الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رؤية «آينشتاين» لليهودية ودولة اليهود

ابراهيم الثلجي

2021 / 10 / 25
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


في الثامن عشر من نيسان 1955 ، توفي أينشتاين ، وحُرق جثمانه في مدينة "ترينتون" في ولاية "نيو جيرسي" ونُثر رماده في مكان غير معلوم. وحُفظ دماغه في جرّة عند الطبيب الشرعي "توماس هارفي" الذي قام بتشريح جثته بعد موته. وقد أوصى آينشتاين أن تًحفظ مسوداته ومراسلاته في الجامعة العبرية في القدس ، وأن تنقل حقوق استخدام اسمه وصورته إلى هذه الجامعة.

لا أحد في العالم لم يسمع بالعالم الفيزيائي الشهير ألبرت آينشتاين ، بنظرياته النسبية العامة والخاصة وفيزياء الكمّ التي وضع أسسها وحاز بها على جائزة نوبل. فقد كُتبت عنه آلاف الكتب في جميع لغات العالم ، وما تزال تؤلف عنه الكتب لغاية الآن ، ففي أمريكا وحدها صدر قبل عامين مئة وخمسين كتاباً عنه وعن نظرياته. فلماذا يعود آينشتاين إلينا الآن؟

بعيداً عن العالم الفيزيائي الشهير ، عانى آينشتاين من جنسيته الألمانية التي وُلد فيها ومن ديانته اليهودية التي انتسب إليها ولم يلتزم بها ومن الصراع الكبير بين المادية في عقله والروحانية في أعماقه. وفي الحقيقة ، مرّت علاقة آينشتاين باليهود واليهودية في عدد من المراحل التي اتخذت طابع الشدّ والإيمان حيناً والدفع والرفض حيناً آخر.

ولكن تناول موضوع آينشتاين واليهودية الآن ، يعود لسببين: الأول الرسالة التي كُشف النقاب عنها في بريطانيا مؤخراً ، وأظهرت أن العالم الشهير ألبرت أينشتاين قال قبل عام من وفاته ، إنه لا يؤمن أن اليهود شعب الله المختار. وذكرت صحيفة "الدايلي تيليغراف" البريطانية أنه جاء في الرسالة المؤرخة في الثالث من كانون الثاني 1954 ، والتي كتبها أينشتاين أن "كلمة الله بالنسبة لي ليست أكثر من تعبير وإنتاج... ، والإنجيل مجموعة من الأساطير المحترمة لكن البدائية وهي ليست أكثر من قصص صبيانية جميلة".

أما السبب الثاني ، فهو اشتراط يهودية (الدولة الإسرائيلية) الآن. فقد أعلنت (إسرائيل) مؤخراً عن آخر شروطها للعودة إلى مفاوضات "السلام" مع الفلسطينيين ، وهو اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بأن إسرائيل هي "دولة يهودية". وقد أعلنتْ ذلك عبر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أولمرت ، ومن ثم وزير الخارجية الصهيوني الحالي ليبرمان. ونتساءل ما هي آراء آينشتاين (الذي صادفت ذكرى وفاته في نيسان الماضي) ، في اليهود واليهودية؟ وكيف نظر آينشتاين إلى دولة الاحتلال المغتصبة؟ وهل هو بريء من عنصريته التي يتهمه بعضنا فيها أم هو مُدان؟ في كتاب الدكتور عفيف فرّاج (رؤية آينشتاين لليهود واليهودية) الصادر عن دار الآداب ، يطالعنا الكاتب بحقيقة موقف آينشتاين من اليهودية ومن اليهود أبناء جلدته ، ويبين لنا كيف تغيرت نظرته عبر عقود من السنوات ، بين ما قبل إقامة الدولة العبرية وما بعد إقامتها من خلال احتلال الأرض وتهجير شعبها وسكانها الأصليين ، وإقامة دولة على أرضْ ليست لهم.

