الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف تساعدنا الفلسفة في فهم مشكلاتنا المعاشة؟

زاهر رفاعية
كاتب وناقد

(Zaher Refai)

2021 / 10 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


قد تكون المشكلة الأكبر التي تواجهها في حياتك اليوميّة هي طريقة وعيك بمشكلاتك وتقييمك لأبعاد المشكل وقياس المشكلة على ما لا تقاس به منطقيّاً. نحن نعيش في كل جزء من الثانية في حالة اختيار دائم، حتى عدم الاختيار هو ببساطة اختيار الاستنكاف عن اتخاذ أي خيار. وبما أننا نعيش في حالة اختيار دائم فبالتالي نحن نعيش في حالة متواصلة من اتخاذ القرار، سواء أوعينا ذلك من أنفسنا ام حسبنا أنفسنا نعيشها وخلاص. أنت لديك الخيار عند قراءة كل كلمة من هذا المقال أن تقرأ تاليها أو تقفل المقال وتذهب إلى غير ذلك، وبما أنّه لك الخيرة في ذلك فذلك يعني أنك تقرر في كل كلمة أن تتابع القراءة، ومثلما الحال في هذا المثال هكذا تسير الحياة على هذا المنوال.
لكن وبما أنّ الحياة فيها من المشكلات الوجوديّة والمعاشة ما تشيب منه الولدان، فإننا نسقط في الغالب الأعم من حساباتنا تلك اللحظات المكررة التي نتخذ فيها قرارات نحسبها ليست ذات أهميّة، وذلك قياساً بمواقف أخرى وقرارات أكثر خطورة على وجودنا من ناحية النتائج المحتملة, مع أنّه وعلى المستوى الوجودي فكل لحظاتنا من الأهميّة الوجوديّة كأي لحظة أخرى, وعلى المستوى المعاش فلا يمكنك أن تعرف إن كان قرار الانتحار الآن يفوق من حيث الأهميّة قراءة هذا المقال حتى النهاية.
لذلك فالمسألة الأولى التي يجب الوقوف عندها حين تشعر أنّك أمام مشكلة هي التفريق بين المشكلة المعاشة التي ترتبط بتفاصيل وجودنا في هذا العالم, وبين المشكلة الوجوديّة التي ترتبط بوعينا لمسألة أننا في العالم. هنا أودّ أن آخذك لبضع نقاط يجب الانطلاق منها حالما تقرر أنك أمام الإحساس بوجود مشكلة:
- كل شعور بمشكلة يشتمل على شعور بنوع من الخطر القائم أو القادم.
- كل شعور هو شعور حقيقي بالمطلق، على الأقل بالنسبة لمن يشعر به.
- دفع الشعور بعيداً لن يزيد تشبّثه في وجداننا إلّا ضراوة.
- مسببات الشعور وليس الشعور نفسه هي التي يحق لنا التساؤل حولها إن كانت حقيقيّة أم لا, واقعيّة أم مختلقة, حاضرة أم مجتلبة؟.
- إذا كانت المسببات واقعيّة فالسؤال هو: هل هي فعلاً بحجم الخطر الماثل في الذهن حولها, أم أنّه تمّ تضخيم أبعادها بشكل أو بآخر في أذهاننا أو من خلال حواسنا.
- وفق أي محددات وقياساً على مَ بالضبط قمنا بتقييم الخطر الكامن في المشكلة فوق خط بياني محوره الأوّل الاقتراب من فناء الذات, أمّا محوره الثاني فهو الاعتداد بوجود الذات فوق أي اعتبار؟
- بعد تحديد مدى واقعيّة وحجم خطورة المشكلة يجب أن نتساءل , إن كان بالإمكان فعل شيء حيالها, أم أنّ التفكير بحلّ المشكل لن يزيده إلا تفاقماً؟ وعلى قولة لاو تسو الحكيم الصيني: ألّا تفعل شيئاً خير من أن تكون منشغلاً بفعل اللاشيء.
- هل ما أشعر به من استياء هو بسبب وجود مشكلة, أو لسبب آخر دفين كالحسد والحقد والحسرة وما إلى ذلك.
- هل الاستياء ناجم حقاً عن مشكلة أو عن عدم وجود مشكلة من الأساس, أي عن خوف من المجهول, وبالتالي نكون أمام أسوأ أشكال الخوف والذي ينتج أمّ المشاكل, أي القلق الوجودي.
إنّ محاولة فهم المشكل وأبعاده من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة يتطلّب أمران لا غنى عنهما:
الأوّل: هو أخذ مسافة من المشكل في جميع الاتجاهات عقليّاً وعاطفيّاً, والنظر للمشكل وكأنّه مشكلة امرؤ آخر لا أنت, أي أن تروي مشكلتك لنفسك وكأنها مشكلة أحد ما يرويها لك ويطلب منك التفكر فيها.
الأمر الثاني: هو أخذ أعلى حد ممكن من التباطؤ في عمليّة التفاعل الوجداني والعملاني مع تفاصيل المشكل وصغائره, وذلك كي نتجنّب الوقوع في فخّ الغضب حيث تعمينا غريزة الصيد والمطاردة الكامنة في جانبنا الطبيعاني كبشر, وكذلك كي نتجنّب الوقوع في فخّ الإحباط الزائف بفعل التعامي عن الاحتمالات القائمة.

الحريّة كنعمة لا كخطيئة:
من أجل فهم ماهيّة الحريّة الوجوديّة ودورها في تحريرنا من أسر العيش كمشكلة في هذا العالم يجب فهم ثلاثيّة الرعب الوجودي التي تعمل على محاصرة الموجود الواعي وإيهامه بثقل الحريّة ووجوب الاستغفار منها ومن التفكير في وجوب استعمالها في مواجهة ثلاثي الرعب الوجودي هذا:
رعب الوجود، يتجسّد في اللحظة التي لا يعود للنفس فيها أي مهرب من الاعتراف بحقيقة وجودها.
رعب المصير, ينشأ من اللحظة التي نهرب فيها من رعب الوجود بدل أن نتقبّله.
رعب السقوط، وينشأ جرّاء التحديق في الهوّة التي نعبر فوقها بين رعب الوجود ورعب المصير.
ينشأ رعب الوجود في لحظة تكشّف العدم عن ذاته في صورة الوعي، وأوّل ما يعيه الموجود هو الحريّة في إمكانيّة العودة للعدم. لحظة التبصّر الأولى بالحريّة هي التي ستلازم الموجود كشعور بالخطيئة الأصيلة إلى أن يصل للعدم مرّة أخرى. وما التعامل مع الحريّة كخطيئة وفخّ إلهي إلّا الأصل في نشوء رعب السقوط, والذي يلازم الموجود طالما هو موجود. حيث ينشأ رعب السقوط من إمكانيّة عدم السقوط بحد ذاتها، القائمة ما دام رعب المصير قائماً. أمّا رعب المصير فهو رعب الخسارة الأبديّة لإمكانيّة العودة للعدم, أي رعب الخسارة الأبديّة للحريّة الأصيلة.
إن الوعي بثلاثيّة الرعب الوجودي والوعي بدور الحريّة في المسألة الوجوديّة كفيل بتحريرنا من عبء المسؤوليّة الوجوديّة عن قراراتنا التي اتخذناها ونتخذها كما قلنا في كل لحظة, سواء لظننا أنّها خير ما نختار, أو لمجرّد الهروب من اختيار الدوران اللامتناهي في دوامة الرعب الثلاثيّة.
هناك فرق على المستوى الوجودي بين أن تعيش بنفسك كمشكلة وبين أن تعيش كإنسان بجانب المشكلة حتى لو تجاورتما الدهر كلّه. نحن كبشر لا طاقة لنا ان نعيش بأنفسنا كمشكلة وجوديّة، ذلك أنّه لدينا الوعي الذي يمكننا في النهاية من البحث عن مصدر المشكلة والقلق الوجودي، حينها سنجد أنفسنا أمام المرآة في نهاية النفق، وحينها ستكون العواقب إمّا إلهيّة مفارقة، وإمّا عبثيّة محضة.


واحديّة كينونة الموجود:
هذا العالم كالماء لا شكل ولا لون ولا طعم يحدده، إنّما نحن الموجودات جميعاً بمواضعنا فيه نقوم برسم صورته التي نريد لها أن تنعكس في أذهاننا عنه. فالانطباعات حول العالم ما هي في المحصلة سوى معاينة مجموع تمثلات إرادة الإنسان فيه. وكما هو العالم كذلك نحن, فكل الأطوار التي يمرّ بها المرء في حياته عقليّاً وعاطفيّاً ووجوديّاً إنّما تشكّل بمجموعها كينونة هذا الإنسان في النهاية. بالتالي فإنّ السعي لرفض أي تجربة معاشة أو إنكارها لمجرّد أننا نعتبر أننا حينها قد أخطأنا الاختيار إنما هو سعي بشكل أو بآخر لرفض جزء من كينونتنا والتضحية بجزء من ذواتنا بهدف إفساح الطريق أمام الوعي كي يبحث لنفسه عن شكل من أشكال الفهم للعالم يكون أكثر معقوليّة، وهذا هو تعريف الوهم.
كي تحقق النجاح الحقيقي عليك أن تعلم بأنّ النجاح ليس إلّا وضع مجموع الخبرات المتحصلة من التجارب الفاشلة موضع التنفيذ على الدوام.
المشكلة الفلسفيّة الكبرى والتي هي أعظم وأعمق حتّى من الموت ذاته هي في أننا لا نستطيع أن نجعل الماضي عدماً. الماضي محفور فينا، وطالما أننا موجودون ويعنينا أن نظلّ فالماضي لن يندثر، لن يندثر إلّا باندثارنا. بالتالي فالمطلوب هو التصالح مع الماضي، وعيش اللحظة، والعمل للغد, لا أكثر ولا أقل. هذه هي الطريقة الفريدة التي لا تكون فيها حريّتنا في الاختيار هي السبب في سقوطنا وإبداء سوآتنا وبحثنا عن أوراق توت نداري بها عورات لا نعلم أوجه عوارها. أمّا اجترار الماضي والخوف الدائم من الاختيار والتحديق في هوّة العدم فهي الخطايا الوجوديّة التي سترمي بالموجود البشري في خربة العبث عاجلاً أم آجلاً.

