الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما تحطّم التاريخ على مشارف القرن العشرين

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 11 / 1
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


على مشارف القرن العشرين كان المشروع الحداثي الغربي يقف عند مفترق طرق مجهولة وقاسية، إذ بدت إن القوى الحضارية والثقافية والمدنية التي صنعت الحداثة منذ بداية النهضة أي قوى العقل والعلم والديمقراطية قد استنفدت طاقاتها ووضعت على المحك لأول مرة، واكتسبت مسارات جديدة. قد برزت ثلاث قوى اجتماعية جديدة كانت تتأهب لخوض المعركة القادمة؛ الليبرالية الانجلوسيكسونية الذي بشر بها جون لوك في بدء القرن الثامن عشر والدولة القومية التي بشر بها هيجل في بدء القرن التاسع عشر، والطبقة البروليتارية الواسعة التي منحها ماركس الرسالة التاريخية في منتصف القرن التاسع عشر، هذه القوى الثلاث البرجوازية الصناعية المنتصرة بقيادة الإمبراطورية الإنجليزية والولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، والقومية الوطنية بقيادة ألمانيا والبروليتاريا الشعبية التي أخذت تزدهر في كل مكان، وكل قوة من تلك القوى كانت تتوحد تحت احدى الرايات، راية المجتمع المدني والنزعة الفردية، وراية الشعور القومي والحيوية الثقافية، وراية العمل العضلي والحتمية التاريخية. على هذا النحو المثير للقلق بلغت التصدعات المادية والمعنوية في مشروع الحداثة الاوراميريكية حد الانقسام الواضح والتمزق المخيف المنذر بأشد الأخطار والانحلال وكانت حالة القلق والتوجس هي المشاعر التي أخذت تنتاب المثقفين الليبراليين الإنجليز في أواخر القرن التاسع عشر كتب (ارنولد توينبي الأكبر) عم توينبي المؤرخ –في كتابه "الثورة الصناعية" "الأحوال مضطربة وكل المعتقدات السياسية القديمة اهتزت"
في حين كانت مشاعر التشاؤمية الثقافية التي بشر بها نيتشه تنتشر كالنار في الهشيم بين المثقفين الألمان، الذين يعتقدون بأنهم خارج الحضارة الغربية الانجلوسيكسونية وهذا ما عبر عنه توماس مان فقال: "إن التناقضات الفكرية الأوروبية وصلت إلى أقصى مدى لها في الروح الألمانية... وان اختلاف ألمانيا وتفردها هو امتيازها المنقذ وقدرها القومي"
وكان هناك اتفاق بين المثقفين الألمان في الدوائر الأكاديمية وخارجها، بشأن حاجة ألمانيا لتأكيد نفسها على المسرح العالمي. وكانت القومية هي الوهم البرجوازي الأخير لديهم، ففي مايو عام 1911م رست السفينة الحربية الألمانية "بانثر" في ميناء "أغادير" لمنع الفرنسيين من الاستيلاء على (مراكش) لتحمل أوروبا إلى شفا الحرب، وأرغام فرنسا بدعم بريطاني – ألمانيا على الانسحاب من الميناء، قد فجر حالة عارمة من الاستياء وإحساساً عميقاً بالإهانة والامتهان القومي، وجاءت أخبار ألازمة المراكشية إلى "شبنجلر" مثل النبوءة أو الرؤيا، إذ قرر أنه هو وألمان آخرون، كانوا يشهدون تحولا تاريخيا عالمياً في المسار الهيريقليطي عن مصائر القوميات. ربما تكون ألمانيا قد خسرت المعركة، لكن قدرها هو إن تكسب الحرب القادمة لا محالة، إنه صراع بين الحياة الثقافية والموت الحضاري، أي بين ألمانيا حاملة الشعلة المقدسة، والحضارة الليبرالية الغاربة التي كانت تمثلها بريطانيا وفرنسا وكان القدر يتخلى عن "الغرب" أو "أراضي المساء" تاركا إياها وراءه، بينما ليل اسود يوشك إن يرخى سدوله على مؤسساته وآثاره الباقية انه الشعور بان أوروبا كانت تقف على حافة تغييرات كارثية، والتوق لبداية جديدة كان شعوراً عاما في ألمانيا، وبدرجة اقل شدة في فرنسا، إذ كان الطلاب الفرنسيون الذين يطلقون على أنفسهم "جيل 1912 يطالبون بـ "يقظة قومية" لتغيير المجتمع الفرنسي المتفسخ، ينفثون التفاؤل والعزم والأمل في كل ما يضعون أيديهم عليه، وكان بطلهم برحبسون (1866-1953م) يصفهم علنا بأنهم معجزة تطورية وتحولُ غير مسبوق في الطبيعة البشري.
في تلك اللحظات المستعرة بالمشاعر النيتشوية، يصرخ الشاعر التعبيري الألماني "جورج هيم" "كل شي.. مضجر، مضجر، مضجر... لو بدا شخص ما حرباً..فلن تكون في حاجة لان تكون عادلة" كان الكل يتصور أن تجربة المعركة سوف تطرد الضجر والسام والتفسخ الحضاري الذي كان سبباً له وعندما بدأت عقارب الساعة تقترب من لحظة الصفر، في صيف عام (1914). كتب "شبنجلر" إلى صديق له التحق بالجيش "احسد الناس الذين يتطوعون ويمرون بتجربة الحرب" وغدت "التجربة" عبارة أساسية من وحي حماسة "نيتشه" لأطلاق إرادة القوة عن طريق ممارسة العواطف القوية والاتصال الجوهري، وهذه هي ما يسميها برحبسون بـ "الوثبة الحيوية" التي شعارها "أنا أجرب، إذن أنا أكون" وعندما جاءت الحرب، كتب "توماس مان 1889-1955م" "ألا يجب إن نشعر بالامتنان لتلك الفرصة غير المتوقعة التي تجعلنا نجرب هذه المشاعر القوية؟"
وفي 17 يوليو عام 1914 كتب المستشار الألماني بيثمان هولويج: "بأنه وصل إلى قناعة بان العالم القائم قديم جداً وان الحرب ستؤدي إلى اجتثاث كل ما هو موجود من جذوره"، كما احتفل الاقتصادي الألماني "جوهان بلنج" عام 1914، نهاية حتمية للقرن التاسع عشر "المتشظى، الحرج، المرتبك"وأعلن "نحن أبناء القرن العشرين على وشك الإقلاع نحو مغامرة كبرى"ويودع عالم الاجتماع الألماني جورج زيمل (858-1918م) طلابه الذاهبين إلى المعركة بهذه الكلمات "الحرب تشكل ما يمكن إن نطلق عليه موقفاً نهائياً، انتم ألان في مواجهة اختيار "نيتشوي" صارم بين القديم والجديد، بين الحياة والموت"
على هذا النحو الفاجع تفرقت المسارات المتقاطعة بأهل الحضارة الأوروبية الحديثة بين أربعة اتجاهات كبرى؛ اتجاه إسبارطي توراتى افلاطوني هيجلي نيتشوي حيوي أري، يمثل النزعة العسكرية الانضباطية النازية التي كانت لا ترى غير الحرب طريقاً لتجديد الروح في الحضارة الغربية الآفلة، "كان نيتشه يقول "الحرب وحدها هي التي تحقق السعادة على الأرض"
واتجاه:- ارسطي بيكوني لوكوي فيكتوري سكسوني إنجليزي روبنكروزويوي، يرى في الحرب اختباراً للقوة ودفاعاً عن قيم الحضارة والتاريخ والإنسانية الليبرالية والحرية الفردية.
واتجاه:- افلاطوني أسبارتا كوسي ماركسي تاريخي حتمي يرى في الحرب فرصة لتحقيق العدالة الشيوعية وتسلم قيادة التاريخ لدكتاتورية البروليتاريا.
في حين كان الاتجاه الرابع يرقب الموقف من خارج الحلبة، الاتجاه البراجماني الذرائعي الأمريكي، يرى في الحرب تجربة وخبرة ثمينة لتصحيح مسار التاريخ بقيادة أمريكا.
وبانتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا وايطاليا وتركيا، وانتصار البلاشفة في موسكو واتفاقية سايكس بيكو عام 1916 كان التاريخ يدور حول محوره الطبيعي، محور الحرب والتجارة والاحتكار، وبعد بضع سنوات على هزيمة دول المحور وانتصار البلاشفة تندلع أزمة اقتصادية ساحقة في الدول الأوروبية عام (1929-1931) وتستعد أوروبا كلها للحرب العالمية الثانية التي اندعلت في عام 1939م ولم تتوقف إلا بمفاجأه مروعة، حينما هب المارد الأمريكي الجديد ليذهل العالم كله بإلقاء قنابله النووية على هورشيما وناجازاكي اليابانيتين عام 1945، لتكون مسك الختام لحداثة أوروبا القديمة، وليبدأ التاريخ القاروني عهد ما بعد الحداثة الأمريكية النووية الكمبيوترية، عهد الموجة الثالثة.
لقد كان تأثير الحربين الأولى والثانية حاسما في حياة وفلاسفة القرن العشرين الذين شهدوا أحداثها واكتووا بنيرانها، أمثال شبنجلر وتوينبي وبرتراند رسل، وهيدجر، وسارتر، ولوكاش وادوار، كار كارل پوبر وبرحبسون وكولنجوود، وميروبونتي وغيرهم ممن نشاوا وعاشوا في اتون تلك الإحداث الداجية. كتب الفيلسوف الروسي برديائف يصف أعوام الحرب في أوروبا قائلا "لقد أصبحت ألان تشوهها مناظر الطوابير الجائعة والحوانيت الخاوية والقيود من كل نوع وحظر التجول وعدم اليقين فيما يحمله الغد لقد انتابني شعور فظيع! أحسست إن كوكبنا يترنح" لقد برهنت الحرب على إدانة المدنية العلمية الصناعية وعلى إفلاس الأخلاق العقلانية وقيم الليبرالية في الحرية والتقدم والمال والدولة القومية... الخ بيد أن عمق هذه الكارثة يتجلى في تلك الجروح الغائرة والعذابات الدامية التي استقرت في النفوس الممزقة المفجوعة، التي فقدت الثقة في التقدم والمستقبل والإنسان والعالم كتب المفكر الإنساني "رومان رولان" بنبرة حزينة "انتهى عام، وبدا أخر، والقلب دام، والعيون تمور بالدموع... إنني لم اشعر بعزلة معنوية وجو خانق أثقل من هذا إن أيماني بالأفكار التي أناصرها قوي، ولكنني فقدت كل أيمان بالبشر"
اِنه عصر استبد به الذهول الناجم عن تلك الكوارث على هذا النحو المباغت المتوحش انقشعت القشرة الذهبية للمدنية الأوروبية، التي كانت تخفي وراءها أحط الغرائز وأقبحها عند تلك الشعوب التي كانت تدعي أنها أكثر الشعوب تقدما وحضارة وإنسانية على وجه الأرض هكذا تحطمت آمال الإنسان الأوروبي وأحلامه في التقدم والأمن والاستقرار والسعادة الأرضية والتفاؤل بمجرى التاريخ والمستقبل السعيد، لتفتح أمامه أبواب الموت والدمار واليأس والعدم والقلق والعبث والانتحار في هذا الآفاق الموحشة، ومن أوروبا المسممة بالبؤس والدمار والفجيعة انبثقت فلسفات التاريخ والفلسفات الأخرى، وحينما لا يلوح في الأفق إلا الموت والدمار، ليس من الغريب إن يستخلص هيدجر من تأمله هذه النتيجة "الوجود للموت" وفي هذا السياق يعلن الوجودي الفرنسي البيركامو "إن التهديد المميت الذي يحوم فوق وضعنا يجعل كل شي مجديا... الصرخة وحدها تجعلنا نحيا"
ويعبر برديائف عن ما يمكن التفكر به حينما يحوم الموت فوق رؤوس الجميع "في غضون تلك الأعوام من الحرب الساحقة والدماء المراقة، والدمار الشامل، ومعسكرات الاعتقال الرهيبة والأحزان الإنسانية التي لا سبيل إلى وصفها، كنت مدفوعاً إلى تأمل الموت والشر والعذاب والجحيم الأبدي والقلق والعدم والحرية"(). لقد كان القرن العشرون هو عصر الإنكار المطلق والاحتقارات الكبرى إذ منيت كرامة الإنسان فيه بهزائم وكوارث متلاحقة على مدار سنوات القرن كله، إذ كانت تقام معسكرات العبيد تحت راية الحرية وتسوغ المجازر باسم الإنسانية المتفوقة، وتقدم أرواح ملايين من البشر من اجل مستقبل غير منظور، ويتعمق استلاب الإنسان واغترابه وتهيمن التقنية التي أخذت تقتلع الإنسان من جذوره، كما عبر هيدجر "الإنسان في الرمق الأخير" وإذا كانت الوجودية هي مرآة القرن وعذابه وصرخة الإنسان الجريح المتوحد مع ذاته فماذا بوسع فلاسفة التاريخ قوله وكيف نظروا إلى القرن العشرين وعبروا عن مشكلاته وتحدياته، على هذا النحو لا بد لنا من أن نعرف إن كل نص أو قول فلسفي إنما يولد وينمو ويزدهر في سياق تاريخي وثقافي ومن ثم يصعب فهم أي فيلسوف أو فكرة فلسفية دون الاحاطة بذلك السياق الذي هو كامل الوسط الذي يظهر فيه نصً ما والذي لا يتشكل من وضعية ثقافية واجتماعية وسياسية فحسب وإنما من مجموع النصوص والعلامات المتحركة حوله ووراءه وفي فضائه.
في فضاءات هذا العصر عاش وفكر ارنولد توينبي وفلاسفة التاريخ الذي سنبحثهم. وكتب فيلسوف التاريخ الإنجليزي ادوار كار قائلاً: "في سنوات منتصف القرن العشرين، نجد العالم في سياق من التحولات ربما كانت أكثر عمقاً وأكثر شمولاً من كل ما مضى... أننا نعيش في مدة يتردد فيها بان العالم مقبل على كارثة وتخلق مثل هذه التنبؤات اثر قوياً لدى جميع الناس"
وفي السياق نفسه يكتب توينبي "أننا نعيش ونحن نلمح يومياً طيف كارثة نخشى أن نراها تطبق فوق رؤوسنا، لولا أن نجد ونحن على شفير الهاوية وسيلة كالمعجزة تؤجل وقوع هذه الكارثة، ولسنا نبالغ أبدا إذا قلنا إن ظل هذا الخوف الذي يسد في وجهنا طريق المستقبل في الوقت الحاضر، يأخذ بمجامع فكرنا ويفرض على أذهاننا شللا بدا يستشري فيظهر حتى في مشاغلنا اليومية الاعتيادية"
وإذا كانت الحرب قد حطمت أمال النخبة الأوروبية المثقفة وخيبة ثقتهم بالعلم والعقل والنظام وبالحضارة، فهي بالمثل قد هزت الثقة في مفهوم التاريخ التقدمي أو التقدم التاريخي الذي يسير باتجاه المستقبل كما كان الاعتقاد السائد منذ عصر التنوير إلى أواخر القرن التاسع عشر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على السباق ذاتي القيادة الأول في العالم في أبوظبي | #سك


.. لحظة قصف الاحتلال منزلا في بيت لاهيا شمال قطاع غزة




.. نائب رئيس حركة حماس في غزة: تسلمنا رد إسرائيل الرسمي على موق


.. لحظة اغتيال البلوغر العراقية أم فهد وسط بغداد من قبل مسلح عل




.. لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب