الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عبد الله العروي، وهج العقل المغربي الأخير

إيلي مجد

2021 / 10 / 23
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


"إننا نواجه واقعا لا يهمنا أن نعرف كيف نسميه بالضبط تأخر، إستعمار، تطور معاق، تنمية غير متكافئة، أو من المسؤول عنه القدر،المناخ،الموقع،التوكل...ما يهمنا جميعا هو أن نعرف كيف نتخطى حدود الذات...كيف نتعرف على أنفسنا انطلاقا منا لا بالمقارنة مع غيرنا كيف ننهي ما تعودنا عليه من غربة ذهنية و انفصال عن الطبيعة
هذا وحده يعني ثورة ثقافية نقلة نوعية من موقع إلى آخر أعلى وهو ما لم يتحقق بعد"1 .
لكن ما تحقق فعلا هو ركود تاريخ المغرب منذ سقوط آخر قلاع أحفاد طارق بن زياد بغرناطة الموروأندلسية في 1492إلى الآن. فوقائع الخيبة المغربية توالت سواء في الحقبة الحديثة أو المعاصرة . لقد كانت أقوى من عبد الله العروي ، أو عبد الله الرافضي حين اختاره اسما مستعارا في1964 لنشر مقالاته الرافضة لأزمات الواقع السياسي و الحضاري للمغرب وقتذاك، من السهل على القارئ العادي لسرديات التاريخ المغربي استنتاج الأزمات و الانكسارات التي ميزت تاريخنا انطلاقا من القرن15. تاريخنا كان ولايزال حرفة أتقنها العروي لدرجة أنه فك طلاسم استعصت على عدد من المؤرخين المهتمين بتاريخ المغرب. ارتبط ذكره بإعادة قراءة و نقد التاريخ المغربي و العربي معتمدا أدوات تشريح غربية، بواسطتها أعلن تمرده على التقليد في زمن كانت فيه المحاكاة و الرجعية قاعدة متأصلة و مفتاحا للنجومية. يرى العروي أن الروايات التاريخية السلطانية لا تتوفر على المقاييس الأكاديمية مما تسبب في إنتاج سجل تاريخي خال من المصداقية. و الأسوأ أن تاريخ المغرب خاصة القديم منه كتبه المتطفلون، مما دفعه إلى المطالبة ب"تجديد تاريخ المغرب...إعتمادا على إستغلال تقنيات البحث المعاصر بهدف إعادة تحقيب ماضي المغرب" 2.
من أجل ذلك توسل في مهمته الوطنية بالتاريخانية منهجا علميا للرد على أكاذيب المدرسة التاريخية الأوروكولونيالية. التي و بحكم أدلوجتها الإمبريالية بدل أن تنتصر للأمانة العلمية، ساهمت في نشر الخرافات المسيئة لتاريخ المغاربة ، غير أن فئة من منتقديه ترى أن تاريخانيته أضحت متجاوزة و ما هي إلا مجرد تكرار لأطروحات ماركس، هيجل، مكيافيلي و إبن خلدون. و حتى إن ولدت تاريخانيته من رحم الفلسفة الماركسية المادية، فشيخ المؤرخين المغاربة يرفض و بشدة أن يلقب بالفيلسوف و لا يقبل أن تصنف كتاباته ضمن الكتابات الفلسفية، رغم أنه أصدر كمحلل للمفاهيم الفلسفية و السياسية عددا من العناوين ذات النفحة الفلسفية بداية من "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" مرورا بمؤلف"مفهوم العقل" و نهاية بكتاب" بين الفلسفة و التاريخ". موقف العروي من الفلسفة هو الموقف نفسه لصاحب المقدمة و ديوان العبر العلامة ابن خلدون حين سفه الفلاسفة قديما. هذا الموقف أثار حفيظة رواد الفلسفة المعاصرين كأيقونة الفلسفة العربية في الزمن الراهن المغربي الحكيم محمد عابد الجابري، حيث أكد أن العروي من المتأثرين بفلسفة التيار المتياسر الماركسي المتبلور إثر الثورة الطلابية بفرنسا1968، فضلا عن ذلك طرح الجابري فرضية شك العروي في إمكانية انتقال العالم العربي من مرحلة غير ليبرالية إلى مرحلة اشتراكية من دون المرور بالمرحلة الرأسمالية، مفسرا ذلك أن العروي ركز على البنية الفوقية و أهمل البنية التحتية. و إذا كان الجابري يشدد على ضرورة بناء الحداثة من داخل الأنا العربية مع تجاوز نكسات الأمس بلا قطيعة، فالعروي له تصور مخالف طالب فيه بخلق قطيعة ابيستيمولوجية مع التراث العربي الاسلامي، .إلا أن تباين مواقف عملاقي الفكر المغربي و العربي المعاصر لم يمنعهما من الانتماء إلى اليسار ممثلا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية . و كذا الاتفاق بحكم توجههما القومي العربي على كون التعدد اللغوي بالمغرب ظاهرة غير صحية، و أن بعث الروح في اللغة الأمازيغية و التدريس بالعامية المغربية محاولة فاشلة مناقضة لمصلحة الوطن و مشيئة التاريخ ،بما أنهما جزء من تراث مغربي شفوي فلكلوري وميضه خافت و لا طائل من انبعاثه مجددا. هذا التراث اتهم العروي الاستعمار لأهداف توسعية بتلقيح حقنة الحياة و مضادات الموت لتقاليده المتحجرة في المختبرات الأوربية، فلولا مجهودات الباحثين الكولونياليين لانقرضت الكثير من الأنماط البدائية ما قبل الرأسمالية في الحضارة المغربية. "أو لم يكن الضمور والاندثار مآلها الطبيعي ؟ أو لم يكن إحياؤها على يد المستعمرين خرقا لسنن الطبيعة؟... رأى بعضنا أو جلنا في انهيار الاستعمار فرصة ذهبية لاسترجاع الماضي ...كيف غاب عن نظرهم أن إحياء كل الماضي يعني بالضرورة إنعاش ما أدى إلى الانهزام أمام الاستعمار؟ أو لا يوجد في إرث الأجداد ما يجب التخلص منه؟"3.
حسب منظور رائد المدرسة التاريخانية المغربية لم يكن من العدل الاكتفاء بالنقد اللاذع للتراث المغربي و العربي من دون أن يعلو صوته الداعي إلى تصحيح أخطاء البارحة، حيث دعا العروي إلى الإصلاح قبل الاجتهاد في المذهب السني لكي يتحرر العقل المغربي و العربي من قيود الاستبداد و الأوهام القروسطية، فإذا " اكتفت السنة بالتحذير من... المجاهل...لم يعد اليوم مبرر للتحذير، لم يعد هدفنا...تشجيع الأمية باعتبارها عنوان البراءة و الإيمان الفطري، الظرف التاريخي يفرض علينا فرضا أن نغامر و نتقدم في الحقول الملغومة"4

الآراء الصادمة للعروي في التراث المغربي و العربي، عرضته لهجومات شديدة من الإسلاميين و القوميين بأمازيغهم و عربهم أصحاب النزعة الماضوية المفرطة التي تقتات على أطلال الأصولية، إذ اعتبروه مجرد صدى لأصوات المستشرقين أعاد انتاج أفكارهم كأي تلميذ نجيب. انتقاد العروي ليس حكرا فحسب على المفتونين بذكريات الأمس من السلفيين الأصوليين و القوميين العرب و الأمازيغ، فحتى في معسكر الحداثة و ما بعد الحداثة هناك أسماء أعادت النظر في تقدمية العروي. كهند عروب التي سبق و أن نشرت مقالة بعنوان "مثقفون في مزاد السلطة" بمجلة وجهة نظر المغربية انتقدت فيها العروي، و في حوار أجرته مع مجلة هسبريس الإلكترونية المنشور بتاريخ13يونيو2010 جددت انتقادها له كما سحبت منه صفة المثقف العضوي. على خلفية تأليفه لكتاب عن الملك الحسن الثاني، بأمر من وزير داخليته إدريس البصري سيء السمعة المقرون اسمه بسنوات الجمر و الرصاص بالمغرب.
أصوات المعارضة ظلت تردداتها تطارد أفكار العروي المثيرة للسجال و لم تتوانى في نشر شائعات زائفة عن وفاته مؤخرا، كما لم تسلم إبداعاته الأدبية من الهجوم فمعظم النقاد يفضلون العروي المؤرخ و المفكر على العروي الروائي، ذلك أن أغلب أعماله الأدبية يساء فهمها ربما لأن القارئ العادي غير مؤهل لفهم أسلوبه التجريدي أو لأن العروي وحده من يفهم ما يطرح من إشكاليات عظمى تتطلب شروطا معينة في قرائه لاستيعاب كنهها ؟. فضلا عن ارتباط اسمه بالنقد و عسر الفهم فالمختصون يجدون صعوبة في تصنيف بعض مؤلفاته الأدبية كأوراق، فأحد النقاد بعد أن قرأها استفهمه بسؤال مربك: "لماذا لم تكتب مباشرة سيرة ذاتية أو رواية يكون بطلها إدريس؟ ظن هذا الناقد أني كنت حرا في اختيار المادة و الأسلوب"5 . إلى جانب ذلك يهيمن على إصداراته الأدبية طابع التمزق ، الإخفاق، التخلف و الغربة، هي امتداد لرؤيته المأساوية للمغرب و العالم العربي المنكوب و المتأزم حضاريا.
سواء كان العروي في وضع مدح أو هجاء، سواء اتفق معه الرفاق أو اختلف معه الخصوم. فشهرته العالمية اكتسحت آفاق الدنيا، كيف لا و هو سفير ناجح للفكر و التاريخ المغربيين، بفضل ثقافته الموسوعية و ذاكرته الحية أصبح معلمة من معالم الفكر المغربي و العربي و العالمي المعاصر، كان حصوله على جائزة كاطالونيا العالمية سنة 2000 شهادة و دليل اعتراف دولي بنبوغه الفكري، لم يكن حصوله على تلك الجائزة ابتسامة حظ، فقد سبق و أن نال تزكية عالمية من جامعات أوربية و أمريكية. و كذا من شخصيات و مرجعيات أكاديمية وازنة على المستوى العالمي، أمثال المستشرق الفرنسي ماكسيم رودينسون المختص في التاريخ، علم الاجتماع و اللسانيات، حيث خص العروي بفائق الاحترام و التقدير. إن عزلة العروي الاختيارية هي سبيله الوحيد للتأمل بصمت بليغ، غالبا ما يولد عقب ذلك انفجارا فكريا مدويا يثير زوبعة لغط و استفهامات في الغرب قبل الشرق.


1-عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب .ج3 .ص224
2-عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب. ج1. ص24
3-عبد الله العروي: مجمل تاريخ المغرب. ج3. ص238
4 -عبد الله العروي: السنة والإصلاح. ص163
5-عبد الله العروي: أوراق. ص5








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. القوى السياسية الشيعية تماطل في تحديد جلسة اختيار رئيس للبرل


.. 106-Al-Baqarah




.. 107-Al-Baqarah


.. خدمة جناز السيد المسيح من القدس الى لبنان




.. اليهود في ألمانيا ناصروا غزة والإسلاميون أساؤوا لها | #حديث_