الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


يا جهلاء العالم .. أتحدوا

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 10 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


"الجهل" و"العلم" مفاهيم نسبية ومجردة ولا تفيدنا كثيرا إذا لم نحدد "موضوع" ما نجهله وما نعلمه. فالفيزيائي الذي يعرف قوانين المادة ويعرف كيف يفجر نواة الذرة والقادر على صناعة القنبلة النووية، بالتأكيد هو "عالم" ويمكن أن يحصل على جائزة نوبل للسلام تقديرا لما قدمه للبشرية، ولكنه ربما يكون جاهلا لبعض القيم الإنسانية وجاهلا لإمكانيات الدمار التي يمكن أن تنتج عن لعبته التي تخيلها في معمله الجامعي. والإنسان الجاهل لقوانين الكون وحركة المجرات والكواكب ولوجود المجموعة الشمسية وقوانين الجاذبية ولا يعرف إن كانت الأرض تدور حول الشمس أو العكس، ويعتقد أن الأرض كرة يحملها ثور بين قرنيه أو أنها مسطحة، في نفس الوقت قد يكون عالما بكيفية حرث الأرض وزراعة القمح ووقت الحصاد وصناعة الخبز له ولأطفاله، وكيفية التعامل بحكمة مع المشاكل اليومية المتكررة. في البلدان المتخلفة، نعرف الإنسان الذي لا يعرف القراءة والكتابة بـ"الجاهل"، وهذا المفهوم ليس جديدا ولا غريبا عن تاريخ العالم العربي والإسلامي. فالجيل الأول من المسلمين كانوا ينعتون بالجهل العربي الذي لا يؤمن بإله محمد، وسمى لاحقا العصر الذي سبق الإسلام بأكمله بـ"العصر الجاهلي"، والصقت صفة الجاهلية بالإنتاج الثقافي لهذه الفترة مثل "الشعر الجاهلي" بغض النظر عن التشكيك في صحة هذا الإنتاج. فالجهل إذا هو عدم معرفة الشيء، وهذا الشيء قد يكون الله أو القراءة والكتابة، وقد يكون أي شيء آخر، التصنيف يعتمد على الجهة أو السلطة ـ ثقافية أو إجتماعية أو سياسية - التي تضع معايير القياس وتحدد "الأشياء" التي يجب معرفتها حتى نجتاز عتبة الجهل. فالجاهل في نهاية الأمر هو الإنسان "المختلف" والموجود على هامش ثقافة سائدة ورسمية والتي تمتلك سلطة التعريف التقييمية. فعالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي شتراوس، يمكن إعتباره جاهلا في مجتمع هنود النامبيكوارا ومجتمعات الهنود على الحدود بين البرازيل وباراغواي، لأنه لم يكن يعرف لغة هذه القبائل ولا عاداتهم وتقاليدهم ولم يكن يعرف كيف يأكل أو يشرب أو يتواصل مع هذا المجتمع، وبقي لسنوات عديدة يتعلم ويدرس نظام الأسرة وعلاقات القرابة بينهم وكذلك القصص والأساطير والنظام الفكري والرمزي الكامن وراء كل حركة وكل فعل للفرد وللمجموعة الإنسانية المعنية. اليوم في العالم المتخلف ننعت المواطن البسيط الذي لا يعرف القراءة والكتابة بالجهل، لأنه لا يعرف معايير الحياة الحديثة، فهو لا يعرف الأنترنت ولا يعرف الآيباد أو الفيسبوك ولم يركب في حياته الطائرة، ولا يحترم إشارات المرور ويلقي بعلبة سجائرة الفارغة وبزجاجة الكوكا كولا في الشارع بدلا من علبة القمامة، يصرخ بدلا من أن يتكلم وربما يضرب أطفاله وزوجته .. إلخ غير أن هذه المظاهر الخارجية ليست وحدها التي تجعل هذا المواطن يستحق صفة "الجاهل"، هناك معيار آخر أكثر أهمية وأكثر خطورة وأكثر إنتشارا، بحيث يتجاوز المجتمعات المتخلفة ويشمل العالم المتحضر بجملته، وهذا المعيار هو "تفوق الثقافة المكتوبة على الثقافة الشفوية"، وبالتالي إرجاع "الثقافات الشعبية" بكل ما تحمله من ثراء وخيال ورموز وحس عملي وإنساني إلى مجرد ثقافات بائدة ومتخلفة ومصيرها الزوال. وهذا ما يفسر إلى حد ما في البلدان "العربية" التهميش والإحتقار للثقافات واللغات والمجتمعات التي لا تنتمي ثقافيا وتاريخيا للغة القرآن العربية، الأمازيغية كسبيل المثال فيما يخص الشمال الأفريقي بإعتبارها لغة وثقافة شفهية تفتقر إلى الكتب والمخطوطات وإلى لغة مكتوبة ومقننة توحد اللهجات الأمازيغية المتعددة. الإيديولوجيات السائدة اليوم تعتبر أن "الثقافات الشعبية" قد أدت دورها التاريخي وانتهت إلى غير رجعة وأن الثقافة الحقيقية هي "الثقافة المكتوبة" المرتبطة إرتباطا وثيقا بـ"العلم" الذي لا نستطيع أن نصل إليه إلا عن طريق مقاعد الجامعات والأكاديميات والمعاهد العليا ومعامل الكيمياء والفيزياء، الأمر الذي يخلق أوتوماتيكيا نخبة من المتعلمن أصحاب الشهادات "العليا" منفصلة ومتعالية عن أغلبية الشعب "الجاهل". وربما يمكن إرجاع هذا النمط من الفكر السائد إلى هيمنة هذه الطبقة من البشر وإرتباطها العضوي بالنظام الإقتصادي المسيطر على الإنتاج في كل بلدان العالم، والهادف إلى تعميق إستلاب المواطن وفصله وعزله عن أصوله الإنسانية لخلق "إنسان عام" مجرد يسهل التحكم في مصيره وتوجيهه ليتطابق مع النمودج. وعندما نلقي نظرة على هؤلاء المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا الذين يحكموننا وعلى الحالة التي وصلت إليها هذه البلدان، إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا، ودرجة التخلف والإنهيار الذي تعاني منه مؤسسات التعليم والصحة والخدمات والثقافة وغيرها، لا يمكننا إلا أن نتسائل بجدية إن لم يكن من الأفضل أن يتولى "الجهلاء" إدارة أمور العالم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الانتخابات التشريعية في فرنسا : هل يمكن الحديث عن هزيمة للتج


.. فرنسا : من سيحكم وكيف ؟ • فرانس 24 / FRANCE 24




.. سائل غامض أخضر اللون ينتشر على أرضية مطار بأمريكا.. ما هو وم


.. فشل نظام الإنذار العسكري.. فضيحة تهز أركان الأمن الإسرائيلي




.. مقتل وإصابة العشرات من جراء قصف روسي على عدة مدن أوكرانية عل