هذا لأن الحسد والبغض ليست من صفات النبيين . وفي حياكة المؤامرة وارتكاب جريمة تنفيذها ارتكبت عصبة العشرة المقدسة جملة من الخطايا ، كان من بينها الآتي : التحايل على الأب كخطوة أولى على طريق تطبيق المؤامرة . 2 - القسوة الشديدة في تجريده من قميصه وقذفه في غيابة الجب القفر . 3- الكذب على الأب في ادعاء العثور على قميصه الممزق ، وإدعاء الحزن على الأخ المفقود ، وقبل ذلك في نسج حكاية ذهابهم للتسابق وتركه وحيدا عند حوائجهم ، الأمر الذي أتاح للذئب افتراسه 4 - التزوير ، متمثلا في تزوير الدليل ؛ تمزيق القميص ، غمسه في دم التيس ، ثم تقديمه للأب والطب إليه التعرف عليه كدليل على براءتهم ، وَبغرض تبرير الإدعاء الكاذب بعدم معرفة ما جرى للأخ المفقود . 5- المُراءاة والنفاق في إدعاء الحزن على المفقود ، متمثلا في التقدم للأب باكين طالبين تصديق روايتهم ومن ثم العفو عن تقصيرهم المزعوم .
ونخلص إلى السؤال : هل تقترب أي من الصفات السالفة من صفات النبيين ؟
لمحاولة الإجابة سنعود لِلقرآن ، والآيات التي تقرن الأسباط بالرسل والأنبياء ، وَتعليهم لِمراتب النبيين , ونبدأ مع سورة البقرة .
7
تنص الآية 136 من سورة البقرة على :{ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .
وتضيف الآية 140 من ذات السورة التالي : { أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى قل أأنتم أعلم أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله وما الله بغافل عما تعملون } .
وننتقل إلى سورة عمران وَالآية 84 ونصها :{ قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } .
ونختم بِالآية 163 من سورة النساء ، ونصها :{ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وَإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا } .
من غير المهم لبحثنا الإشارة هنا إلى أن الآيات الأربعة هن في الحقيقة آيتان . ذلك أن الآية 136 والآية 84 مختلفتان في كلمتين فقط ، قل بدل قولوا ، وحذف ما أوتي قبل النبيين في 84 الأمر الذي لا ينقص أو يضيف شيئا لمحتوي أو معنى الآيتين ، وأما الآية 163 فتم استبدل ما أنزل بِإنا أوحينا ، مع تعداد أسماء عدد من النبيين بدل إِجمالهم في كلمة واحدة وهي النبيين .
والسؤال الذي تطرحه الآيات : هل ما أنزل على الأسباط هو ذات ما أنزل ، كتابا كان أو كلاما ، على الرسل والأنبياء الآخرين ؟ وهل تلقوا ذات الوحي ؟ وهل الإشارة إلى داود وإتيانه الزبور ،وهو كتاب ، يعني أن الأسباط وسائر الرسل المذكورين والأنبياء ، أوتوا هم الآخرون كتبا كزبور داود ؟
على كل حال ، ليست هذه الأسئلة ، ومحاولات الإجابة عليها ، بذات أهمية في بحثنا . أما السؤال المهم فهو : لماذا هذا الإصرار من القرآن على حشر الأسباط في زمرة الرسل والأنبياء ؟ هل قيمهم الأخلاقية توفر بعض التبرير لِحشرهم هذا ؟
بحثا عن الإجابة تعالوا نعود إلى التوراة وإصحاحاتها .
8
في العودة إلى التوراة ، يجبرنا البحث على التفتيش عما يعلمنا بشيء من سلوك هذه العصبة المقدسة في مطلع الشباب . هنا تقفز أمامنا أخبار المذبحة التي نفذتها العصبة ، بتوجيه وقيادة الأب يعقوب بحق أهل شكيم - نابلس - ، والتي عرضها لنا الإصحاح الرابع والثلاثين ، وَثبتناها في نهاية الحلقة السابقة الخاصة بِيعقوب . ولأننا نبحث عن المبررات التي استند إليها القرآن في رفع هذه العصبة إلى مراتب النبيين ، ومن ثم إِحاطتهم بكل هذه الهالات من القداسة ، فقد رأيت إعادة تقديم هذه الواقعة ، بلغتي وبإيجاز ما أمكن أن يكون إليه سبيلا .
يقول الإصحاح أن ابن رئيس الأرض ،أي ابن ملك شكيم ، واسمه شكيم ، صادف ابنة يعقوب المدعوة دِينة في الحقل . اغتصبها وحملها إلى بيته ، ثم وقع عاشقا في حبها . طلب من أبيه ، الملك حمور أن يطلبها له من أهلها وَتزويجه إياها ,
لبى الملك طلب ابنه ، وتوجه لبيت يعقوب الذي كان قد علم بالحادثة ، وأعلم أبناءه بها ،والذين اعتبروا أن ما حدث أكبر من مس بشرف العائلة . نظروا للأمر من الزاوية الدينية ، وَصنفوه على أنه تنجيس لابنتهم فَديانتهم من رجل أغلف .
اعتذر الملك عند وصوله عن الفعل المشين الذي أقدم عليه ابنه ، وأوضح أنه قدم لتصحيح الأمر بالزواج . وفي طلبه لِيد الإبنة ، عرض على يعقوب وأهله ، بقبولهم طلب المصاهرة ، ما نصفه اليوم بمنح الجنسية ، وَبالتمتع بكل حقوق المواطنة . التملك في الأرض ، إقامة المشاريع ، الاتجار ، والمصاهرة : نتزوج من بناتكم وتتزوجون بناتنا .
وََكتكفير عن جريمة الاغتصاب ، أشار لهم الملك بتقدير المهر كما يشاؤون : لكم الطلب وعلينا التنفيذ .
رد يعقوب الذي تلقى العرض صامتا ، بطلب مهلة للتشاور مع العائلة . بعد التشاور أوضحوا للملك حمور أن العقبة الدينية المتمثلة في مسألة الختان تحول بينهم وبين قبولهم لذلك العرض السخي بالمواطنة والمصاهرة ، وأن هذه العقبة يتم تذليلها فَزوالها ، وتتم المصاهرة ، في حال قبول كل رجال القبيلة بإجراء عملية الختان .
فرح وتحمس شكيم ، وبادر إلى الإِختتان وعلى الفور ، فيما عاد الملك إلى المدينة يعرض الأمر على رجالها الذين ، وبكل الطيبة البالغة حد السذاجة والهبل ، والتي تسم طبائع السكان الأَصلانيين في كل المعمورة ، وافقوا ، وبادروا إلى التطبيق ، وليتم ختن كل رجال المدينة ، ودون أن يشذ منهم أحد .
في اليوم الثالث للختان ، تكشف عرض العصبة المقدسة عن خدعة دنيئة ، ومكيدة تجاوزت فكرة الانتقام وَالثأر للشرف الذي تم تَنجيسه ، أو تدنيسه ، إلى تخطيط استهدف تنفيذ جريمة إبادة شاملة . كيف ؟
في اليوم الثالث لعمليات الختان استغلت العصبة حالة الشلل لقوى الرجال ، الناجمة عن أوجاع الختان ، لبدء تنفيذ مخطط الإبادة الشاملة . استلت العصبة المقدسة سيوفها وطاحت في رجال المدينة ذبحا ، بادئة بشكيم وأبيه ، وَأتبعوه بما وصفوه تحرير دِينة ،الأخت التي جرى تَنجيسها وإعادتها للبيت . وبعد إتمام عملية ذبح الرجال ، عاثوا في المدينة نهبا وسلبا ، وبما ذلك سبي النساء والأطفال ، إناثا وذكورا .
هنا ، وحسب المثل : " راحت السكرة وجاءت الفكرة " لِيعقوب . تحسب يعقوب من أن قبائل المنطقة ستهب للثأر لضحايا المذبحة . ولأن عصبة أولاده صغيرة فستكون إبادتهم حتمية .
لكن ، وقد احتار يعقوب في أمره ، هب الرب ، والذي لا يعرف المرء حقيقة علاقته بهذه العائلة المقدسة ، وما إذا كان يعمل خادما ، حارسا ، مرشدا ، منقذا لها ، هب للمساعدة . أشار على يعقوب بالرحيل عن المنطقة ، وحط الرحال في بيت إيل ، المكان الذي كان التقاه فيه أول مرة . وأعقب الرب ذلك ببث الخوف في قلوب القبائل التي استعدت للثأر ، مما أقعدها عن ملاحقة العائلة المقدسة ،وَلتنجو هذه من عواقب جريمتها النكراء . العائلة التي لم تترك سلوكا خبيثا إلا وأتته ؛ التآمر ، الخداع ، التحايل ، نقض العهد ، الغدر ، القسوة الوحشية ، الطمع ، وغيرها وغيرها . ولكن …
9
ولكن ، يا ليت الأمر وقف عند هذا الحد . إذ يفاجئنا الإصحاح الثامن والثلاثون بأن يهوذا الذي سيغدو المحور الرئيس ، والعمود الأساس ، لعصبة الأسباط هذه ، قد أطاح بكل عناصر نقاء الدم التي حرص أبوه يعقوب ، وأجداده ؛ إبراهيم وإسحق ، على توفيرها لهذه السلالة المقدسة . كيف ؟
يقول الإصحاح أن يهوذا " نزل من عند إخوته …."الآية 1 ، أي ترك صحبتهم ، واستبدل بها صحبة رجل من أهل البلاد ، وصفه الإصحاح بالعدلامي ، اسمه حيرة . وتصادف أن رأى يهوذا ، وهو في صحبته الجديدة ، بنتا من السكان الأَصلانيين ، أعجبته فتزوجها . قال الإصحاح أن أباها رجل كنعاني اسمه شوع . ولدت هذه الزوجة ، كنعانية الأصل ، ليهوذا ثلاثة أبناء هم : عير ، أُونان وشيلة .
ولما كبر عير زَوَّجه يهوذا أبوه من بنت كنعانية اسمها ثامار . لكن لأن عير " كان شريرا في عيني الرب " الآية 7 فقد أماته الرب . هنا طلب يهوذا من ابنه الثاني أُونان الدخول على زوجة أخيه والزواج بها كي يقيم نسلا لأخيه . ولأن أونان " علم أن النسل لا يكون له ، فكان إذ دخل على امرأة أخيه أنه أفسد على الأرض لِكي لا يعطي نسلا لِأخيه 9 فقبح في عيني الرب ما فعله فأماته الرب أيضا 10 " .
هنا فكر يهوذا أنه إذا زوج ثامار من ابنه الثالث فسيموت هذا الإبن أيضا . هكذا تفتق ذهنه عن حيلة ، مؤداها أنه طلب من ثامار القعود أرملة في بيت أهلها ، واعدا إياها تزويجها من ابنه الثالث شيلة ، حين بلوغه سن الرجولة .
هنا يبلغنا الإصحاح بأن الحكاية أخذت منحى جديدا ، مضمونها أن ليس يهوذا وحده من يعرف كيف يحتال ويتآمر .
يقول الإصحاح أن بقاء ثامار في بيت أبيها ، وهي تلبس ثياب ترملها قد طال . وأن حماتها ، ابنة شوع ماتت . ترصدت ثامار حركة حميِّها يهوذا . علمت أنه سيذهب هو وصديقه العدلامي إلى منطقة اسمها تنمة فيها غنمه لِيجز صوفها :" فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وَتلففت وجلست في مدخل عينايم التي على طريق تمنة ، لأنها رأت أن شيلة كبر ولم تعط له زوجة 14 فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها غطت وجهها 15 " . ساومها يهوذا على إقامة علاقة معها . سألته :" ماذا تعطيني كَي تدخل علي " 16 . قال بأنه سَيعطيها جدي معزى . قالت : وهل تعطيني رهنا حتى ترسله ؟ رد متسائلا : ما الرهن الذي تُريدنه ؟ أجابت : خاتمك ، عُصابتك وعصاك الآية 18 . أعطاها الرهن ودخل بها ، ثم عاد لها صاحبه العدلامي بالجدي فلم يجدها . سأل أهل المنطقة عن الزانية ، فردوا بأن لا وجود للزواني في المنطقة . اطمأن ضمير يهوذا إلى أنه أدى واجبه ؛ أرسل للزانية المتفق عليه ولكنه لم يجدها .
بعد ثلاثة شهور جاءه من يخبره بأن كنته ثامار قد زنت وهي حبلى بثمرة زناها . قرر عقابها بالحرق :" فقال أخرجوها فتحرق 24 أما هي فلما أُخرجت أرسلت إلى حميها قائلة من الرجل الذي هذه له أَنا حبلى . وَقالت حقق لمن الخاتم والعصابة والعصا هذه 25 فحققها يهوذا وقال هي أبر مني لأنني لم أعطها لشيلة ابني فلم يعد يعرفها أيضا 26 " .
نجت ثامار من الحرق ، ولدت توأما أسمتهما فارص وَرازح .
هنا ، كما تصرخ الحكاية ، مارس يهوذا فعل الزنا بكنته . صحيح أنه ظنها زانية ، يدفع أجرها وينتهي الأمر ، ولنسأل : هل كانت معاشرة المُقدسين ، الأنبياء ، للزانيات فعلا يصنف في خانات الفضيلة ؟ ومسألة أخرى ، اتضح فيما بعد أن التي زنى بها كانت كنته ، وصدر حكمه هو ، على فعلها الذي مارسه هو بحرقها . فكيف يعقل أن تكون عقوبة ذات الفعل الحرق حين تمارسه المرأة ، والسكوت التام حين يمارسه الرجل الذي ليس ككل رجل ، وإنما هو الرجل المتصدر على مقاعد النبيين ؟
وأخيرا يصمت الإصحاح عن مصائر ذلك التوأم ، فارص وَرازح ، ثمرة هذا الزنا ، وابني رجل مقدس سيصبح المحور الرئيس والعمود الأساس لبني إسرائيل ، فكيف للمرء ، أي مرء أن يفهم هذا ، وبعده وقبله كل ما بنيت عليه قدسية هؤلاء الأسباط ؟
10
وأمر إشكاليات الأسباط لا يتوقف عند زنا يهوذا ، أو سلسلة القيم "النبيلة ! " التي سبق وعرضناها . إذ سبق وأن فاجأنا الإصحاح الخامس والثلاثون ، في الآية 22 بما هو أكثر قبحا من زنا يهوذا بكنته : " وحدث إذ كان إِسرائيل ساكنا في تلك الأرض أن رأوبين ذهب واضطجع مع بلهة سرية أبيه وسمع إسرائيل " .
هكذا وبكل بساطة ، يروي الإصحاح أن رأوبين ، الابن البكر ليعقوب ، قد زنا مع زوجة أبيه ، خادمة أمه ، بَلهة . وكل ما كان من رد فعل الأب النبي أنه سمع وسكت . ولكن
ولكن ، ومرة أخرى يفاجئنا الإصحاح التاسع والأربعون بعودة الأب يعقوب ، إسرائيل ، وهو على فراش الموت ، للتنفيس عما سكن واعتمل في صدره من فعلة ابنه البكر ، وهي وطء زوجته بلهة . يقول الإصحاح أن يعقوب ، وقد عرف بقرب النهاية ، استدعى بنيه الإثني عشر لِينبئهم بما خبأته لهم الأيام . قال :" اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب ، واصغوا إلى إسرائيل أبيكم 2 رأوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز 3 فائرا كالماء لا تتفضل . لأنك صعدت على مضجع أبيك . حينئذ دنسته . على فراشي صعد 4 " . والسؤال هنا : كيف يمكن لمن زنا بزوجة أبيه أن يُرفع إلى مراتب القديسين والنبيين ؟ وكيف يفهم مَن بِرأسه عقل طلب القرآن في الآيتين 136 من سورة البقرة و 84 من سورة آل عمران الإيمان به وعدم التفريق بينه وبين أي واحد من الرسل والأنبياء المذكورين في الآيتين ؟
11
خاتمة .
وَبوصولنا إلى خاتمة هذه الحلقة يتوجب علينا التذكير بأن سيرة الأسباط ، وفي الكتابين المقدسين ، تستمر متداخلة مع سيرة يوسف . ولأنها كذلك رأينا تأجيل عرض هذا الجزء إلى الحلقة القادمة ، والخاصة بسيرة هذا النبي الكريم ابن الكريم ابن الكريم كما جاء في الحديث .
لكن العرض السابق ، وتلك العروض التي سبقته في الحلقات السابقة ، تفرض علينا الوقوف وإعمال الفكر فيما أوجبته تلك العروض من إعمال للعقل ، ملخصا في السؤال التالي : في ذلك الزمن الغابر ، تحت أي تصنيف كانت توضع الأفعال التي آتى بها هؤلاء الأنبياء ، وهي التي تقع في القرآن والسنة ، ليس
تحت مصنف الرذيلة ، أو الخطايا فقط ، وإنما وضع أكثرها تحت مصنف الكبائر ، والتي سيحاسب عليها المسلمون حسابا عسيرا في الآخرة ، وليكون مآلهم جهنم وبئس المصير ؟
العقل يقول أنه لو كان هذا التصنيف قائما وقت وقوعها لكان منافيا للعقل حشر فاعليها مع القديسين والنبيين . لكن ، ولأنهم تبوأوا تلك المراتب ، فقد عنى ذلك أن تلك الأفعال ، وفي مقدمتها الزنا ، نقض العهد ، الغدر ، الكذب ، انعدام العدل في التربية ...الخ كانت تحسب على الفضائل ، ومن ثم ترسخت مكانة الفاعلين لها بين النبيين والقديسين .
ونعود لنسأل سؤالا أخيرا : هل كان الرب يغير ، ينتقل من النقيض إلى النقيض ، في مسألة تصنيف الأفعال ، تعيين القيم ، ومن ثم فرض الجزاءات والعقوبات ، تبعا لدرجات تطور البشر ، ومن ثم تغييرهم لِلعادات والسلوك ومنظومات القيم والأخلاق ، وَلِتواكب وَتتلاءم مع التطور الذي حدث ؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاديان نتاج عقول بشرية والدليل واضح
سهيل منصور السائح ( 2021 / 9 / 24 - 06:45 )
اشكرك جزيل الشكر على هذه الاضآءات التنويرية والتي اثبتت بالدليل والبرهان ان الاديان كلها من صنع البشر ولا علاقة لها بخالق الكآئنات من اصغرها الى اكبرها وانها اي الاديان كان هدفها سياسي وهو السيطرة والحكم ولا شيء غير ذالك .ان من يقرا الاديان بدون تقديس يرى ان رب الاديان كـ انسان يغازل محبيه ويمنحهم امتيازات ولو ان تلك الامتيازات تنسف صفاته كـ العدل وغيره. ان الشيء المحير ايها الاخ النبيل ان كل الاديان جآءت في بقعة معينة من الكرة الارضية وكان تلك البقعة هي البقعة المقدسة ولعمري ان سكانها لا زالوا في ذيل الامم. شكرا جزيلا لك على كشف المستور ولكن:
فهل اسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادي
اكثر من طرق الباب يوشك ان يفتح.


2 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2021 / 9 / 24 - 08:41 )
تحياتي ولك الشكرأيها الصديق على مساهمتك


3 - المقدس
كامل حرب ( 2021 / 9 / 24 - 15:41 )
شكرا للمقال الهام والتحليل المفصل , حقيقه يوجد اختلاف كبير بين الروايه الاسلاميه والروايه اليهوديه فيما يتعلق بالمدعو يوسف النبى , اتذكر اننى رأيت الفيلم الامريكى ( يوسف ) منذ اعوام وحقيقه كان اخراج جيد وتمثيل مبهر وسلاسه جميله , دائما الخلاف بين اليهود والاسلام فى كل شئ , انت كما اشرت فأن اليهود يحبوا التفصيل والشرح فى الروايه بينما الروايه الاسلاميه تميل الى الغموض والايجاز والتناقض فى الاحداث ويتركك تتخبط بدون فهم , سواء اسلام او يهوديه فنحن حقيقه لازلنا نصارع من اجل الوصول الى الحقيقه والتى ربما لن نصل اليها ابدا , نعم انا اميل الى بشريه الاديان جميعها سواء كانت يهوديه او اسلام اومسيحيه او حتى عباد البقر والنار , هذا لغز كبير وغامض نشأ اصلا مع ظهور هذه الاديان الغامضه الاصل وهذا اكيد مقترن بلغز الحياه الازلى


4 - رد من الكاتب
عبد المجيد حمدان ( 2021 / 9 / 24 - 22:59 )
تحياتي وشكري الجزيل لك صديقي

اخر الافلام

.. بناه النبي محمد عليه الصلاة والسلام بيديه الشريفتين


.. متظاهر بريطاني: شباب اليهود يدركون أن ما تفعله إسرائيل عمل إ




.. كنيسة السيدة الا?فريقية بالجزاي?ر تحتضن فعاليات اليوم المسيح


.. كيف تفاعل -الداخل الإسرائيلي- في أولى لحظات تنفيذ المقاومة ا




.. يهود يتبرأون من حرب الاحتلال على غزة ويدعمون المظاهرات في أم