الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قاسم المحبشي بين الذات العارفة والتمثل المؤجل

حاتم الجوهرى
(Hatem Elgoharey)

2021 / 10 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في كتابه الجديد "فيما يشبه الانتظار" الصادر عام 2021م عن دار الشواهين بالقاهرة، يمكن لنا أن نجمل مقاربة الدكتور قاسم المحبشي - أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة في جامعة عدن باليمن- التي شملها الكتاب؛ تحت عنوان: "الذات العارفة والتمثل المؤجل".

الذات العارفة
وأقصد بهذه المقاربة أننا نلمح في ثنايا الكتاب حضورا قويا لذات عارفة بالفعل، ذات تحيط بالمصادر الغربية وجذورها وتأويلاتها إحاطة جادة تندر في الأكاديمية العربية، مع وعيها بأزمة الذات العربية لأنها تعقد مقارنة باستمرار بين هذه الذات العربية وتلك الذات الأوربية، كما أن هذه الذات العارفة التي تقف خلف كتابات البروفيسور قاسم المحبشي، تتسم بالرهافة والحساسية في تعاملها مع الواقع العربي وتحسرها على مآل حاله.

التمثل المؤجل
من هنا أطلق على الذات التي تقف وراء الخطاب الذي يحمله الكتاب ذاتا عارفة، أما الشق الثاني من مقاربتي والذي يتعلق بـ"التمثل المؤجل" فأرجعه لأن تلك الذات العارفة بينها وبين العالم حاجز نفسي عريض، يجعل هذه الذات العارفة ترفض أن تقدم تمثلا واضحا أو موقفا تأسيسا لها من العالم، بقدر ما هي تقدم لنا خطاب المعرفة بين الشرق والغرب مدفوعة بأزمة الذات العربية الراهنة، بعد تكسر موجات الثورات العربية، ووقوع العديد من بلدانها ضحية للتناقضات المحلية والإقليمية والدولية.
هي ذات تشغل حيزا معرفيا لكنها تحتج على العالم وأزمة الذات العربية فتمتنع أن تمنح هذا الحيز المعرفي اختيارا خاصا، ليس عن عجز بل عن شعور داخلي شديد بـ"الاغتراب" والشعور بالصدمة الوجودية، ولكن في الوقت نفسه هي ذات عارفة تملك إحساسا دفينا بالعزة والقدرة والقوة، فلم تعلن هزيمتها واستسلامها وإنما قررت أن تقوم بعملية تأجيل لمشروعها في العالم، من ثم أصبحت في حالة "تمثل مؤجل"، أو "انتظار" في إشارة وتناص مع عنوان الكتاب.
ويمكن أن يكون هذا الاغتراب و"التمثل المؤجل" نتيجة لشعور الذات العارفة بعدم الاستقرار، وغياب اليقين على مستوى المصير والوجود الشخصي، خاصة بعد خروج الكاتب من اليمن والحياة بمصر جراء تطورات الأوضاع في اليمن، وفقدان الذات العارفة لمحيطها التاريخي وحاضنتها الوطنية التي تحمل كل ذكرياتها وطموحاتها.

"الانفعال والاشتباك"
وليس "التأسيس والانطلاق"
يجوز القول إن دافعية الكتابة ومحفز المؤلف ليكتب ويقدم لنا هذا الخطاب، تتلخص في فلسفة "الانفعال والاشتباك" وليس "التأسيس والانطلاق"، هو ينفعل ويشتبك مع الأشياء المحيطة في تصور وجودي ذاتي وآني لصيق بوجوده الشخصي القريب، لأن الوجود العام والفضاء الكلي للذات العربية يبدو وكأنه انسحب بالنسبة للكاتب وأصيب بالهشاشة والأزمة، فقرر الكاتب أيضا ألا ينطلق في مقارباته وكتابته من زاوية "التأسيس والانطلاق" لهذه الذات العربية الكلية والفضاء العام الخاص بها.
ويمارس فقط "الانفعال والاشتباك" مع محيطه الوجودي الشخصي، وهو ما نلمحه حين نجد أن الكثير من مقالات الكاتب تدور حول حضوره -أو تذكره- حدثا ما، ثم "انفعاله واشتباكه" مع هذا الحدث الشخصي والذاتي بالكتابة والتعليق والنظر في حواشيه المعرفية، وإبداء الرأي فيه، وهو ما نرصده في مقالات عديدة بالكتاب مثل: من وحي مؤتمر القوة الناعمة ومركزية اللغة- الهوية ومداراتها في أمسية قاهرية- السؤال الفلسفي اليمني في ساقية الصاوي.

حين يمتنع العارف عن "التفلسف"
إنه قرار نفسي داخلي حينما يقرر العارف أو الفيلسوف أن يمتنع عن التفلسف و"التأسيس" للأشياء، ويكتفي بـ"الانفعال والاشتباك" معها، وكأنه يطلق صرخة حزن على حال اليمن السعيد وما أصابه من تأزم بعد أن كان قد طال الحلم ناطحات السحاب اليمنية القديمة، في سياق طموح الثورات العربية التي تكسرت.
اليمن التي تقف ليس ببعيد عن مآل العديد من دول الثورات العربية سواء في موجتها الثورية الأولى في بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، أو في دول الموجة الثورية الثانية في نهاية العقد نفسه، لذا نجد أن الذات العارفة الحالمة في خطاب الكتاب تمارس انشغالا بالمحيط الوجودي الخاص بها و"الانفعال والاشتباك" معه، ولكنها تمارس "تمثلا مؤجلا" لموقفها "التأسيسي" من العالم.
وأوضح تدليل على تصور كتاب البروفيسور قاسم المحبشي وتأرجحه بين الذات العارفة والتمثل المؤجل، سوف نجده في أول دراستين صدر بهما الكتاب ووضعهما عتبة مميزة له، حيث جمع الكتاب بين عدة أشكال للكتابة منها الدراسات والمقالات العلمية بنسبة أقل، وغلب عليه المقالات التعبيرية التي تمثل حالة "الانفعال والاشتباك".

أزمة النخبة وتحيطات الذات العارفة
الدراسة الأولى التي افتتح بها الكتاب وصدره بها، تدور حول النخبة العربية ومنحها اسم: "مقومات وتشكيل النخبة في المجتمع العربي"، والدراسة الثانية تبحث في مفهوم الثورة تحت عنوان: "تحولات المفهوم وسياقات المعنى"، وما بين النخبة والثورة يمكننا أن نقرأ الكثير من المسكوت عنه عند تلك الذات العارفة التي تمتد عبر صفحات الكتاب.
في الدراسة الأولى يطوف بنا بين تعريفات النخبة ومدارسها في الغرب ثم يصل لبيت القصيد، حينما يتحدث عن أزمة النخب في المجتمع العربي، متحسرا على حال بعض المفكرين العرب ونسيان الناس لدورهم، وكأنه يذكر لنا مبررا مسكوتا عنه لقراره -بوصفه نخبة- بأن يميل إلى "التمثيل المؤجل" وألا يطرح شيئا "يؤسس" به لانطلاق الذات العربية، لذا يقرر الاكتفاء بـ"الاتفعال والاشتباك" مع محيطه الوجودي القريب وكأنه يعلن أن هذا هو نطاق سيطرته على العالم، وهو الحاجز النفسي الحصين الذي يقيه من مصير النخب العربية التي آلت إلى النسيان وضاعت جهودها.

هيمنة السياسي
وتداخل الديني مع السياسي
ثم شيئا فشيئا يكشف لنا قاسم المحبشي عن أوراقه التي يحتفظ بها أسفل الطاولة، حينما يعلن أن أزمة النخب العربية هي أزمة بنيوية متجذرة في صميم المجتمع العربي التقليدي، من جهة هيمنة المجال السياسي على كافة المجالات الأخرى التي مفترض أن تتحرك فيها النخب وتعمل، ولا يترك الأمر عند هذا الحد بل يكشف المزيد من الأوراق حين يعلن أن المجال السياسي العربي ليس مجالا سياسيا مجردا، بل هو حلف مقدس بين السياسي والديني وهيمنته على كل الفضاءات الأخرى في العالم العربي، بما لا يمنح النخب العربية فرصة من الأساس.
ويدلل على تصوره المركزي لأزمة الذات العربية في علاقة السياسي بالديني، مؤكدا على عجز آليات المجتمع المدني في هذه الحالة، وشيوع العلاقات البطريركية أو الأبوية ذات طابع الوصاية في كافة المجالات، معرجا في حديثه على الدولة العلمانية الغربية التي فضت علاقة المقدس بالمدنس، ودخلت للحداثة والعقل والعلم.

الهويات القاتلة
ثم يقدم لنا سببا آخر للحزن و"التمثل المؤجل"، عندما يتحدث عن تحول الكثير من نخب المعارضة العربية إلى فكرة الهويات القاتلة، في معظم البلدان العربية، أي نخب المعارضة العربية الثقافية التي كرد فعل للمتن والمركز السياسي/ الديني التاريخي الذي مثله البعد العربي/ الإسلامي، أنتجت موقا ثقافيا معارضا يمارس تطرفا مضادا عبر التمركز المضاد حول الهوامش الثقافية، في إدانة منه لاختيارات تلك النخب الثقافية.
مستعرضا العديد من حالات االتمركز والتمركز المضاد، ما بين السني والشيعي، والإسلامي والمسيحي، والكردي والعربي، والأمازيغية والعربية، وهكذا في لبنان واليمن وسوريا، مستعرضا التمركز والتمركز المضاد.

قناع إدوارد سعيد
لكن الذات العارفة في نهاية هذه الدراسة تمنحنا إشارة تؤكد على أن "التمثل المؤجل" عندها -بوصفها نخبة بدورها- يميل للحضور والدور "التأسيسي" الفاعل، لكن الحاجز النفسي وصدمتها الوجودية من الذات العربية، تجعلها لا تعبر عن ذلك مباشرة، إنما تستعير أحد تمثلات النخب العربية التي قدمت مشروعا تأسيسيا ونظريا عندما ختم البروفيسور قاسم المحبشي دراسته بتأكيده على أهمية دور النخب العربية، في استشهاد وتضمين أورده لـ"إدوارد سعيد" من كتابه "المثقف والسلطة".
وكأن الذات العارفة في مشروع قاسم المحبشي تصر حتى هذه اللحظة على مشروعها حول "التمثل المؤجل"، والحفاظ على مسافة ما بينها وبين قرار "التأسيس والانطلاق" للذات العربية، هي تقبع في منطقة البين بين منطقة "الانتظار"، ما بين صدمتها الوجودية من الواقع العربي وتمسكها بمساحتها الوجودية القريبة واليومية، و"الانفعال والاشتباك" معها، وما بين طبيعة الذات العارفة التي تبحث دائما عن مشروع "تتمثل" من خلاله وتطرحه على العالم.
وهنا ربما نعرج على المعنى الفلسفي لعنوان الكتاب "فيما يشبه الانتظار"، بوصفه دلالة على الذات العارفة التي تقبع في حالة ترقب وانتظار، في مستوى من مستويات التدافع والصراع الداخلي الذي تحمله تلك الذات العارفة، هي ترى انكسار حلم الذات العربية، لكنها ترفض أيضا الاعتراف بذلك، بما يشي بوجود رغبة عارمة في تجاوز هذا الواقع ورفض قبوله.

مفهوم الثورة
دلالة فارقة عند الذات العارفة
أما الدراسة الثانية ذات الدالة الخاصة والكاشفة لموقف الكاتب من العالم؛ فجاءت عن الثورة ومفهومها تحت عنوان "الثورة تحولات المفهوم وسياقات المعنى"، وهي الدراسة التي جاء فيها الخطاب أكثر فورانا وغليانا من سابقتها التي تحدثت عن النخبة ومفهومها ودورها.
في هذا المقال يبدو وأن البروفيسور قاسم المحبشي يقرر بدوره الثورة والتمرد على كافة المرجعيات والمفاهيم التي تناولت الثورة، وكأنه يضمها إلى قائمة "المستحيلات" مثلها مثل ثلاثية: الخل الوفي والعنقاء والغول، في دلالة واضحة على شعوره بالصدمة الوجودية تجاه مآل الثورات العربية، ومنها ثورة اليمن نفسها التي ينتمي لها الكاتب.
في بداية الدراسة يعلن عن رغبته في اتخاذ موقف عقلاني نقدي من المفهوم، يقوم على قطيعة معرفية مع الرائج الاجتماعي والفكري والنمطي، واضعا نفسه في سياق القطيعة ذاته حين تحمس للمفهوم وظاهرة الثورة العربية، وعن اليقين والآمال والطموحات التي أمنَ الناس أنها لابد آتية معها.
وفي المسار نفسه ينقد المحبشي معظم المقولات التي ارتبطت بمفهوم الثورة في تمثلاتها العربية السياسية والأيديولوجية، سواء في تصوراتها الدينية أو اليسارية وبمختلف مقولاتها التي عددها في الدراسة، مؤكدا على لا علمية بعض الأنساق التي تتحدث عن "الحتمية" تجاه الثورة، وتجاوز العلم في القرن العشرين لكلاسيكيات الشعارات الأوربية تلك التي لازال بعض العرب يرددونها.

الانتصار للواقعية على حساب الرومانتيكية
لكنه عاد للتأكيد على السياق الغربي للمفهوم وربط بينه وبين الحداثة ومشروعها، مارا بالثورة الفرنسية وأثرها ومعددا بعض الثورات الأوربية، ومقتربا من نشأة المفهوم ودلاته اللغوية في الحاضنة الأوربية، ليحاول أن يمرر لنا هنا تصورا واقعيا للغاية للثورة والتمرد!
فهو يعرض معيارا للمفهوم يقوم على الواقعية والأثر المجرد لا المثالية والشكل القيمي المتعدد للمفهوم، هو يطرح المفهوم واقعيا بين معيارين: "التمرد" و"الثورة"، حيث التمرد فعل ينتهي بقدرة السلطة والنظام على حصاره والقضاء عليه، بينما الثورة هل فعل كاسح يكنس النظام والسلطة وينتصر جذريا.
وهو تصور تميل له الذات العارفة في أطروحة البروفيسور قاسم المحبشي، نتيجة الواقع والصدمة الوجودية التي تعرضت لها الذات العربية في معظم بلدانها.
وفي دلالة أخرى على معيار الواقعية التي تميل له الذات العارفة هنا طرحت الدراسة مقابلة بين الثورة الفرنسية وبين الثورة الأمريكية، مبرزة ميلها للنموذج الأمريكي البرجماتي حول تعريف الثورة كعملية لتأسيس سلطة الحريات في المجال العام، أي الثورة كمفهوم إجرائي واقعي، لا الثورة في مفهومها الفرنسي الذي اتسم بالزخم الرومانسي والتدافع المذهبي والفئوي والفلسفي.
وختم الكاتب الدراسة فيما يشبه الحكم العام على "الثورات العربية" بأنها لم تحقق معيار "الانتصار الواقعي" بعيدا عن كل التدافعات والتأويلات الفكرية والجدلية، لأنها لم تحقق عدة معايير نمطية وفق استشهاد وتضمين أبرزه لكاتب بريطاني، لكن المسكوت عنه كان قد رفع صوته عاليا، لنعرف أن الصدمة الوجودية الواقعية وانكسار الثورات العربية هي المعيار الحقيقي، للمسافة التي تقف عليها الذات العارفة عند قاسم المحبشي في موقفها تجاه مفهوم الثورة ومردوده في الواقع العربي.

خاتمة: معيار الواقعية
وتدافعه مع "القيم العليا" المجردة
إنما ختاما هناك بعض الملاحظات الكلية التي يمكن توجيهها للتصور المعرفي الذي يقدمه البروفيسور قاسم المحبشي، من أبرزها أنه دائما ما يبدأ سرديته المعرفية من اللحظة الأوربية الفارقة للحداثة، ولا يقف كثيرا على تاريخ التصور المعرفي للظاهرة التي يقف عليها فيما قبل اللحظة الأوربية.
كذلك يهمل د.قاسم المحبشي أثر التناقضات التي فجرها الحضور الاستعماري الأوربي في البلدان العربية، ولم يقم بدارسة تاريخ "الهويات القاتلة" وحضورها فيما قبل الاستعمار، وكيف كانت تتعايش رغم نقده بالفعل لتحولها لهويات قاتلة.
لكن من داخل المنطق الذي يطرحه خطاب الكتاب يمكن أن نجد الإجابة؛ وهي أن الكاتب شُغل كثيرا بالواقع الآني وأزماته الضاغطة، وما آل إليه حال البلدان العربية بعد أن وصلت طموحاتها سقف السماوات والجبال، وجعلته –كذات عارفة- يختار "الانفعال والاشتباك" مع محيطه الوجودي القريب واليومي، ويقرر أن يقف مع "التمثل المؤجل" وألا يمنح الواقع والذات العربية موقفا يقوم على "التأسيس والانطلاق".
هناك من قد يقول أن "الانفعال والاشتباك" مع المحيط الوجودي القريب هو "فلسفة" في حد ذاتها، وهناك من قد يقول أن "التمثل المؤجل" للذات العارفة عند البروفيسور قاسم المحبشي، قد يؤجل للأبد حزنا على حال الذات العربية ومآلها، وأنه لن يأخذ القرار بالبحث في مقاربات فلسفية أخرى قد تؤسس لانطلاق الذات العربية، تأثرا بالفلسفة الواقعية التي انتصر لها في مفهومه عن الثورة.
لكن عنوان الكتاب عن "الانتظار" و"المشابهة" قد يكون له رأي آخر في تدافعات الذات العارفة عند قاسم المحبشي، وأن للحلم و"القيم الإنسانية العليا" المجردة مكانة ضمن المسكوت عنه عنده أيضا، تتدافع مع معيار الواقعية الذي يبدو أن انتصاره له انتصارا غير محسوم وغير نهائي بالمرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي