الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الخوف يصنع التاريخ

عقيل عيدان

2006 / 8 / 22
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


قال الأديب الفرنسي (موريس باريس) إن الضابط البطل (بيريكار) اعترف له يوماً بأنه لم يرسل صيحته الشهيرة " وقوفاً أيها الأموات " عن شجاعة واستهزاء بالموت ، بل عن خوف ورعب .
وكان البروفيسور (فريرو) يرد إلى الخوف الفردي أو الجماعي مجموعة من الثورات والانقلابات التي يتكوّن منها تاريخ الأمم والشعوب ، البائدة منها والحية ، المتأخرة والمتحضرة ، الفتيّة المتحفزة والهرمة التي بدأ ذوبانها في بحر الماضي .
فيوليوس قيصر لم يقطع النهر المحرّم جرأة وإقداماً بل خوفاً على شعبيته ، ومن ثم على حياته ، وأن بروتوس لم يقدم على قتله إلاّ خوفاً على جمهورية كان يرى فيها صورة لإرادة الآلهة وحصناً للفضيلة والوطنية . وأن أباطرة الرومان الذين جاءوا بعدهما كانوا يقتلون فيخافون ويخافون فيقتلون .
وهكذا نجد الخوف والإجرام يتعاقبان في تاريخ تلك الدولة التي بلغت من الصولة والسؤدد والمجد ما لم يحرزه غيرها من قبل ومن بعد . وكان من نتائج هذه المناوبة بين الخوف والقتل أن 34 فقط من المائة والتسعة القياصرة والأباطرة ماتوا حتف أنوفهم .
والثورة الفرنسية انبثقت من خوف الملكية من الإفلاس وخوف الشعب من المجاعة . ورجالها ، بعد أن عالجوا أسباب مخاوفهم الأولى بالوسائل القهرية وأعمال العنف ، خافوا من نتائج سياستهم ، فانتقلوا تحت تأثير الخوف ، من الشذوذ والاستبداد إلى الإرهاب والطغيان . ثم دبّ في نفس كل منهم الخوف من الآخر ، فراحوا يقتل بعضهم بعضاً ، واستحوذ على الناس الخوف من شهوة التقتيل هذه ، فنأى منهم من استطاع وانصرف الباقون ، كل يدسّ على جاره قبل أن يُوقِع به جاره . ويحبّذ القتل مخافة أن يُقتل . واستمرت الأمة غارقة في الدم إلى أن تم لأكثر نواب المجلس الوطني هلعاً تكتيل الجازعين والمتشائمين .
وبدت آية هذا التكتل في جلسة 27 يوليو الشهيرة ، فسقط روبسبير ، وفي اليوم التالي قطع رأسه ، فانتصر خوف على خوف . على أن موت الطاغية " النقي اليد " لم يزحزح الكابوس الخارجي الذي كان جاثماً على القلوب والضمائر ، فظلت فرنسا الثائرة جازعة من أوروبا الملكية ، وبقي الملوك خائفين من ثورة قطعت رأس لويس السادس عشر . واستمرت حالة الذعر العام حتى قضى عليها مؤتمر فيينا .
والحقيقة أن لا شيء أفعل من الخوف في النفس ، ولا أثبت منه في القلب . فهو يرافق الناس من الساعة التي تتفتّح فيها عقولهم لمعاني الحياة إلى اللحظة التي تلقي فيها يد الله غشاوة الموت على أبصارهم .
فهم دائماً يخافون من أمر ، أو يخافون على أمر ، هذا على ثروته ومكانته وصحته ، وذاك من فقره وذلّه ومرضه . وقد يكون أكثرهم خوفاً أشدهم تبجحاً بشجاعته . وأية ناحية من نواحي الحياة ، أو أية ساعة من ساعات العمر ، لا يجد فيها الباحث أثراً للخوف .
وإذا أنت سألت البخيل عن أسباب تقتيره أجابك ، على فرض اعترافه ببخله ، أنه يخاف على نفسه وعياله من تقلبات الدهر ومفاجآت الفقر ، وإذا لمت المسرف على تبديده قال لك إنه يخشى أن يدركه الموت قبل أن يتم له الاستمتاع بملذات الحياة .
واتفاق رجلين على أمر ما لا يتم إلاّ لدرء خوف يشعر به كلاهما ممن هو أطول منهما باعاً وأمضى عزيمة وأوفر استعداداً . ومن أهم أسباب تحقيقه زوال خوف كل منهما من الآخر .
والخوف مبعث العواطف التي لا تشرّف الإنسان . فالحقد والحسد رافدان من روافده ، والطمع والقسوة والأنانية والبغض بعض فروعه . أما الحب الذي يقال إنه يسمو بالنفس إلى أرفع مستوى ويسدّد الخطى إلى أعظم الأعمال ، فكم في التاريخ من شواهد على أنه أقل ثباتاً من الريح وأن هجمة من هجمات الخوف تطفئ ناره وتذهب آثاره .
وكان الكاتب الروسي مكسيم غوركي قد أجمل الآراء التي تتجلى فيها خفايا النفس وتنعكس عليها حقائق الحياة ، نقية من الرياء بريئة من الكبرياء ، في نصيحة أسداها لشباب بلاده قال فيها ؛ إذا أردتم أن تعيشوا أحراراً ، فليكن خوفكم من الاستبداد أشد من حبكم للحرية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. 200 يوم على حرب غزة.. ماذا جرى في «مفاوضات الهدنة»؟| #الظهير


.. مخاوف من اتساع الحرب.. تصاعد التوتر بين حزب الله وإسرائيل| #




.. في غضون أسبوع.. نتنياهو يخشى -أمر- الجنائية الدولية باعتقاله


.. هل تشعل فرنسا حربا نووية لمواجهة موسكو؟ | #الظهيرة




.. متحدث الخارجية القطرية لهآرتس: الاتفاق بحاجة لمزيد من التناز