قسم المؤلف كتابه المهم إلى سبعة فصول تناول فيها أفكار آينشتاين منذ أن كان فتياً. يبدأ الفصل الأول بتناول آينشتاين عالًم الفيزياء الملحد - العميق الإيمان في الوقت نفسه،،. حيث يرى الكاتب أن أوسع المداخل إلى شخصية آينشتاين هو السؤال عن معنى الحياة والهدف من الوجود. وهو السؤال الفلسفي اليوناني القديم ، والافتتاحية التي بدأ فيها آينشتاين كتابه (العالم كما أراه). فآينشتاين العالًم الفذّ ، لم يكن يوماً ممن يعتقدون أن التقدم العلمي والتقني يفضي بالضرورة إلى السعادة أو حتى إلى الحضارة ، فيقول:"إن تحسين شروط حياة الإنسان لا تعتمد على المعرفة العلمية بالضرورة ، وإنما على تحقيق المثل الأخلاقية والتقاليد الإنسانية".

وتتأصل النزعة الدينية أو الروحانية لدى آينشتاين من الاندهاش بجمال التكوين وجلاله الممتزج بالرهبة والخوف. ويرى أن القوانين التي تحدد نظام الطبيعة وحركتها تُمظهر لعقل الإنسان ذكاءً يعجز عنه تفكير البشر المنهجي. وبالتالي فإن الشعور الديني الذي يستثيره العقل الكوني لديه ، هو الشعور بحضور الروح الإلهي في الإنسان والطبيعة.

وفي الثالثة عشرة من عمره ، قرأ آينشتاين فلسفة كانط ، فتركت فيه أثراً لا يفوقه إلا ما تركه سبينوزا في أعماقه. وفي الخامسة عشرة من عمره ، قرر الاستقلال عن رابطتين وولاءين هما الجماعة اليهودية التي قطع كل علاقة بها ، وجنسيته الألمانية التي طلب إسقاطها عنه. ولم يبق في الجبّة إلا عالم الفيزياء الذي شحذ حدسه وفتح الإلهام في نفسه لينتج في عام 1905 نظريته النسبية الخاصة التي ناقض فيها نظرية نيوتن. وفي عام 1916 ، وضع نظريته في الجاذبية أو النظرية النسبية العامة. وقد نقد العالًم خلال تلك الفترة وما قبلها المؤسسة الدينية اليهودية وكهّان الهيكل وعاب على الكنيسة والكهّان ما ادّعوه من حق حصري في تفسير الإنجيل ، واعتبر "الكهانة" بأنها قد بلغت سن التقاعد ، وأن وجود الكاهن التقليدي لم يعد له ما يبرره. وهكذا خرج آينشتاين من تلك المرحلة ، مبتعداً عن الإيمان الديني المتزمت ، ليؤسس الدين على العقل ويرتقي به إلى الفلسفة. الدين كما يفهمه هو من حيث علاقته بالإنسان والطبيعة لا كما يؤسس له الكهنة.

في الفصل الثاني يتناول الكاتب آينشتاين بين الفيزياء الكونية والميتافيزياء اليهودية. ويرى أن آينشتاين يؤصل فقط الشعور الديني الذي يدفع العالًم إلى البحث العلمي. لذلك يجد الكاتب أن عقل آينشتاين استراح في جنة سبينوزا الفلسفية ، لأنها تقدم رؤية يتوحد فيها الجسد والروح ، العقل والوجود ، وعالم الإنسان وعالم الطبيعة. أما على الصعيد السياسي ، فإن ألبرت آينشتاين يختار "الاشتراكية" كعقيدة له ، فهو يجمع في نفسه وعقله بين موسى كثقافة دينية وهوية ثقافية وبين أفكار سبينوزا كدين روحي وفلسفي ، وماركس كقيم سياسية وإجتماعية.

وبالتالي ، كانت الهوية اليهودية هاجعة لدى آينشتاين منذ طفولته ، وكانت تتمظهر في السابق في إيمانه بمسؤولية الفرد الجماعية ، ولكنه ليس الإيمان الحصري بالقبَلَية اليهودية ، بل بمسؤولية كل إنسان عما يحدث للبشرية جمعاء. ولكن هويته استيقظتْ على وقع التجارب الصادمة التي عاشها وواجهها في ألمانيا كيهودي ، خاصة بعد عودته إليها من الخارج في عام ,1914 وفي عام 1919 ، رأى الانحياز الديني القومي العنصري ضد اليهود في ألمانيا ، ومن قبلها في روسيا وبولندا على أشدّه. وكان التمييز ضد اليهود يطال حتى أساتذة الجامعات في فرص التقدم والترقي. فكتب آينشتاين إلى صديق له رسالة يقول فيها: "إن العداء للسامية قوي هنا ، والرجعية السياسية عنيفة". لذلك نجده يزور فلسطين في عام 1923 ، ويُبدي إعجابه بنقاوة الصهاينة الروحيين الأخلاقية ويقارنهم باليابانيين الذين زار بلادهم ، وببوذيي سيلان "أصحاب النبالة الأخلاقية".