العلاقة مع العالم علاقة جدليّة:
بخلاف ما يعتقده الكثيرون بأنّ الإنسان عليه أن يختار ما هو متاح أو يسعى لتشكيل تغيير في نفسه أو فيمن حوله بغية استجلاب خيارات أكبر وأشمل من المتاحة حاليّاً, أو ربما لنيل قسط أكبر من الاستقرار والهناء في العيش. هذه الإيمان بأسبقيّة الفكرة على الواقع نسمّيه في الفلسفة "الجدل المقلوب". ودون الخوض عزيزي القارئ في تفاصيل رأس الجدل من أرجله وعلى أيّهما يمشي يسعدني أن أخبرك بأكبر إيجاز ممكن ما هو الجدل الديالكتيكي وما علاقته باتخاذ قراراتك في الحياة:
قراراتك هي نتيجة المحيط الذي أنت فيه سواء أكنت فيه في الماضي أم الحاضر فلا يوجد انفصال بين الفكرة التي في رأسك والتي تقودك لتفضيل هذا القرار دون ذاك وبين المعطيات الخارجيّة سواء الماديّة أم الفكريّة التي تدفعك لاتخاذ هذا القرار دوناً عن غيره. وأنت حين تتخذ قراراً فإنك تقوم بافتعال تغيير في المحيط, سواء في محيط أفكارك أم في محيطك المادي. هذا الأثر في المحيط سينعكس على الآخرين ويعمل على تشكيل قراراتهم وبالتالي ستنعكس قراراتهم على محيطك وعلى قرارك التالي وهكذا دواليك ستسير الأمور بشكل ديالكتيكي...
لذلك فحين تريد لنفسك أن تقرر بشكل أفضل فلا تعمل على إرغام عقلك على التنبؤ بالمستقبل ومعرفة ما هو الأجدر, كما لا تعمل على تغيير الآخرين من حولك بالتوسل لهم أن يتغيّروا أو بإرغامهم على ذلك, لأنّ كل ذلك لن يؤدّي سوى لتمزّق الأنا في محاولة فهم الذات والعالم. كل ما عليك ببساطة هو أن تضع نفسك في المحيط الذي يساعدك على اتخاذ قرارات من النوع الجيّد لك. كما ستحتاج أيضاً لاتخاذ قرارات تتناسب مع التغير الذي ترجوه من المحيطين بك, والذي تعتقد أنها تغيرات ستنعكس على المحيط الذي أنت فيه بالشكل الذي يخدم قرارك التالي.. وهكذا..
على سبيل المثال: الصراخ في المنزل لأنّ الإنسان لا يجد فيه راحته بعد العودة من العمل سيجلب الهدوء المؤقت بسبب الخوف, لكن على المدى القريب لن يجلب صراخك إلّا محيطاً مليئاً بالصراخ لتأثره بصراخك, لأنّك ستعلّم الآخرين ما هو الصراخ وتعلّمهم أنّ الصراخ مقبول ونافع وقابل للفعل ويأتي بنتائج فوريّة باهرة, وبالتالي سيعود صراخك عليك بعكس ما كنت تبتغ منه. أمّا حين تتكلّم بهدوء ورويّة فإنك ستقوم بافتعال الهدوء والرويّة في نفوس المحيطين بك, مما سينعكس عليك محيطاً هادئاً كما تتمنّى.

الخلاصة:
أنت كلّ واحد موحّد.. فنيابة عمّن تجلد نفسك على خياراتك التي لم يكن لك أن تعلم يقينيّة صوابيتها قبل أن تتخدها, والتي لن تعلم أبداً على المستوى الوجودي الدائم إن كنت فعلاً تستحق أن تشكر نفسك عليها أم تجلدها؟
العلاقة بينك وبين محيطك تبادليّة, فإذا أردت لنفسك أن تسير باتجاه معيّن فعليك أن تغيّر في المحيط لينعكس عليك بالشكل الذي سيوجّهك حيث تشاء, لا ان تلعن نفسك والآخرين لماذا لا يحصل التغيير بمجرّد صوابيّة فكرة التغيير ذاتها.
أنت هنا... أنت ستختار.. ليس لك ألّا تختار.. اليقين من صوابيّة الخيار وهم .. اختر لنفسك إذن أن تضع ذاتك فوق كل اعتبار ولا تسمح لنفسك أن تعيش في مشكلاتك كعش دبابير متنقّل.
دعوني أدعوكم هنا لقراءة مقالين كتبتهما في الحوار المتمدن على صلة بموضوع مقالنا هذا:
مقال بعنوان "قواعد التقبّل الثلاثون" تجدونه تحت الرّابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=729889
مقال بعنوان " دعوة لقراءة كتاب (قلق السعي إلى المكانة)" تجدونه تحت الرابط:
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=690303

كما يسعدني هنا أيضاً أن أدعوكم لقراءة كتاب "فنّ اللامبالاة" من تأليف الكاتب مارك مانسون.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان: أين الضغط من أجل وقف الحرب ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24


.. مؤثرة موضة تعرض الجانب الغريب لأكبر حدث للأزياء في دبي




.. علي بن تميم يوضح لشبكتنا الدور الذي يمكن للذكاء الاصطناعي أن


.. بوتين يعزز أسطوله النووي.. أم الغواصات وطوربيد_القيامة في ال




.. حمّى الاحتجاجات الطلابية هل أنزلت أميركا عن عرش الحريات والد