الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ساطع الحصري ودوره في تاسيس منهج التلقين في المدارس العراقية (الاشكالات المعرفية والاختلالات التربوية في منهج التلقين في المدارس العراقية)

سلمان رشيد محمد الهلالي

2021 / 10 / 27
التربية والتعليم والبحث العلمي


(الطالب ليس وعاء عليك ملؤه .. بل شعلة عليك ان توقدها) اينشتاين
تاسست الدولة العراقية الحديثة عام 1921 وعين الملك فيصل بالتعاون مع المستشارين الانكليز ساطع الحصري في ادارة المعارف وتحديد المناهج الدراسية في البلاد . وساطع الحصري كان في بداية حياته الفكرية والسياسية عثماني الهوى والميول والتوجهات , واحد ابرز الكتاب المدافعين عن الدولة العثمانية ضد التوجهات السياسية الديمقراطية والمطالبات اللامركزية والنزعات الاقليمية . وبعد الانقلاب الذي قامت به جمعية الاتحاد والترقي عام 1908 دافع الحصري عن سياسة (التتريك) القومية الشوفينية والعنصرية التي كانت تحتقر القوميات الاخرى كالعرب والاكراد والفرس وغيرهم . الا انه وبعد انهيار الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الاولى (1914-1918) تحول الحصري من النزعة التركية الى القومية العربية التي برزت بقوة بعد ثورة الشريف حسين بن علي في الحجاز عام 1916 ,وعمل تحت ادارة الامير فيصل في سوريا (1918-1920) مديرا للمعارف ثم وزيرا لها حتى سقوطها على يد الاحتلال الفرنسي في تموز 1920 . تعلم الحصري خلال وجوده في سوريا العربية بصعوبة ومشقة حتى قيل انه كان (يرطن) بها اثناء الكلام (رغم انه اعتبر اللغة اس الاساس في بلورة النظرية القومية العربية) . عين في عهد الملك فيصل في العراق عام 1921 في مناصب عديدة اهمها مدير المعارف العام وعميد كلية الحقوق ساهم خلالها في تنظيم المنهج الدراسي العراقي على اسس قومية عربية , بتشجيع خاص من قبل سلطات الانتداب البريطاني في سبيل تهميش التيار الوطني الذي يطالب بالاستقلال والمساواة والديمقراطية الحقيقية . اسقطت عنه الجنسية العراقية بعد دعمه وتاييده حركة مايس ذات التوجهات النازية عام 1941 ، الا انه عاد للعراق في عام 1965 وتوفي في بغداد عام 1968 ودفن في مقبرة (الخيزران) قرب مرقد الامام الاعظم في الاعظمية . اتهمه سيار الجميل بالتحريض على افشال تأسيس اول جامعة في العراق (جامعة ال البيت) وبقاء البلاد بدون جامعة حتى عام 1958 . واتهمه ايضا حسن العلوي بالطائفية والعنصرية والنيل من الاغلبية الشيعية في البلاد , والحقد على المجتمع العراقي والنيل من الشخصيات الوطنية التي وقفت ضد الانتداب البريطاني . وفي المجال التربوي اتهمه محمد عبد الحسين وناجي القشطيني بالمسؤولية على فشل النظام التعليمي العراقي والتمييز التربوي في كراس (سر تأخر المعارف في العراق) .
لانريد الخوض في توجهات ساطع الحصري الطائفية ,ولا في سلوكياته العنصرية في العراق ,لان هذا الموضوع كتب عنه العشرات من الباحثين والمؤرخين العراقيين والاجانب , وانما نريد الكتابة اليوم عن موضوع اخطر بكثير عن الطائفية , وهو دور الحصري في تاسيس منهج التلقين والحفظ (والدرخ) والاجترار والتكرار في المدارس والكليات العراقية . فاذا كان الحصري مجرد (بيدق) صغير في المؤسسة الطائفية الكبيرة في البلاد ,فانه في منهج التلقين سيكون هو المؤسس والرائد الاول في هذا العمل الذي مازال معمولا به حتى الان ,رغم مرور مايقارب المائة عام على تاسيسه وبلورته في قطاع التربية والتعليم في العراق , الذي يعاني منه اشد المعاناة ,ولايوجد – للاسف – اي بوادر او مشاريع او مقترحات لتغييره نحو افق جديد للتفكير والابداع والابتكار , سيما بعد ان دخلت الايديولوجيات القومية والشيوعية والاسلامية والانظمة السياسية التابعة لها على خط التربية والتعليم ,ورغبتها بترسيخ المنهج التلقيني الذي اسسه ساطع الحصري من اجل الترويج والتبشير والتاصيل لافكارها ومقولاتها وخطابها في المجتمع , وكلنا يعلم ان هذه الايديولوجيات والانظمة المنبثقة عنها لاتريد للطلبة والشباب وباقي قطاعات المجتمع التفكير النقدي والتحليل والشك والتفكيك , وانما تريد الطاعة والاذعان والتلقي والتصديق .
التلقين : هو احد اساليب التعليم التي تعطي الدور الاكبر للمعلم والمدرس والاستاذ في تلقين الطلاب المعلومات وحشرها في ادمغتهم , والاكتفاء باجترارها وحفظها دون مشاركتهم بالجدل والنقاش والتحليل والنقد للمادة المراد دراستها , ومن ثم اختبارهم اليومي والشهري والسنوي في حفظ تلك المادة ودقتها وتشابهها مع المنهج دون تعديل او اضافة او تغيير , واعتبارها معيار النجاح والرسوب والمعدل النهائي , الامر الذي جعل الطالب العراقي مجرد (كاسيت) او (رام) او (قرص – سي دي) للحفظ والتلقي في الدراسة .
ان هذا التلقين افرز ظاهرة سلبية اخرى اسوء من عدم التفكير , وهى انعدام الفهم للموضوع او المادة المراد دراساتها , لان الفهم هو (اس الاساس) للتفكير . فاذا كان هناك تلقين مع فهم المادة او مقاربتها للواقع لكان الامر اهون من هذا بكثير , ولكن نجد ان الاغلبية من الطلاب لايفهمون المادة المراد دراستها وحفظها من قبل المعلم والمنهج المحدد لها , وانما هناك تلقي ببغائي للمادة . وقد وجدنا هذه الظاهرة في مواطن كثيرة خلال العام الدراسي , ولكن يبقى اهمها خلال الامتحانات الشهرية والنهائية , اذ وجدنا ان الطالب ما ان ينسى المادة المراد حفظها بسبب التوتر او الخوف من الامتحان حتى يصاب بنكسة كبيرة قد تؤدي به الى الرسوب . فيما كان يمكن ان يدرج المادة المراد الامتحان بها من خلال التعبير عنها وفهمه لها دون طرحها نصا. وطالما اكدنا على الطلبة ان يفهموا المادة افضل من حفظها النصي, لان الحفظ معرض للنسيان والارتباك , فيما ان الفهم والاستيعاب قد يوفر للطالب قابلية التعبير عن المادة التي درسها من خلال فهمه الخاص لها , الا ان تلك المطالبات ذهبت ادراج الرياح ولم يعتمدها اغلب - او جميع الطلبة - لانهم بالاصل لايفهمون المادة اولا ولايستطيعون التعبير عنها من تلقاء انفسهم ثانيا ولايحصلون على درجات عالية اذا خرجوا عن نص المنهج ثالثا وعدم تشجيع الاساتذة الذين يفضلون مبدا التلقي والتلقين المعمول به رسميا رابعا . وهو مصداق ما ذكره عالم النفس الروسي لف فيغوتسكي (بان الحفظ على ظهر القلب يخلق انسانا لايدرك معاني من حفظه ولا عن اهميته) . بمعنى اننا نعاني من اشكالية مزدوجة في التعليم الابتدائي والثانوي - وحتى الجامعي - في العراق وهى :
1 – انعدام ظاهرة الفهم الواعي للمادة المراد دراستها وتعليمها والتعبير عنها ذاتيا او مقاربتها للواقع المعاش .
2 – انعدام ظاهرة التفكير والنقد والتحليل والاستنتاج والاستقراء والتفكيك في التدريس والمناهج الدراسية .
ان كلا الاشكاليتين افرزت مظاهرة خطيرة على الصعيد السياسي والاجتماعي والفكري في البلاد , اهمها غياب التفكير النقدي والكسل العقلي والتراخي الثقافي والعجز عن الابداع والابتكار والتجديد , والتشجيع على الاذعان والطاعة والاستسلام والخضوع للخطاب الحكومي والايديولوجي والاستبدادي والشمولي المراد تحقيقه .
اعتمدت المدارس العراقية على مبدا التلقين منذ تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بفضل مدير المعارف العام المنظر القومي ساطع الحصري الذي عينه الملك فيصل كمشرف على الامور الفنية والعلمية في وزارة المعارف (التربية حاليا) ويعود سبب اعتماد الحصري منهج التلقين والاصرار عليه الى :
1 – رغبته في تلقين الفكر القومي العربي للطلبة العراقيين وانصهارهم في بوتقة واحدة مع ايديولوجية الدولة العراقية الحديثة حتى قيل (ان التربية عند الحصري هى القومية والقومية هى التربية) .
2 – تلقين الطلبة والشباب جميع المفاهيم والتصورات والخطابات السياسية والايديولوجية التي تقوم بها السلطة القومية والطائفية الحاكمة دون نقاش او جدل او مراجعة من خلال الية الاجترار والتكرار والتكرار سلطة – كما يقول رولان بارت –
3 – تدجين الطلبة والشباب وترويضهم واخصائهم وشل ارادتهم في المدارس الحكومية واخضاعهم للسلطة الحاكمة من خلال تلقينهم اليومي لخطابها ومقولاتها ومعاقبة الطلبة المقصرين والمعارضين نفسيا وجسديا من خلال الضرب والجلد لمن يعترض او يرفض او يقصر في تلك العملية .
4 – صناعة ذاكرة تاريخية جديدة للطلبة من خلال تلقينهم الموروث التاريخي العربي الطائفي بدل الثقافة المحلية والمجتمعية لاغلبية ابناء المجتمع العراقي .
5 – ان التفكير هو النشاط المعرفي الذي يرمي الى حل مشكلة ما تواجه الانسان والمجتمع , والحصري والنخبة الحاكمة في العراق لاتريد للمجتمع من حل مشاكله بعيدا عن اعين الدولة وسياساتها وثقافتها وتوجهاتها .
وقد يطرح البعض اعتراضا بان الحصري والنخبة الحاكمة ارادت بعد تاسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 بلورة نظام تربوي ياخذ على عاتقه انضهار المكونات الاجتماعية في بوتقة واحدة من التوحد والتضامن , وتلقين الاجيال الجديدة التصورات الحكومية القومية بهذا الشان , والارتقاء بثقافتها المذهبية والاثنية والمناطقية والعشائرية والعائلية الى افق الوطنية العراقية الجامعة . والجواب على ذلك يكون من خلال نقطتين :
الاولى : لماذا اعتمد الحصري والنخبة الحاكمة على مبدا التلقين القومي والذاكرة التاريخية السنية دون الاعتماد على الذاكرة الخاصة لاغلبية المجتمع العراقي وهم الشيعة الجعفرية ؟ اليس الاولى كسب اغلبية المجتمع الى الصف الحكومي بدل خلق التناشز المعرفي والازدواجية الثقافية عند المتعلمين الشيعة في النظرة الى التاريخ والدين ؟ بل لماذا لم يعتمد مبدا التوازن – على الاقل – في صناعة الذاكرة التاريخية بين الشيعة والسنة من خلال مناهج مقننة وسرديات معتدلة بدل الاعتماد على النظرة الطائفية والاقصائية الاحادية ؟ الجواب على ذلك ان العقلية العثمانية التي يحملها الحصري والنخبة الحاكمة من الضباط الشريفيين من امثال (السعيد والعسكري والسعدون والهاشمي وشوكت والكيلاني والعمري) الذين تربوا ودرسوا في اسطنبول هى من حددت هذا المسار الطائفي في نوعية التربية والتعليم في العراق , بالتعاون والتنسيق مع سلطات الانتداب البريطاني والمستشارين الانكليز في الوزارات العراقية .
الثانية : اذا كان الهدف من تاسيس مبدا التلقين والحفظ وتهميش التحفيز الفكري في المدارس العراقية هو من اجل صناعة ذاكرة قومية واحدة في مادتي الدين والتاريخ وبلورة التوحد الاجتماعي عند الطلبة والشباب – كما يقولون – فلماذا اعتمد هذا المبدأ في باقي المواد الدراسية الاخرى كالادب والفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع وعلم النفس , بل وحتى في المواد العلمية كالفيزياء والاحياء وغيرها ؟ فاذا كان مبدا التلقين ينفع في تحديد بيداغوجيا (تربية) الدين والتاريخ , فلماذا عمم الى جميع المواد الدراسية والموضوعات العلمية الاخرى ؟ الجواب على ذلك هو ان الحصري اعتمد مبدا (التلقين للتلقين) وليس لغرض وظيفي فقط , وهدفه من ذلك هو ترسيخ الكسل العقلي والتراخي الثقافي والانجماد الفكري وعدم تحفيز العراقيين على التفكير والابداع والابتكار والنقد والتحليل , واعتبارهم مجرد اوعية للحفظ و(الدرخ) والتلقي .
والسؤال الذي يطرح نفسه : هل نجح الحصري في صناعة اجيال عراقية تفتقر للتفكير النقدي والتحليل العقلاني والمنهجية المعرفية والرؤية الموضوعية , وخضعت بالتالي للايديولوجيا القومية والطائفية ؟ الجواب لايحتاج الى تفكير عميق او تامل طويل , فقد نجح الحصري ومن معه (او بعده) من النخبة الحاكمة في العهدين الملكي والجمهوري نجاحا باهرا في صناعة اجيال تصدق كل ماتسمع دون وعي او تحقيق او مراجعة , وخضعت للتوجه القومي العربي الطائفي دون ادراك او عن وعي , بل واستطاع انسياب افكاره حتى في عقول المعارضين للفكر القومي كالشيوعيين والاسلاميين والشيعة العلمانيين الذين اخذوا يرددون مقولاته وافكاره وخطاباته دون وعي وادراك .
وقد يطرح البعض اعتراضا : بانه من الظلم تحميل الحصري مسؤولية تاسيس منهج التلقين في المدارس العراقية خلال مائة عام , لانه لم يستمر بمنصبه كمدير للمعارف العامة طويلا . بل حتى انه ترك العراق عام 1941 بعد اسقاط الجنسية عنه بسبب تاييده حركة مايس الانقلابية التي قام بها رشيد عالي الكيلاني والضباط المتاثرين بالحركة النازية . فلماذا لم يقم الوزراء والمدراء الذين جاؤوا من بعده بالغاء مبدا التلقين الذي اعتمده الى منهج التحفيز الفكري والنقدي ؟ بل ولماذا لم تبادر الانظمة الجمهورية التي جاءت بعد اسقاط الملكية في اعقاب ثورة تموز 1958 من تغيير هذا المبدا ؟ في الواقع ان من المستحيل ان تطالب تلك الانظمة القومية والطائفية والشمولية والبعثية من رفض تلك الهبة والهدية الثمينة التي تركها لهم ساطع الحصري , وهى مبدا التلقين في المدارس والجامعات العراقية , الذي يصب في صالحهم والترويج لافكارهم وارائهم وخطابهم وايديولوجيتهم الحاكمة , سيما وان البنية القومية والطائفية العميقة بين النظامين الملكي والجمهوري كانت واحدة ومتشابهة بهذا الشان . فكيف يغيرون المبدا الذي كان له الدور الاساس في تدجين وترويض واخصاء الطلبة والشباب ,وغسل ادمغتهم نحو ايديولوجية الدولة الحاكمة والايمان بها والدفاع عنها ؟ بل حتى النظام السياسي الذي تشكل بعد سقوط حزب البعث الحاكم عام 2003 لم يبادر الى تغيير المنهج التلقيني في المدارس والجامعات العراقية الى ابستمولوجيا (معرفة) مختلفة , لان هذا المنهج يتلائم مع التوجهات الايديولوجية والسياسية للاحزاب الحاكمة التي يغلب عليها الطابع الاسلامي والقومي , وبالتالي فانهم وجدوا ايضا في منهج التلقين طريقا جيدا للترويج لخطاباتهم وافكارهم وارائهم الدينية والقومية .
كان لتداعيات المنهج التلقيني في المدارس والجامعات العراقية على النسق الثقافي والفكري كبيرة جدا لايمكن ادراجها كلها , ولكن يمكن ذكر اهمها :
1 – على الصعيد المعرفي : غياب التفكير المعرفي لصالح التلقين الايديولوجي والسياسي والادبي . فالايديولوجيا تعطي وصفات يوتوبية جاهزة اعتمدها وتفاعل معها اغلب العراقيين من خلال التلقين . فيما ان المعرفة تحتاج الى التفكير النقدي والتحليل والتفكيك يفتقدها اغلب العراقيون , بسبب عدم تطبيقها وتنميتها وتطويرها وتحفيزها في المدارس الابتدائية والثانوية والجامعات , وهو مايفسر التساؤل الذي طرحته عن سبب غياب المفكر المعرفي في العراق بالقياس الى مصر وبلاد الشام وايران في مقالتي في موقع الحوار المتمدن (معرقلات الثقافة الفكرية والمعرفية في العراق) والتي كانت مقدمتها التساؤل الاتي (لماذا لم يظهر عندنا في العراق مثلما ظهر في بلاد الشام كتاب ومثقفون ومفكرون مثل ادونيس وعلي حرب وحسين مروة وجورج طرابيشي وفراس السواح ومحمد شحرور ومطاع صفدي وغيرهم ؟ ولماذا لم يظهر عندنا مثلما ظهر في ايران عبد الكريم سروش ومحمد مجتهد شبستري ودارويش شايغان (وحتى في المجال الديني مثل علي شريعتي)؟ ولماذا لم يظهر عندنا مثلما ظهر عند المغاربة محمد اركون ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن وعبد الله العروي وعبد الاله بلقزيز ؟ وكذا الامر في مصر لماذا لم يظهر عندنا مثلما ظهر عبد الرحمن بدوي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وحسن حنفي ونصر حامد ابو زيد والسيد القمني وغيرهم ؟) .
2 – على الصعيد الثقافي : ان تاسيس منهج التلقين وترويجه في المدارس والجامعات العراقية قد رسخ طريقة التفكير القديمة والكلاسيكية التي كانت معتمدة في العصور الاسلامية الاولى . فرغم ان الانتلجنسيا العراقية (النخبة المثقفة العصرية) قد تبنت اخر المدارس والموضات الفكرية الحديثة كالماركسية والليبرالية والوجودية والبنيوية والتفكيكية والبرغماتية وما بعد الحداثة وغيرها , وكتبوا عنها الالاف من المقالات والدراسات والمؤلفات , الا ان طريقة تفكيرهم ما زالت قديمة وتقليدية وارسطية . وقد اشار الى ذلك علي الوردي الذي كانت ينظر للحداثة ليس في استخدام مصطلحات ومعلومات ومفاهيم الجديدة , وانما الحداثة هى تغيير في اطار التفكير الذي يجري عليه الانسان والمجتمع في تفكيره وتحليله . اي ان الحداثة في طريقة التفكير هى من تحدث المجتمع وتطوره , وتضفي عليه طابع التحضر والتمدن والعمران , وليس تلقين المعلومات والمفاهيم والمدارس الحديثة .
3 – على الصعيد السياسي : ان منهج التلقين هو اداة السلطات الاستبدادية والانظمة الشمولية والاحادية والايديولوجية في الترويج لحكمها وهيمنتها وسلطتها والتبشير لخطابها القومي والطائفي والعنصري . فبحسب (غرامشي) ان السلطة لاتحتاج فقط الى احتكار العنف لفرض سلطتها وهيمنتها , وانما الى الايديولوجيا من اجل تبرير ذلك العنف وتلك الهيمنة . والايديولوجيا لاتكون او تنجح في المجتمع المعرفي والنقدي , وانما في المجتمع المازوم والتلقيني والعصابي , وهى بالتالي بحاجة الى منظرون وكتاب وادباء وفنانون وصحفيون يروجون لها من خلال التلقين في الاعلام والمدارس والجامعات . وهو المنهج الذي تجلى بوضوح اكثر في العراق خلال الاربعين عاما من خلال الحكم القومي (البعثي والناصري) (1963 – 2003) .
4 – على الصعيد الاجتماعي : ادى اعتماد منهج التلقين في المدارس العراقية الى تخلخل التراتبية الاجتماعية , وتريف المدن وفقدان طابعها المدني والحضري من خلال الوظائف الحكومية والرسمية التي يحصل عليها اهل الريف . فبمجرد ان ينخرط الانسان من اهل الريف بالمدارس الحكومية , ويقوم بالحفظ و(الدرخ) للمنهج الدراسي المقرر , ويحصل على المعدل الذي يؤهله للدخول للجامعات الحكومية ويتخرج منها , حتى يحصل على وظيفة قد تكون متنفذة او حزبية في المدن الحضرية , ومن ثم الانتقال اليها دون تغيير حقيقي في عقليته العشائرية والريفية , الامر الذي اعتبر الاساس في انتشار مظاهر التريف في المدن او فقدان طابعها المدني والحضري . وكما قيل (ان من السهل ان تنقل ابن الريف للمدينة , ولكن من الصعوبة ان تنقل عقل ابن الريف للمدينة) .
5 – على الصعيد الديني : التصديق بجميع التصورات الدينية والمذهبية والطائفية التي تلقيها المدارس والجامعات من جانب والشيوخ والخطباء ورجال الدين من جانب اخر . فانتشار مظاهر الغلو والطقوس والبكائيات والزيارات عند الشيعة , والتطرف والتكفير والارهاب عند السنة , هو نتيجة طبيعية لمنهج التلقين وعقلية التلقي والتصديق والتبعية وغياب التفكير النقدي والتحليل لمصداقية تلك الطروحات الدينية والمذهبية والطائفية التي تلقيها المناهج الدراسية والشيوخ والخطباء في المجتمع العراقي , لان التفكير العقلاني يولد سلوك عقلاني , والعكس اذا كان التفكير قد اصبح تقليديا وبدائيا وغير عقلانيا , فان السلوك الذي ينتج عنه سيكون غير عقلانيا .
6 – على الصعيد الاعلامي : ان منهج التلقين المدرسي والجامعي ساهم بصورة او باخرى في بلورة نسق التلقي للخطابات القومية والتصورات الطائفية والمفاهيم البعثية والتدليس الاعلامي وغسل ادمغة الطلبة والشباب عند العراقيين , والتي بدأت مع تاسيس الدولة العراقية عام 1921 وتصاعد بعد الانقلاب البعثي الاول عام 1963 , وبلغ ذروته بقوة بعد الانقلاب البعثي الثاني عام 1968 وتشكيل النظام السياسي الشمولي , الا ان هذا النسق قد تجلى بوضوح بعد السقوط عام 2003 وانتشار مظاهر الاعلام الحر والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي واهمها (الفيس بوك واليوتوب) وغيرها , حيث تمدد التلقي الى مستوى النخبة المثقفة التي اخذت تصدق بكل ما يطرح بتلك الفضائيات والمواقع من اراء واخبار وخطابات وتصورات , وعدم محاكمتها وتحليلها وتفكيكها , بل وحتى اثبات التاكد من صحتها ومصداقيتها . ونحن في هذا الموضوع لانتكلم عن العامة والرعاع والقطيع الثقافي , او حتى انصاف المثقفين من المتعلمين , وانما نتكلم عن الانتلجنسيا العصرية ونخبة النخبة من المثقفين والاكاديميين والمنظرين والكتاب والادباء والفنانين , حيث تجد الانقياد شبه المطلق الى تلك التصورات والمقولات , وهيمنة نسق التلقي والتسليم والاذعان لاي من الخطابات التي تبثها الفضائيات العربية وتعلنها مواقع التواصل الاجتماعي في الانترنت واهمها (الفيس بوك) , سيما تلك التي تاخذ بالانتشار عند العامة والقطيع والسديم الثقافي وتتناغم مع المتخيل واللاشعور والغرائز والدونية .
7 – على الصعيد الاخلاقي : كان من نتائج التلقين في العقل العراقي هو انتشار مظاهر التصديق للاشاعات السلبية والمقولات غير الاخلاقية في المجتمع كالغيبة والنميمة والبهتان , حتى اصبح اغلب افراد المجتمع عرضة للاتهامات المشينة والسيئة . فبمجرد ان تذكر منقصة معينة او اتهام محدد بالسرقة والفساد والعلاقات الجنسية على انسان او عائلة , حتى يكون التصديق بها حتميا والتلقي لها مؤكدا , فاصبح ذلك نسقا فاعلا ومنتشرا في المجتمع العراقي , لم يسلم منه احدا الا نادرا , حتى نسب للملك فيصل الاول القول (سماعون للكذب وميالون للفوضى) , الامر الذي ساهم بصورة او باخرى في انتشار السقوط الاخلاقي والتردي الاجتماعي والعصاب النفسي و مظاهر القيل والقال والغل والحقد والكراهية , وانتشار الاشاعات والتصديق بها دون تاكيد او مراجعة او تحليل .
الحلول والمعالجات
ان تغيير منهج التلقين في البيداغوجيا (التربية) العراقية الى افق التحفيز الفكري والتحليل النقدي يكون من خلال ثلاث مراحل :
الاولى : الاعتراف بوجود هذه المشكلة في العملية التربوية اولا . فالاغلبية من اصحاب القرار وهيئة الرأي والاكاديميين والمختصين والمشرفين لايعلموا بهذه المشكلة بالاصل , وربما سمع بها البعض عرضا من الكتاب والمفكرين الاجانب المختصين بهذا الشان . وحتى اذا سمعوا بها - بطريقة او باخرى - فانهم لايهتموا بها او يعترفوا بخطورتها ولايتفاعلوا بنتائجها لاسباب عديدة اهمها :
1 – انها تظهرهم بمظهر المتلقي البسيط للمعلومات والحافظ للمقررات و(الدارخ) للمناهج اثناء دراستهم السابقة في المدارس والجامعات العراقية , وليس بمظهر المفكر والمبدع والذكي , الامر الذي قد يصيبهم بالجرح النرجسي بسبب هذه الحقيقة التاريخية المؤلمة .
2 – انها تغير نسقا تعليميا وتربويا استمر قائما بالمدارس والجامعات العراقية ما يقارب المائة عام , واصبح بالتالي ركيزة العملية التربوية واساسها وعمادها ومعيار النجاح الاول فيها , الامر الذي يصعب من تبديله جذريا او كليا نحو رؤية غير معمول بها سابقا في البلاد , قد تشكل صعوبة عندهم في هضمها وتحقيقها ونجاحها وعدم تامين نتائجها وتداعياتها .
3 – ان اعتماد منهج التلقين يوفر للاساتذة والمدرسين والمعلمين نوعا من الارتهان للكسل الفكري والتراخي العقلي . فالتدريس بهذه الطريقة المعتادة والتقليدية والتلقينية لاتحتاج سوى الى القاء المحاضرة واجترار المنهج الدراسي المقرر سلفا . ومن خلال التكرار والاجترار في السنوات الطويلة , فان الاستاذ والمدرس يحفظ المادة على ظهر القلب ويعرضها للطلبة في الدرس والمحاضرة لاشعوريا . فيما ان المنهج الاخر للتحفيز الفكري يتطلب اطلاعا ثقافيا واسعا , وخروجا عن المادة وابداعا وابتكارا لموضوعات اخرى , وتحليلا نقديا للاحداث والمفاهيم والتصورات , ومقاربتها للواقع المعاش , والدخول بمناطق من اللامفكر فيه قد تشكل نوعا من (التابو) السياسي والديني والاجتماعي , لايرغب اغلب الاستاذة الخوض فيها او التورط معها .
4 – ان الانظمة السياسية الحاكمة التي تستند الى ايديولوجيات ثورية ويسارية واشتراكية وقومية وطائفية ومذهبية وبعثية وشمولية ودينية ترفض تغيير اسلوب المنهج التلقيني نحو نسق التحفيز الفكري والنقدي , وبالتالي فمن الصعوبة بمكان الاعتراف بوجود هذه المشكلة ناهيك عن حلها وتقديم المقترحات بصددها .
الثانية : بعد الاعتراف بوجود هذه المشكلة , ندخل بمرحلة الحل الذي يكون من خلال الاستعانة بالخبراء الاجانب او مساعدة منظمة (اليونسكو) بهذا الصدد , وادخال الاكاديميين والمختصين والمشرفين والمدرسين والمعلمين العراقيين في مؤتمرات وندوات ودورات تأهيلية وتجريبية حول طريقة التحفيز الفكري والنقدي للطالب المتلقي . ويمكن وضع جدول زمني يستمر مدة (5 – 10) سنوات من اجل اكمال التحول الشامل او الكامل . او العمل مؤقتا على المزاوجة بين الطريقتين (التلقي والتحفيز الفكري) حتى يكتمل المشروع .
الثالثة : تطبيق تلك المخرجات والتصورات والاقتراحات والاليات التي خرجت بها المؤتمرات والندوات والدورات في المحاضرات والدروس , وتطبيقها على ارض الواقع تحت اشراف المختصين والمشرفين , ومن ثم التغيير التدريجي لطريقة القاء الدروس والمحاضرات نحو اعتماد التحفيز الفكري عند الطلبة واثارة النقاش والجدل والنقد , وطرح التساؤلات والاحتمالات والاشكالات والاراء الخاصة والشخصية بالموضوع والمادة المقررة , واعتمادها في التقييم للامتحانات الشهرية والسنوية كمعيار مكمل للحفظ والاداراك والفهم .
ولكن تبقى العقبة الاساس في ذلك التحول الجذري هو عدم امتلاك الثقافة العامة عند الاكاديميين والمعلمين والمدرسين حتى يقترحوا موضوعا للتحفيز الفكري والنقدي عند الطلبة . الذي لاينجح او يكون الا من خلال القراءة الخارجية للكتب العلمية والادبية والاجتماعية والنفسية والتاريخية والسياسية والاقتصادية للاساتذة , والتوسع في الاطلاع عليها بحسب الاختصاص والمادة المقررة , حتى يستطيع امتلاك عقلا نقديا وفكريا واعيا .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الطائفية تعيق نمو الفكر الحر
منير كريم ( 2021 / 10 / 27 - 14:06 )
تحية للاستاذ الكاتب المحترم
اولا ان ساطع الحصري لم يكن مسؤولا عن جودة او رداءة المناهج الدراسية في العراق لان الكتب الدراسية كلها من تاليف اساتذة عراقيين مختلفي الانتماء فمن اين اتت مسؤولية ساطع الحصري ؟
ثانيا لماذا تتاسس جامعة اهل البيت اوجامعة السلف او اية جامعة دينية ؟ فهذه بؤر طائفية ودينية تمزق النسيج الاجتماعي وتعمل ضد فكرة الوطن والمواطنة
انظر الى حال العراق الان وهو ممزق ومستباح بسبب الطائفية
اين العبر والدروس المستمدة من هذه التجارب الماساوية
شكرا لك

اخر الافلام

.. ترامب: على إسرائيل ضرب المنشآت النووية الإيرانية


.. إطلاق رشقة صاروخية من جنوب لبنان تستهدف الجليل




.. ما آخر الغارات الإسرائيلية على منطقة المريجة؟


.. روسيا تعلن عن ضربات مدفعية ضد وحدات أوكرانية في كورسك




.. بعمر 20 يوماً فقط.. لبنانية تروي رحلة نزوحها برفقة طفلتها ال