وبدءاً من ذلك العام ، يصبح آينشتاين رجلاً مسيّساً ، وينضم إلى السرب الصهيوني المؤسّس في تعظيم اليهودية كثقافة من جهة ، ونقد اليهودي العيني في تجلياته التاريخية من جهة أخرى. ويرى مثلهم ضرورة إحياء العبري الجديد ، الذي لن تكتمل ولادته إلا على أرضه ووطنه. ويقول في تلك الفترة :"اكتشفتُ أني يهودي ، والذين أوصلوني إلى هذا الاكتشاف هم غير اليهود ، لا اليهود". ومن هنا يرتد آينشتاين من العالمية والإنسانية إلى القومية اليهودية المنغلقة على ذاتها ، مبرراً ذلك بعيش اليهود كأقلية في شعب متعصب ضيق الأفق وعنيف كالألمان. ويصل شعوره القومي أوجه عندما يهاجم منظمة (المجلس الأميركي لليهودية) التي أنشأها يهود أمريكيون وتهدف إلى تحويل كل يهودي في أمريكا إلى يهودي أمريكي مئة بالمئة. ثم يصف الحركة الصهيونية بالعبقرية ، لأنها "اكتشفت أن الاندماج ليس حلاً" ، بل ويصبح الانتماء للهوية اليهودية مصدر تفاخر له ، فيقول: هذه المباديء التقليدية البهية التي تميز الشعب اليهودي تبرهن لي أن الانتماء إلى هذا الشعب هو هبة من القدر"..،،

في الفصل الخامس والذي يهمنا في هذا الموضوع ، يتناول الكاتب وجهة نظر آينشتاين في الصراع العربي الصهيوني ، ويُبرز بشكل خاص حلمه بدولة مزدوجة القومية. فقد وصفه (حاييم وايزمان) أول رئيس لإسرائيل بأنه "القدّيس اليهودي" ، ولكن عالًم الفيزياء لم يكن ساذجا كما رآه بعض الساسة اليهود أو مسيساً بما فيه الكفاية ليدرك ما كانوا يخططون له.

فقد اعتقد آينشتاين وعلى خلفية إيمانه بالمباديء الاشتراكية بأن العلاقة بين الفلسطينيين واليهود ستكون علاقة تكامل في حقلي العمل والإنتاج ، وعلاقة تفاعل في مجال الثقافة ، وأن علاقات من الودّ سوف تسود الدولة. كما اعتقد أن الأغلبية اليهودية ستعيش بسلام في فلسطين مع سكان الأرض الإصليين. ويقول في ذلك:"إن الصهاينة سيقيمون علاقات تعاون وتودّد بناءة مع العرب الذين تربطنا بهم علاقات القربى العرقية ، وسنعمل معهم نقابات عمالية مشتركة ، وكل شيء يدل على أن الوضع الاقتصادي والصحي قد تحسن بفضل الاستيطان". وبالتالي آمن آينشتاين بدولة مزدوجة القومية ، ولكنه كان يهرب بتفكيره هذا من معضلة حقيقية إلى حلول وهمية ، كأمنيات بأن تكون الدولة المزودوجة القومية ، في مصلحة الشعبين ، ولم يأخذ بعين الاعتبار قضية الشعب الآخر ، وحق أصحاب الأرض الأصليين.

تلك كانت أفكاره في الأعوام التي سبقتْ ظهور الدولة الصهيونية ، حيث أصبح من أشد المعجبين بفكرتها والمروّجين لها ، كحلّ للخلاص من الاضطهاد. ولكنه في عام 1948 ، وحين تكشّفتْ له الأوراق الحقيقية لأبناء ملّته ، بدأ يعلن عن خشيته المشروعة من أن تؤدي تلك المواجهات بين اليهود والفلسطينيين والعرب إلى اعتماد اليهود على قوى دولية خارجية تجعلهم تابعين بدل أن يكونوا مستقلين. كما كتب رسالة إلى آبا إيبان في عام 1952 يقول فيها:"إن الموقف الذي نتخذه من الأقلية العربية سيكون الامتحان الحقيقي لمقاييسنا الأخلاقية كشعب". ويبدو أن آينشتاين لم يكن ليصدق ما يمكن أن يفعله اليهود بالعرب ، وحين يذكر "الأقلية العربية" ، لا بد وأنه كان يدرك تماماً أن جملته تعني التسليم بشرعية الدولة اليهودية التي قامت على حساب الأغلبية العربية الفلسطينية التي لم تصبح "أقلية" إلاّ بعد تهجير 700 ألف فلسطيني من أرضهم ، ليعيشوا مشردين في معازل كالتي عرفها فقراء اليهود في الشتات. وبالتالي ، لم يستطع آيشتاين أن يرى الحقيقة الكامنة وراء لعبة الوطن اليهودي ، وكانت سذاجته اليهودية تصور له الشعب اليهودي بأخلاقيات العالًم التي كان يملكها في نفسه ويؤمن بها ، ويتوقعها في أبناء جلدته ، وتلك هي سذاجته السياسية.

في الفصلين الأخيرين ، يتابع الكاتب توضيح أفكار آينشتاين حول الرأسمالية والاشتراكية ، وأفكاره حول الفلسفة والعلم. ويوضح أن خيار آينشتاين الاشتراكي استند إلى مرتكزين هما علم الاجتماع الماركسي ، والديانة اليهودية. ولا يجد تناقضاً بينهما ، حيث يرى آينشتاين بقناعته أن الأسفار النبوية هي حاضنة أولى لقيم العدالة والمساواة الاجتماعية. أما عن علاقته بالفلسفة وهو عالم الفيزياء المشهور ، فيرى الكاتب أن آينشتاين كان يسعى إلى إيجاد معادلة علمية لنظرية التوحيد التي آمن بها ، وقد جعلت المختصين في سيرته يصفونه بأنه "فيلسوف طبيعي وليس عالما فيزيائيا". فقد كان توقه إلى مطابقة الفيزياء بوحدة الوجود يدفعه إلى البحث عن معادلة رياضية توحّد العالمين. وبالتالي يرى أن آنشتياين انطلق للفيزياء من رؤيته الفلسفية وخلفيته الروحية للعالم وللكون الذي نعيش فيه.

وبالتالي كانت المسافة بين آينشتاين العالم الفيزيائي البارع واليهودي المسيّس ، كالمسافة بين أينشتاين الذي يكتب هويته العلمية الباهرة وآينشتاين المكتوب من ثقافة ماضيه. وأيضا كالمسافة بين الإنسان الذي آمن بالاشتراكية لخير الإنسانية جمعاء ، والذي سعى لوطنْ قومي لليهود في فلسطين دون التفات للشعب الأصلي. لم يكن آينشتاين يهودياً في أعماقه ، وقد رفض رئاسة أول دولة عبرية في عام 1948 ، ومع ذلك لم يلتفت مطلقاً للشعب الفلسطيني الذي شُرّد من أرضه. ويظلّ أن آينشتاين ، تكهن بما ستأتي به الأيام عندما قال في رسالة بعث فيها إلى حاييم وايزمان في عام 1929:"إذا عجزنا عن إيجاد طريقة للتعاون المخلص والحوار الصادق مع العرب ، لا نكون قد تعلّمنا شيئاً من معاناة ألفي سنة ولّت ، وكل ما يحصل لنا تبعاً لذلك يكون مستحقاً". وفي رؤيته هذه رؤيةّ طوباوية ، ولكنها في الوقت نفسه استشفاف مستقبلي لما لا بدّ أن يحدث في فلسطين.

أخيراً ، الكتاب مهم ، لأنه يبحث في آينشتاين الفيلسوف والإنسان قبل العالًم واليهودي ، ويكشف لنا كيف يمكن أن تخدع الصهيونية حتى عقول العلماء الفذّة ، وتقلب الحقائق الواضحة و ـ أو تغيّبها ص الدستور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي