الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان والفكر والتاريخ من يصنع الآخر ؟

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 10 / 30
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كان الانسان البرجوازي الأوروبي في عام 1900م انسانا سعيداً, فحياته المادية سهلة, وثروته مستقره, وضميره طيب, ولا يتسع وقته للملل والقلق. بيد إنه ما ان تصرمت بضع سنوات من القرن الجديد حتى قلب التاريخ للإنسان ظهر المجن! وانقضت المرحلة التي كان التاريخ يبدو فيها نهرا جميلا يغري بالرجوع الى اصله, ويبهج من يرمق جريانه وهو واقف على الشاطئ قرير العين.

إذ ما إن تقرع الاجراس وتدوى أصوات المدافع في آب 1914م منذرة ببداية أول حرب عالمية كبرى, حتى يبدأ عهد جديد في حياة الإنسان الأوروبي ,الذي كان يسبح في زمان مشرق متجانس, يمضي فيه التاريخ بهدوء وتقدم صوب المستقبل دون اهتزاز أو توقف.

كتب أحمد برقاوي ما إن تبدأ القنابل والمدافع تدك "المدن المفتوحة واحدة تلو الاخرى, حتى تميد الأرض والتاريخ تحت إقدام الانسان الأوروبي ليهب مذعورا غير مصدقا ما يرى! وهذا ما توحي به المقالة المفزوعة في جريدة التايمز اللندنية إذ كتبت بعد ساعات من بدء الحرب عام1914م في افتتاحيتها " ليس هناك أمة متحضرة على وجه الكرة الارضية ترضي بان تقصف المدن الامنة المفتوحة بالقنابل من الجو"

وما أن لبثت تخرس أصوات المدافع في عام1918م, حتى تهتز أوروبا من اعماقها على أثر قيام ثورة عام1917م في روسيا – التي اعلنت نفسها ثورة اشتراكية ضد الحالم الرأسمالي, حينئذ ومنذ تلك اللحظة تنفلق وحدة العالم الرأسمالي الى شطرين متخاصمين – الرأسمالي والاشتراكي.

وإذ أعتقد قادة الثورة الاشتراكية الوليدة لينين وستالين واقرانهما من أحفاد ماركس أن ثوتهم جاءت تعبيرا عن ضرورة حتمية لجدل التاريخ وهي المحل الأمثل والضروري لتناقضات المجتمع الرأسمالي المتفاقمة والتي بلغت ذروتها في المرحلة الإمبريالية , وهذا هو ما تنبأ به ماركس, ولم يفعلوا سوى ترجمة النظرية الثورية الى الممارسة الثورية, وعليه اصبح ماركس مجسداً, بل اجبروه على التجسد ليغدو روح عالمهم الايديولوجي الجديد.

وعلى الضفة الاخرى من الدون الهادئ في المانيا كان ذرية نيتشة – قادة الحزب الاشتراكي القومي الالماني (النازي) قد استحضروه من قبره بعد انقضاء ثلاثة وثلاثين عاماً على وفاته لينصبوه معلماً للكذب والعنف ليجعلوا منه نافخ الروح في العرق الالماني الاعلى, الذي لا يحتاج الا الى ارادة القوة كي يسود العالم, وليتحقق حينذاك حلم نيتشه بعصر الانسان الاعلى( السوبرمان)

هكذا بدأ عصر انهيار الحضارة الحديثة, عندما جرى تجميد القيم الروحية والمفاهيم الفلسفية لماركس ونيتشه وهيجل في وقائع على مستوى الأحداث التاريخية التي انتهبت الانسان والعالم ممعنة فيهما قتلاً وتمزيقاً. ويتساءل دلسول كيف قيض لقيم اخلاقية وجمالية وروحية سامية ان تخرج من ذاتها وتتمكن من خلق الوحش الأكثر قذارة في التاريخ؟! يقصد النازية

إذ ما لبثت تتشكل ملامح الدول الشمولية الثلاث – روسيا الستالينية والمانيا الهتلرية وايطاليا الموسولينية – جنبا الى جنب مع الازمات الاقتصادية والسياسية الخانقة في 1929 – 1931م التي بدلت موازين القوى الاجتماعية بحيث سنحت الفرصة للطبقات الوسطى إن تستعيد ضربتها في الحياة.

في خضم هذه الأحداث الصاخبة كانت اوروبا تغلي على نار هادئة ولم يمض كثيرا من الوقت حتى كانت العواصم التاريخية الكبرى باريس ولندن وبرلين وموسكو تترنح تحت القصف العنيف للقنابل الفتاكة, ويهب المارد الجديد ليدهش العالم الجريح بمفاجئة مروعة عندما يلقي قنابله الذرية على هورشيما وناجازاكي في اليابان عام1945م لتكن مسك الختام للحرب التي استمر اوارها في عام1939م وراح ضحيتها اكثر من خمسين مليون انسان.

وبدى الأمر وكأن نبوة (موتسيكو) التي كتبها في غرة القرن الثامن عشر كتب في "الرسائل الفارسية"" انني ارتعد فرقا من إن الأمر سيؤدى اخيرا الى الكشف عن سير تصدر عنه طريقة أسرع لإبادة الناس ومحو الشعوب والأمم جميعاً"

لقد برهنت الحرب على إدانة المدنية الغربية الصناعية, وعلى إفلاس الأخلاق العقلانية, وانتكاسة حضارية لقيم التقدم والعقل والمال والدول ..الخ بيد إن عمق هذه الكارثة يتجلى في تلك الجروح الغائرة والعذابات الدامية التي استقرت في النفوس اليائسة الممزقة التي فقدت الثقة في الانسان والعالم والمستقبل وكل شيء تقريبا كتب المفكر الانساني "رومان رولان" بلغة حزينه :" انتهى عام, وبدأ آخر, والقلب دام, والعيون تمور بالدموع.. انني لم اشعر بعزلة معنوية وجو خانق اثقل من هذا. ان أيماني بالافكار التي اناصرها قوى, ولكنني فقدت كل أيمان بالبشر"
وهكذا نحن اليوم ورثنا عصر استبد به الذهول الناجم عن تلك الكوارث المتلاحقة؛ أنه العصر الذي بشر به نيتشه عندما تبين ان ما كان يعود لله قد عاد الى الانسان, وإن مهمة ادارة الأرض ستئول للبشر – قائلا " ليس ببعيد ذاك الزمن الذي يجب علينا إن نناضل فيه من أجل السيطرة على الأرض , وسيقاد هذا النضال باسم المبادئ الفلسفية"

على هذا النحو المباغت المتوحش انقشعت القشرة الذهبية للمدنية الأوروبية , والتي كانت تخفي وراءها احط الغرائز واقبحها؛ انطلقت من عقالها لدى تلك الشعوب التي كانت تعتبر في نظر اناس العصر أكثر الشعوب تقدما وحضارة على وجه الأرض .

لقد فزع الفلاسفة والمفكرون مما اصاب عصرهم جرى انبعاث القوى الحيوانية المتوحشة من قاع العقل والتاريخ الذين كانا شعار الرأسمالية والاشتراكية على حد السواء. وهذا ما راه المفكر الانساني البير كامو إذ كتب "ان ثمة خطر أعظم من تنوع الأمزجة هو وجود طبيعة حيوانية تثوى في قاع وجود البشر كافة, انها غرائز القتال المنقوشة في الجبلة الحيوانية التي يشترك فيها الناس جميعاً"

وحقا القول : أن اردت معرفة الناس فانظر إلى ما هم حالك أما أن اردت فهم الإنسان فعليك النظر إلى بعيد جدا حيث تشكلت الكينونة البشرة في فجر التاريخ.

إذ يوجد نمطان للعلاقات : علاقة الإنسان بالإنسان وعلاقة الانسان بالأشياء ، الاولى ثابتة ومستقرة ولم تتغير في جوهرها منذ هابيل وقابيل وبنية القرابة الاولى ، اذا ما زال الناس كما كانوا في أولهم يحبون ويكرهون ويتزوجون ويتقاتلون اي بكلمة يمارسون ذات السلوك الذي كان يمارسه الانسان الاول حواء وآدم واولادهما يتزاوجون وينجبون ويسعون في الارض ويفسدون ويتخاصمون ويسفكون دماء بعضهم بعضا في سبيل الحصول على الارزاق والخيرات والمصالح والحاجات وعلى مدى تاريخهم الطويل المفعم بالتنازاع والتقالب والصراع ظل التاريخ البشري محكوم بالقانون الطبيعي مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء ! يدور حول محور القوة والحرب والربح والاحتكار وهكذا ظلت السياسة على مر الازمان هي الزمن الذي بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية القرابة، وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية… وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها افضل مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية. ويرى دوبريه أن هذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار. وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي بالطبع والتطبع ! وهكذا يمكن القول ان علاقة الإنسان بالإنسان ظلت راسخة النسيج ثابتة النسق وكل ما طرى عليها طوال ملايين السنيين لا يعدو بان يكون اكثر من ديكور اسمه الحضارة والتحضر تم اكتسابه اكتسابا بقوة السلطة والتربية والقانون وحينما تنهار السلطة والقانون في مكان من مجتمعات الإنسان يعود الناس الى سجيتهم الحيوانية الطبيعية الانانية الفطرية في حالة حرب الجميع ضدالجميع !
بينما علاقة الانسان بالأشياء شهدت وتشهد ثورات جذرية من التغير والتطور والتبدل والتنوع والارتقاء على على مختلف الأنحاء والمستويات الأفقية العمودية ، وبفضل تغيرها وتطورها تغيرت بيئة حياة الانسان على هذه الارض ، غير ان تغير هذه البئية لم يغير من النمط الأصلي للعلاقات الانسانية ، فما زالت هي هي كما كانت طول العصور والأزمان واذا ما فقدت الانسانية تلك المنجزات المكتسبات التي تحققت بفضل المعرفة والعلوم فمن المؤكد ان البشرية سوف ترجع الى طبيعتها الأصلية.
والتاريخ الذي تعنيه هنا هو تاريخ الإنسان آدم وأبناءه أبن الأرض الذي خلقة الله من عناصر فاسدة وجعله يسفك الدماء ويفسد في الأرض أدنه تاريخ قابيل الذي بداء بجريمة قتل .أنه تاريخ الخوف والجهد والسعي والكد والصراع والتدافع والتنافس والنزاع والحرب والسلام والتعايش والحوار.ولكل كائن في هذا الكون تاريخ واحد هو تاريخه الطبيعي الذي هو طبعة ونظام سلوكه وقواعده وقانونه.مقاومة الفناء ودفاع عن البقاء ولكن للإنسان تاريخين: " تاريخ طبيعي يشارك به جميع الكائنات الطبيعية وتاريخ وضعي يضعه لنفسه ويضع فيه العلوم والآداب والفنون والسياسة والأخلاق والتشريع والزراعة والصناعة والعمارة.ولا يكون التاريخ إلا حركة وصراع وتكيف بالتطور وتطور بالتكيف ورد فعل واتخاذ موقف في مواقع محمية وتبرير المواقف وتحصين المواقع بما يحقق القوة والحماية والعافية والآمن والآمان ولا يكون التاريخ إلى مجمل تاريخ صراع الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة الذي هو قصة تطوره الذي هو قصة تكيفه الذي هو رد فعل الإنسان ومواقفه إزاء الطبيعة بما فيها طبيعته هو التي هي أشد الطبائع عناداً وتمرداً على التطويع واستغلاقاً على الفهم والتاريخ تاريخان :تاريخ الضرورة والواقع والحياة وهو التاريخ الفعلي الذي يدور حول محول التجارة والحرب والاحتكار وتلك حقيقة لا خير ولا شر ولا جبر ولا اختيار، بل سنة من سنن الله سبحانه وتعالى وحقيقة من حقائق التاريخ فيه فقراء ضعفاء مغلوبون مقهورون يخدمون أغنياء أقوياء غالبين قاهرين في السلم ويدافعون عنهم في الحرب. وتاريخ متخيل: تاريخ الحلم والأمل والرجاء والمثال الذي نريده ونتمناه ونحلم به يدور حول محور العمل للإنتاج واللعب للابتهاج والاكتفاء بالذات والاستغناء عن الغير والعدل والخير والجمال للجميع"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صحن طائر أو بالون عادي.. ما هي حقيقة الجسم الغريب فوق نيويور


.. دولة الإمارات تنقل الدفعة الـ 17 من مصابي الحرب في غزة للعلا




.. مستشار الأمن القومي: هناك جهود قطرية مصرية جارية لمحاولة الت


.. كيف استطاع طبيب مغربي الدخول إلى غزة؟ وهل وجد أسلحة في المست




.. جامعة كولومبيا الأمريكية تؤجل فض الاعتصام الطلابي المؤيد لفل