الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين التصنع والتلقائية والحرية المطلقة

رائد شفيق توفيق
ِ Journalist and writer

(Raid Shafeeq Tawfeeq)

2021 / 10 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المجتمعات غريبة في تعاملها مع الحالات الانسانية عموما ، اذ انها تقيس وتقارن الحالة الشاذة بالحالة الطبيعية وتعتبر ان الحالة الطبيعية انجازا ، مع ان الحالة الشاذة لها عوامل ودوافع ساعدت على حدوثها والمفروض ان لاتقارن وانما تدرس وتبحث على حدة ، والحالة الطبيعية لا تعد انجازا نتفاخر به ونذكره كأنه معجزة ؛ نعم نفرح بها لكنها لاتبهرنا (*) فالحالة الطبيعية هي ما يجب ان نكون عليه لذلك عندما نصاب بمرض ما نذهب الى الطبيب لكي يصف لنا العلاج لنعود الى الحالة الطبيعية فنفرح بالحالة الطبيعية ، والحياة بطبيعتها ليست مثالية لانها متغيرة ولا يمكن التكهن بما ستؤول اليه وكذلك الناس ، هم ليسوا كما نتوقعهم وهو الاغلب الاعم اذ قد تجد انسانا لطيفا متعاونا مسالما لكنه قد يكون ساديا ويخفي ذلك او انه يجيد التمثيل على الناس ليظهر عكس ما هو عليه في حقيقته لكنه سرعان ما ينتقل الى حقيقته السادية اذا ما سنحت له الفرصة او وجد متسعا او انه يتعب من تمثيل وتصنع دور الانسان السوي فيعود الى حقيقته ، اذ انه من الصعب عليه ان يستمر في التمثيل والتصنع ، فقد يؤدي شخصية الانسان السوي لمدة طويلة لكنه من الصعب عليه الاستمرار في ذلك اذ تفضحه بعض التصرفات التلقائية التي لا ولم ولن يستطيع التخلص منها لانها اساس جوهري في طبيعته ومكون اساسي في شخصيته وقد قيل (ما أضمر أحد شيئا إلا ظهر فى فلتات لسانه وصفحات وجهه وبريق عينيه ) والامثلة على ذلك كثيرة ، في هذا السياق اقدمت الفنانة الصربية ( مارينا أبراموفيتش Marina Abramović ) وهي فنانة أداء وفنانة تشكيلية تدور أعمالها حول العلاقة بين الأداء والجمهور وحدود الجسد وإمكانيات العقل ؛ اقدمت هذه الفنانة سنة ١٩٧٤على خوض تجربة لتتعرف أكثر على تصرفات البشر إذا منحت الجمهور حرية القرار بدون شروط او ضوابط ؛ فقد قررت أن تقف لمدة 6 ساعات متواصلة بدون حراك واتاحت للجماهير أن يفعلوا بها ما أرادوا ، وكانت بجانبها طاولة بها العديد من الأدوات منها سكين ، مسدس ، زهور و أشياء أخرى ، في البداية كان رد فعل الجماهير سلميا فإكتفوا بالوقوف أمامها والنظر اليها لكن هذا لم يستمر طويلا ، فبعدما تأكد المتجمهرون أنها لن تقوم بأي ردة فعل مهما كان تصرفهم تجاهها أصبح المتجمهرون أكثر عدوانية فقاموا بتمزيق ملابسها وقام أحدهم بتوجيه المسدس الى رأسها لكن أحد الأشخاص تدخل وأخذ المسدس منه و قاموا بوخزها ببطنها بأشواك الأزهار وتحرش البعض بها جنسيا وبعد أن إنتهت الساعات الست تحركت مارينا من مكانها بهدوء وبدون أي رد فعل عدوانى تجاه المتجمهرين والمفجأة انها بمجرد أن بدأت بالتحرك هم المتجمهرون بالفرار.
نستخلص من تجربة مارينا هذة ان البشر الذين نتعامل معهم يوميا مهما إختلف اعراقهم واعمارهم وخلفياتهم مستعدون لارتكاب أفعال شنيعة لانها حقيقتهم التي يخفونها لاسباب عديدة اولها ان هناك ضوابط وقوانين تحكمهم ، ولما لم يوجد ضوابط تحد من عدوانيتهم تصرفو على سجاياهم التي جبلوا عليها من عدوانية او تسامح بدليل تدخل شخص لاخذ المسدس الذي وجهه احد هؤلاء الناس الى راس مارينا لكنه بالتاكيد لم يستطع ان يرد عدوانية الناس جميعا ، هذه العدوانية ظهرت عندما وجدوا الفرصة التي استطاعوا فيها التصرف على سجاياهم الحقيقية بتلقائية وبدون تمثيل لانها سجاياهم التي يخفونها لاسباب عديدة لا حصر لها ، وعندما تحركت مارينا فروا من امامها برغم انها وحيدة ولم تقوم باي رد فعل تجاههم وهم جمهور كبير وكانو يتنمرون عليها منذ لحظات .
هذا ما يؤكد أن السلطة بحاجة إلى القوة وأن الحرية لا يمكن أن تمنح بصورة مطلقة من دون رادع أو قانون أو نظام .
وهكذا فان رقي اي شخص وتحضره يستند الى وعيه وثقافته التي تبدأ من كتاب يدعوه الى ان يتخلص من عادات وتقاليد المجتمع المتخلفة التي لاتنسجم مع حياته المعاصرة ، من هنا يمكن ان ندرك إن جمال الكتب لا ينبع مما تقوله وتحتويه بل من قدرتها على الإنصات إلى ما في نفوسنا لذا فان وان على اي الشخص ان يبذل ما استطاع ليتخلص مما جبل عليه من طباع سيئة وهنا نؤكد التخلص من العادات والطباع وليس اخفائها والتمثيل او التصنع بالمثالية وهذا يستدعي العزم الحقيقي لا لاكتساب الضوء ليعكس شخصه بلمعان وبريق كاذب من خلال مظهره الخارجي وبهرجته وتزويقه كغلاف لاخفاء طبيعته السيئة بل العزم في تنوير عقله بهذا الضوء وانضاج تفكيره الذي ينعكس في سلوكه وتعامله مع الآخرين .
وحقيقة الحياة يعيش الانسان ساعة يبدأ فيها في فهم أنه يمتلك حريته التي هي اساس ابداعه بمعنى ان كل انسان يمتلك ابداعا في مجال ما ، وهو ذات الابداع الذي تتمتع به النباتات التي تخرج في الربيع من التربة وتتسلق ما حولها وتتحدى الرياح لتكتسب بعض الضوء لتخلق لنفسها حصة من الفرح في وسط مضياف اوغير مضياف ؛ وهذا يؤكد اننا كبشر نحتاج إلى ترميم بين فترة وأخرى، فالإنسان مادة والمواد يصيبها التلف ما لميتم تعهدها بالعناية ، فالعقول تصدأ والجوارح تذبل والروح تنكسر والقلب يشيخ والكلمات تشح كشجرة تتساقط اوراقها ورقة ورقة في فصل الخريف فنحن لا نموت حين تفارقنا الروح وحسب بل نموت قبل ذلك ؛ حين تتشابه أيامنا و نتوقف عن التغيير ؛ حين لا يزداد فينا شيئا سوي أعمارنا واوجاعنا ؛ إن إماطة الأذى عن مشاعر وقلوب الناس لايقل درجة واهمية عن إماطة الأذى عن طريقهم ؛ فإجبروا الخواطر وراعو المشاعر ‏وانتقوا كلماتكم ‏وتلطفوا بأفعالكم ‏ولا تؤلموا أحداً ‏وعيشوا أنقياء أصفياء فاننا ‏سنرحل ويبقى الأثر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تعلق كل المبادلات التجارية مع إسرائيل وتل أبيب تتهم أر


.. ماكرون يجدد استعداد فرنسا لإرسال قوات برية إلى أوكرانيا




.. مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين: جامعة -سيانس بو- تغلق ليوم الجمعة


.. وول ستريت جورنال: مصير محادثات وقف الحرب في غزة بيدي السنوار




.. ما فرص التطبيع الإسرائيلي السعودي في ظل الحرب الدائرة في غزة