الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رحلة حزن وعذاب بحثاً عن الحرية/ معايشة حقيقية شخصية لتداعيات الانتفاضة الشعبانية عام 1991/ الحلقة الخامسة عشر والاخيرة

محمد رياض اسماعيل
باحث

(Mohammed Reyadh Ismail Sabir)

2021 / 9 / 28
القضية الكردية


توجهنا نحو قرية هيرو في طريق وعر نزولاً الى أعمق وادٍ في المنطقة، كنت أرى بالكاد السيارات في قاع الوادي كالنمل، وتوقفنا قرب جدول ماء غاية في الجمال والروعة، وجلسنا في مقهى خشبي قديم، وأكلنا الكباب مع المشروبات الغازية، وشربنا الشاي وتنعمنا بالمنظر الخلاب حساً وشعوراً. تأملت مع نفسي الاشرار من الناس حين تعطى بيدهم السلطة، يجدون دائماً من حولهم اناس متملقين يزيدونهم شراً، ويعم الشر في المنظومة الأخلاقية وتصبح سمة للمجتمع. كما ان الحروب حين تُكتب تصنع تاريخا لامعاً، بينما يفتقر كتب السلام الى القراء ولا يكون مشوقاً لهم، كما توصلت الى قناعة من خلال قراءتي لكتب التاريخ ومعايشة النظم السياسية المتعاقبة في السلطة قسراً، انه لم يتعلم الشعب والحكومات شيئاً من التاريخ او تصرفوا وفق المبادئ والدروس المستنبطة منه.
أكملنا المسير فوصلنا هيرو الساعة الثانية ضهراً. وحاولت الحصول على الوقود دون جدوى، واتفقنا ان تصعد والداي في باصات تعمل على نقل اللاجئين الى الحدود بعشرين دينارا لكل لاجئ! وانتظارنا هناك عند الحدود. اما انا ترجلت من السيارة للبحث عن الوقود ووجدت الحرس الإيراني تبيعه، فوق تلة لا يمكن الوصول اليها الا مشيا على الاقدام، فقصدتهم بصعوبة بالغة وحصلت على عشرة لترات، وعند عودتي هويت من اعلى التلة وتشقّقت ملابسي وتكسرت نظارتي وانسكب نصف الوقود، إن الإحساس بالواقع هو الذي يخلق الفارق بين الانتحار او التمسك بالحياة.. بدانا المسير نحو الحدود ووصلنا ناوسود، وهناك عند مدخله الخلاب حيث الترعة والجسر الحجري ومناظر الغابات والاجمة الجميلة ، لمحت سجاد ، أوقفت السيارة وهرعت نحوه وحضنته وشعرت بالأمان كثيراً، ثم لم يلبث لحظات وجدت امامي ابن خالتي ( أ )، جاء باحثاً عن أهله، مع مئات الشباب التي فَقَدت اهاليها، فقلت له ان اهله عادوا الى العراق قبل عشرة ايّام، ولكنه استغرب لعدم وصولهم، وقال انه سيستمر بالبحث عنهم في پاوه، ومن المحتمل مبيتهم فيها! وكانت المنطقة كيوم الحشر تعج بالناس، كل يسأل عن مصير احبائه، وطمأننا (أ) على الأوضاع في كركوك واستقرارها. وجاء سجاد بوجبة غذاء من بيض وزبد مع الخبز، تناولنا الوجبة وشكرناه وتوجهنا معه الى الحدود لتسهيل إخراجنا بعد ان سردت له ما جرى لي مع الاطلاعات، ووصلنا الحدود الرابعة عصراً ووجدت والداي بانتظاري، ودعنا سجاد بعد ان جلب لنا من المقر ورقة بإذن الخروج، وأعطيته عنواني على أمل ان يصلح الله الحكام لتعود الشعوب متحابة كما كانت دائماً، ونعيش على السلام والمودة والجيرة الحسنة، وحسبنا الله من الظالمين. تم تفتيش سيارتي عند النقطة الحدودية وسهل سجاد الامر لنا وخرجنا نحو مدينة طويلة.
في طويلة استوقفنا سيطرة الپيشمرگه، وتأكدوا من هوياتنا ثم سمحوا لنا بالذهاب. وعلمنا بان السيطرة التالية هي سيطرة الحكومة العراقية. قلوبنا تخفق بسرعة، ترى ما الذي سيحصل، هل نعاقب لتركنا العراق! هل ندفع الثمن مضاعفا! هل نستحق المحاسبة بعد كل هذا المشاق والعذاب! هل نعود لنبقى غرباء في اوطاننا!
وصلنا السيطرة العراقية في عربد، سألني رئيس عرفاء السيطرة من أين اتيت؟ قلت له من تلك الديرة! فأجاب بغضب أية ديرة؟ قلت له ما بعد حدود العراق، طلب هويتي وأعطيته هوية شركة النفط، فنظر لي وقال، ألقينا عليكم قليل من الجص وظننتم انها كيمياوي! فلماذا تركتم دياركم؟ لم أكن اعلم بموضوع الجص هذا، فيبدو بان الحكومة قد القت على المناطق النفطية ما يشبه الغاز الكيماوي، لترهيب وتخويف الپيشمرگه لترك مواقعها… فأجبته بأننا تلقينا منشورات أسقطت على الأهالي بالطائرات المروحية تحثهم على ترك البلدة، سكت رئيس العرفاء ثم أردف قائلاً اننا اخوة، وندعو الله ان يجمع شمل كل العراقيين على المحبة والتالف، وقال بان هناك مفاوضات بين الحكومة والكورد، نأمل بأنها ستسفر على حلول ناجعة تفرش للسلام طريقا، ثم اخرج بعض القطع من البسكويت ووزعها علينا، وحمدت الله كثيراً على هذه الفاتحة المباركة لعودتنا، وحضنت الرجل، وكذلك فعل ابي، الذي كان يبكي من الفرح وقبلناه وعدنا الى السيارة، وقد اعطانا الرجل ورقة عدم تعرض الى سيطرة السليمانية.
لقد أوشك الوقود على النفاذ وكنا نأمل ان لا تتوقف بِنَا السيارة في الطريق ولحسن الحظ وصلنا السليمانية بسلام، وتوجهنا فوراً الى دار شقيقتي ووجدناه خاليا من كل شيء، واغتسلنا ثم زارنا الجيرة، جلبوا لنا بعض الفرش، وحمدوا الله على سلامتنا. مكثنا الليلة في السليمانية، وفِي صباح الْيَوْمَ التالي توجهنا صوب كركوك وارسلت والداي الى كركوك بسيارة اجرة. وعبرنا أربعة نقاط سيطرة، كانوا يسألوننا فيما لو كانت لدينا حاجيات في السيارة، كنت أجيبهم سلباً ويسمحون لنا بالذهاب دون التحقق … أوقفني عند سيطرة كركوك أحد أفراد السيطرة وطلب هويتي، فأعطيته ونظر اليها وقال انت تعمل في النفط، قلت نعم، دخل غرفة السيطرة ثم عاد وقال اريد منك قنينة غاز، قلت له "تدلل"، غداً سأجلبه لك الى السيطرة، وأوصلت اخواتي الى بيت اهلي في جو مغبر للغاية، ووجدت والداي قد وصلا قبلي، وكان الدار كما تركناه لكن خالٍ من الحاجات الكهربائية. توجهت الى داري في الشركة داخل المنطقة المحمية من قبل الشرطة، عن طريق معسكر كيوان، ووجدت أوراق الأشجار من كيوان الى المنطقة السكنية التي تسمى (بابا)، كلها مصفرة ومحترقة! يبدو بان طيران النظام رمت بغاز حارق على المنطقة وليس (اشوية جص)، ودخلت البيت ووجدته كما تركته، زرت الجيران وشكرتهم كثيراً، وجلسنا نتحدث عن الأيام الصعبة … فِي الليل خلدت لنوم عميق لم اذق طعمه منذ ان ولدت.
ذهبت في اليوم التالي، الى قسمي في الشركة، وقد رحب بي الأصدقاء ومدير القسم بحرارة وسجلوا مباشرتي على الفور، وكلفني مديري بأعمال رئيس مهندسي شعبة الخدمات بالإضافة الى إدارتي لشعبة التركيز النفطي، وطلب مني وضع منهاج لإعمار جميع المحطات المدمرة، سواء بفعل قوات التحالف او التي تعرضت للنهب والسلب من قبل الأهالي. لقد أعطاني احتضانهم معنويات عالية، وبدد خوفي وما كان يدور في ذهني لرد فعل الحكومة تجاه تركنا العراق، فبدأت العمل بكل تفان واخلاص. اما زوجتي فقد ذهبت الى المستشفى، وأبلغوها بفصلها من العمل من قبل مدير عام الصحة آنذاك (ر ج)، وبعد المراجعات وتوسط الدكتور (ر ر) مدير المستشفى، على انها مشمولة بالعفو العام الذي اصدرته الحكومة، وبعد تأخر أسبوع تم قبول مباشرتها … هل انتهت رحلة الحزن والعذاب بحثاً عن الحرية في حياتي؟ لقد بدأت صفحة الهرس بين شقي الرحى لنسيان الحرية ونسيان من خلفني للحياة... كنت أفكر أحيانا، بعد ان رأيت المشاعر القومية في كوردستان إيران التي استنهضنا ورفعت معنوياتنا، هل نحن جئنا الى هذا المصير لنتحرر بإرادتنا، ام اننا دفعنا قسرا بل رُكِلنا الى هذا المصير بقوة السلاح؟ فان كان قسرا، فلابد ان هناك من يستثمر ذلك مستقبلاً، اما ان كان خروجا بإرادتنا فستولد كوردستان المستقلة قريبا...
كيف نجرؤ على الحرية والديموقراطية، والسلطة تقدم لنا منها طبقاً جاهزاً في راس كل سنة ليوم كامل، الا يكفي ذلك! عدنا لنبدأ سِفرا جديدا من التجويع، الحصار الاقتصادي، أعقبه سِفر الاذلال، كرامتك وشرفك مقابل الغذاء والدواء والأخير مقابل النفط، كانت السلطة هي المستفيدة من هذا الفصل، فزاد الاستغلال والفساد والرشى في كل مرافق الدولة والقطاع الخاص.. حتى انتهى الفصل بسِفر الصدمة والترويع لإعادة الروح الى الاجساد المنهكة التي أوشكت على لفظ الانفاس، وعادت الروح للجسد بشق الانفس، لنبدأ فصلا جديدا، نختبر فيه الحكام الجدد اللذين عارضوا النظام السابق، لنرى قدراتهم لانتشال الشعب المنهك من حالته الحرجة الى الأمان والاستقرار، قبل ان يتحول الى جثة هامدة! فجاؤوا لتتحول البلاد الى ساحة تفجيرات وتصفية الحسابات القديمة، وأصبح هدف النظامين واحداً وهو الموت، ففي النظام الدكتاتوري السابق، كان ثمن (الكلمة المُعارِضة) هو الموت، وفي النظام الديموقراطي اللاحق، تموت ولن يسمعك أحداً!!! وبقي الشعب مُستَغلاً من تجار التحرير، أولئك التي تخفق شعاراتهم وترفل بثوب الحرية لتبني مستقبلا زاهراً للشعب، ولكنها كانت زاهرة لهم ولأولادهم واقربائهم، والشعب لايزال يمضي في رحلة الحزن والعذاب لتنفس الحرية الحقة. هنا انتهى حكايتي، حكاية لاجئ من بين مليونين من اللاجئين اللذين يكتنزون مآسي أكثر حزنا وألما، لمن تبقى منهم على قيد الحياة، ولايزال يعاني ويصرخ لوضعه المتهرئ ويحرق بنفسه حياً، ليمتع اذان الحكام بصرخات انسان يتألم مستنجداً بالضمير البشري......








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 3 وكالات في الأمم المتحدة تصدر تحذيرا من أزمة سوء تغذية تضرب


.. إسرائيل على صفيح ساخن.. مظاهرات واعتقالات




.. موجز أخبار السابعة مساءً- رئيس تشيلي: الوضع الإنساني في غزة


.. الأونروا: ملاجئنا في رفح أصبحت فارغة ونحذر من نفاد الوقود




.. بعد قصة مذكرات الاعتقال بحق صحفيين روس.. مدفيديف يهدد جورج ك