الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محكمة الثورة كما شاهدتها عام 1986

ثامر قلو

2006 / 8 / 22
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


في الحادي عشر من تشرين الاول من العام 1986 كان جلاوزة النظام الدكتاتوري يسوقون كوكبة من المناضلين من احدى المحافظات الشمالية ، أربعة شباب ، فتاة ، وامرأة ، نحو مصير مجهول ، وقد كنت أنا كاتب هذه السطور أحدهم . لقد دفع الجلاوزة بنا الى داخل شاحنة مقبطة تماما لا يوجد بها غير رحلتين متقابلتين ، و ما أن جلس كل منا على جانب من المكان ، حتى أقدم نفر منهم على تقييدنا بالسلاسل من اخمص اقدامنا حتى صدورنا ، ولم يكتفوا بذلك بل تم تقييد بعضنا بالبعض بتلك السلاسل لنصبح كتلة واحدة .
في الطريق ، تغافل الجميع وجهة الرحلة وافقها القاتم بالنسبة لمصيرنا ومستقبلنا ، لكن الامور كانت من الوضوح بحيث أدرك كل منا أن المصير والمستقبل صارا مرهونين بما يقرره جلاوزة محكمة الثورة ، ان لم يكن قد قرر سلفا غداة نهاية التحقيقات الاولية في مديرية الامن من قبل الجلاوزة الاولوين .
تناسى الجميع المحنة ، وعدنا بالذكريات ، تكلمنا في كل شي الا النضال والثورة والسياسة ، وقبل أن ينسج الفجر خيوطه الاولى ، دلفت الشاحنة عن الطريق بعض الشيء وتوقفت عن المسير .
لحظات مرت حتى فتح باب الشاحنة من خارجها ، وقد كان أحدهم يحمل الينا الفطور ، فقد كانت وجبة كباب ممتازة ، وللحق فان مأساتنا في سجن المديرية الانفة الذكر طالها كل شي من التعذيب الجسدي والنفسي والاهانات، باستثناء الغذاء ، فالامر حقا مدهش أن يقدم للسجين السياسي وجبات غذاء معتبرة كل يوم وفي اوقاتها المحددة ، حيث كان يقدم لجميع السجناء وجبات ممتازة من الغذاء ، فهذه كانت بادرة لا يسع المرء غير الاشادة بها .

أنطلقت بنا الشاحنة مرة اخرى بعد أكلنا الكباب العراقي الشهير ، وبعد نحو ساعة توقفت الشاحنة عن المسير ، فقد كان توقف الشاحنة هذه المرة لامر مختلف تماما ، فما ان كبح السائق فرامل الشاحنة حتى كان بعض الجلاوزة فتحوا الابواب وتقدموا صوبنا ، وسحبونا خارج الشاحنة بعد ان فكوا السلاسل .
يستحيل على المرء وصف جو الرعب الذي احاطه بنا هؤلاء الاوغاد لحظة وطأة أقدامنا الارض خارج الشاحنة ، فكانت صيحات دنج ، دنج يطلقها العشرات منهم الذين تجمعوا حولنا في أمر مدروس ومرتب له ، ورغم اشتداد الرعب والتخويف ، تمكنت من تفحص المكان ، فقد بدا لي ان المكان مألوف ، رأيته كثيرا ، وقد لعبت الكرة بجانب هذه البنايات ، لحظتها عرفت في الحال ان الشاحنة حطت بنا في مديرية الامن العامة .

في السبعينات لم تكن الامن العامة الكائنة في منطقة السعدون محاطة من كل جوانبها كما بدت في الثمانينات ، وقدر أن يكون سكن العائلة على مسافة مائة متر من مديرية الامن العامة ، في الشارع الذي كان من بين بيوته مطبعة طريق الشعب ، فعرفت أن الشاحنة دخلت عبر الشارع المقابل لبناية القصر الابيض ، من جهة شارع النضال ، وفي ذات الشارع كان يقع نادي التعارف الصابئي .
لقد كان جو الامن العامة مختلف تماما بالنسبة لنا ، فقد وضعنا في غرفة مشبكة الى جانب عشرات الغرف المقامة بهذا الشكل ، وقد كانت مفتوحة على بعضها البعض ، وصار بمقدورنا التحرك كما نشاء ، نذهب للمرافق الصحية وقت ما نشاء ، فكان الامر بالنسبة لنا بالمقارنة مع أجواء السجن السابقة مدهشا .

لم يكن استقدامنا الى مديرية الامن العامة غير محطة قصيرة لا يتجاوز عمرها يومان ، حتى يتم تقديمنا لمحكمة الثورة .

صبيحة يوم الثالث عشر من تشرين الاول ، كان موعدنا مع شاحنة جديدة لا تختلف كثيرا عن الشاحنة التي اقلتنا الى مديرية الامن العامة ، غير أن بابها الخلفي الوحيد الذي يقف امامه حارسان كان لا يطبق تماما ، مما فسح المجال لنا لمعاينة حركة الشاحنة واتجاهاتها في الشوارع ، وهكذا صرت امعن النظر على جانبي الطريق لاقرأ لوحات المحلات التي طالما شاهدتها عن قرب يوم كنت اترجل الطريق الى اعداية النصر التي درست فيها و الكائنة في شارع 52 ، فوقع نظري على قطعة أفران ديانا الاتوماتيكية الشهية والبنك المركزي في ساحة الاندلس ، والعشرات من اللوحات الاعلانية ، حتى صار الطريق موحشا لا اعرفه كلما تقدمنا في المسيرنحو ضواحي بغداد ، و بعد مسير ما يقارب ساعة او أقل بقليل ، كانت الشاحنة تقف بنا مرة اخرى ، لكن هذه المرة أمام بناية صغيرة ، يمتد على جانبيها البساتين والمناطق الريفية .
نزلنا من الشاحنة ، نحن الشباب الاربعة ، بعد أن فكوا قيودنا فتدرجنا نحو سرداب في الطابق الارضي ، فقد كان يغص بالمسجونين ، ننتظر تلاوة أسمائنا للمثول أمام القضاة ، كما يفعل هذه الايام عواد البندر الذي كام يومها رئيس المحكمة .

بعد انتظار ساعة أو نحوها ، كان صدى صوت جهوري يشق عباب القاعة مناديا على أسمائنا ، فدخلنا قاعة المحكمة ، وبعدها الى قفص الاتهام، وقد وجدنا زميلتينا واقفتين فيه .
لم تكن محكمة الثورة السيئة الصيت غير قاعة لا شكل محدد لها، فاحتل جانبها الاسفل قفص الاتهام ، ويقف أمامه ببضع امتار مقاعد يجلس عليها بضعة ضباط برتب كبيرة ، وكاتب المحكمة ، وهيئة الادعاء يقفون الى جانبهم ، ومحامي الدفاع الذي وقف الى يميننا، اضافة الى قاضي المحكمة الذي اظنه كان عواد البندر .
تلى الادعاء كليشات الاتهام وقد كانت صريحة وموقع عليها من قبلنا ، موضحا مدى الخطورة الكامنة على مستقبل النظام في حال بقاءنا على قيد الحياة ، لكن المدهش هو ظهور محامي لنا في المحكمة ، محامي دفاع لم نرى له وجودا سوى في المحكمة ، محامي يدافع عنا لم يلتق بنا لبرهة أو لحظات ، كلما فعله ، انه طلب الرحمة والغفران لنا .
.بعد تلاوة الادعاء والدفاع لاقوالهم في القضية ، أتذكر جيدا عندما سألني القاضي أن كنت حقا مسؤولا عما جاء في الاتهامات، فقلت له نعم ! فقال لماذا تفعل هكذا ، فقلت ، لقد كنت صغيرا ، فردني ، كيف تكون صغيرا وانت طالب في كلية الهندسة !

كان همي ، وهوكما أظنه كان هم الاخرين ، النجاة من عقوبة الاعدام ، وتقبل أي عقوبة أخرى برحابة صدر ، واعتبارها فسحة حتى لو كانت بمدى الحياة ! رغم أن جرمنا السياسي كان خفيفا لا يتعدى الانتماء لحزب محظور والاتصال بالانصار وتوزيع الادبيات الحزبية وتعليق الدعايات ، ومع ذلك كنا نعي تماما عواقب معاداة النظام وخصوصا في مرحلة الحرب العراقية الايرانية فقد كان قتل المعارض لدى جلاوزة النظام اقل وطأة من قتل شاة ما.

بعد عشرين سنة لم تزل صرخة القاضي وهو يتلوا الحكم علينا بالاعدام حسب المادة 156 طرية ، تشحنها مرارة الايام ، خصوصا أيام النظام الكتاتوري .

هذه كانت محكمتهم ! فانظروا كيف تتم محاكمتهم ، وكيف يحاكمون هم ؟!











التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الشرطة تعتقل متظاهرين في جامعة -أورايا كامبس- بولاية كولوراد


.. ليس معاداة للسامية أن نحاسبك على أفعالك.. السيناتور الأميركي




.. أون سيت - تغطية خاصة لمهرجان أسوان الدولي في دورته الثامنة |


.. غزة اليوم (26 إبريل 2024): أصوات القصف لا تفارق آذان أطفال غ




.. تعمير - مع رانيا الشامي | الجمعة 26 إبريل 2024 | الحلقة الكا