الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الإنسان بين ماركس ونيتشه وسارتر

قاسم المحبشي
كاتب

(Qasem Abed)

2021 / 11 / 6
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إذا كان ماركس قد سار بفكرة هيجل الجدلية الكلية الى نهاية الشوط, ملحًا على الانسان الاجتماعي الكلي – الإنسان؛كمجموع علاقات اجتماعية, فان صرخة نيتشه قد أنطلقت مما انتهى اليه فيورباخ الذي كان أول من بسط الله كجوهر للإنسان إ أستخلص هذا الأخير من دراسته الأنثروبولوجية للدين التأكيد إن الله لم يكن في حقيقة الامر الا المضمون الجوهري للذات الإنسانية المستلبة- الله هنا بالمعنى المسيحي طبعا- ويرى البنيوي ميشل فوكو أن فيور باخ وليس نيتشه هو الذي امات الله في حين لم يكن هذا الأخير– نيتشه – الا نذيرا وناقلا لهذا النبأ المشئوم لاهل عصره وزمانه عندما قال "لقد مات الله" ان نيتشه الذي يعتبره كامو مختتم حركة التمرد الماورائي ويرى فيه هيدجر آخر الميتافيزيقيين في العالم الغربي, قد شيد فلسفته بشأن الانسان على أسس ميتافيزيقية جديدة, بعد ان فضح زيف القيم الأخلاقية والتصورات الفلسفية لفلاسفة عصره, والاخلاق البرجوازية عن الحرية والمساواة, وقيم التضامن والاخوة, والمحبة بين البشر, وأكدا ان الفلسفة في عصره ليست الا احكاما مسبقة من الأحكام العامة التي يدفعها الفلاسفة الى حدودها القصوى.

إذ يتبن ان كل القيم التي تهدي اهل زمانه تقوم على أساطير العالم القديم – عالم المثل الأفلاطونية– وعالم العون الإلهي . ولكن اما وقد انهار الإساس الذي كان يقوم عليه العالم باختفاء الله "وغروب الاصنام" فمن العار على الإنسان ان يظل مكبلا نفسه بالقيود التي ظلت تعيق حركته وتقدمه وتطوقه بقيمها البالية؛ المحبة, والخنوع والذل, وطلب العون.. بل يصرخ نيتشه في الإنسان ذاته( يجب تحرير الحياة) هكذا يعلن نيتشه ان فلسفته أفلاطونية مقلوبه, حيث يقول في كتابه "غروب الاصنام" :((عندما ينهار العالم الحقيقي "عالم المثل الأفلاطونية " فان "العالم المحسوس" – يقصد القيم – ينهار ايضا, ولكن ليس ليرشح في العدم, بل ليأخذ الحسي والمحسوس كل التصديق والموافقة"
وأضح ان المشكلة التي حيرت نيتشه ومزقت نياط قلبه هي مشكلة العدمية. لقد أصبحت العدمية لديه نبوئية وواعية لأول مرة كما يقول كامو " لقد اقر نيتشه بالعدمية وفحصها كواقعة سريرية"

نعم ادرك نيتشه قبل غيره هول المأساة – عندما وجد الله ميتاً في نفوس أهل زمانه, محدسا هول الثمن الذي يترتب على الإنسان دفعه "اذ لم نجعل من موت الاله زهدا كبيراً, وانتصارا دائماً على ذواتنا, فسيتحتم علينا ان ندفع ثمن هذه الخسارة" هكذا يقول نيتشه.

لقد غدى الإنسان لوحده في هذا العالم التحرر من الاله ومن المعبودات الأخلاقية . ان مسئولية هذا العالم خيره وشره وتقع الان على عاتق الإنسان المهجور لوحده دون اية بادرة أمل في عون, لا من السماء ولا من الأرض , ويرد نيتشه عن هذا التساؤل المفزع: ولكن هل يستطيع الانسان أن يعيش دون أمل ؟.. دون ان يؤمن بشيء؟.
ان جان بول سارتر سوف يجيب على نيتشه فيما بعد قائلاً "لا يحتاج المرء الى أمل كي يعيش" في حين ان جواب نيتشه جاء مشروطاً – وجوابه في ركوب المخاطر- يجب على الانسان ان يقبل ذاته كقدر محتوم, وان يسلم ببراءة العالم ونقبله بعد تطهيره من كل الأحكام والقيم المسبقة. وما ان نعترف ببراءة الصيرورة, حتى نمثل منتهى الحرية. الرضى التام بالحتمية التامة؛ هو ذا تعريفه الغريب للحرية فالحرية تتطابق عنده مع البطولة. هكذا يبشر نيتشه بالاله الإنسان "فاذا كان هناك الاله فكيف يتحمل الإنسان ان لا يكون هذا الاله" هذا الانسان الذي يتوق ليصير اله, هو إنسان"الوجود والعدم" الذي فسره سارتر الشاب في بحثه الفيومينولوجي عام 1943م.
اذ ذاك كان على نيتشه ان يوجه خطابه الغريب الصوت والمعنى لا الى الإنسان الاجتماعي؛الانسان الذي يعمل ويعيش ويفكر في المجتمع, الانسان الذي خاطبه ماركس – بل جاء نداؤه على لسان زرادشت الى "الإنسان الاعلى" هكذا يقول نيتشه" هو مطلبي واهتمامي, فهو وحده أول وأخر ما أهتم به.. لا الغوغائيين التافهين الذين اصبحوا اليوم سادة يعلمون الناس الخنوع والتواضع والحذر والمثابرة.. اؤلئك الذين يسيطرون على المصير البشري كله.. المتشبهون بالنساء والعبيد"
ويرى الدكتور احمد البرقاوي – عن حق – ان الاحتجاج النيتشوي ضد العالم الرأسمالي وقيمة الأخلاقية قد اخذ صورة نكوص لمرحلة الأرستقراطية واخلاق البطولة والدفاع عن العبقرية, في مقابل الزيف الذي خلقته البرجوازية وسلطة المال.
غني عن البيان ان فكرة داروين عن صيرورة الحياة وارتقائها وصراع الانواع قد وجدت هوى في نفس نيتشه. عندما انطلق من اعتبار الكائن الانساني ارقى ما وصلت اليه الحياة في صيرورتها, ومن ثم فالحياة او الانسان "هو ارادة اقتدار" في تجاوز اللحظة الراهنة باتجاه الاعلى المستقبل. وهذا الأخير هو "عود ابدي للذات"
لقد اراد نيتشه ان يجيب عن السؤال: ما هو الانسان؟ ما هي كينونة الكائن؟.. وكان جوابه: إنه"ارادة اقتدار" وعود ابدي لذات النفس".. وتتعلق فكرة ارادة الاقتدار في قدرة الموجود على تجاوز وجوده, في حين تتعلق فكره العود الابدي, بالكائن في كلية – وهي القبول الاعلى للحياة وللكائن, فالفكرة تلك لا يمكن ان تفكر الا اذا توصل الانسان الى تخطي آخر الرجال, اذا توصل الى الإنسان الاعلى.
بيد ان المصير الذي آلت اليه فلسفة نيتشه أكثر مأساوية من مصير فلسفة ماركس حيث جعل ذريته من مطلبه" ان يخضع الفرد لخلود النوع), العرق, حالة خاصة من النوع. اما الحياة التي كان يتحدث عنها بخوف وارتجاف, فقد هبطوا بها الى بيولوجيا للاستعمال النزلي, وقلبوا باسمه الشجاعة ضد العقل, وقوة الخلق والإبداع , الى قوة العنف والقتل والابادة.
كتب كامو" إذا ما استثنينا كارل ماركس, فلا مثيل لمغامرة نيتشه في تاريخ العقل.. ولم يكن لدينا مثال عن فلسفة منارة كلها بنبل وبتمزقات نفس فريدة, قد اظهرت للملاء بسيل من الافتراءات وبركام جثث المعتقلين الرهيب. التبشير بانسانية متفوقة يكون موداه انتاج الاقزام؛ هو ذا الأمر الذي يجب ان يفضح, ويحتاج الى تفسير"

تجدر الإشارة الى ذلك التأثير الكبير الذي مارسته الفلسفة النيتشوية بشأن الإنسان الاعلى على الفكر الفلسفي المعاصر, وهذا ما سوف نكشف عنه لاحقا, عندما نتناول الفلسفة الوجودية وفلسفة سارتر تحديداً.

, نميط اللثام عن ذلك الهوام الفلسفي حول الإنسان بوصفه مشكلة فلسفية شكلت مداري الخطاب الماركسي والنيتشوي, في احتجاجهما ضد استلاب الانسان في المجتمع الرأسمالي ورفضهما لقيمه الأخلاقية الزائفة, ليخلصا الى رفض عالم الانسان الرأسمالي وطرح تصورهما لعالم الانسان الحقيقي ليحل محله, وذلك من زاوية رؤية مختلفة, فماركس يرى خلاص الإنسان من الاستلاب في مجتمع الوفرة والرخاء وانعدام الندرة – المجتمع الشيوعي – في حين نادى نيتشه بعالم الانسان الاعلى – مجتمع العمالقة والعباقرة والابطال الذي يليق بحياة الانسان.

بيد أن المفارقة التي ارتبطت باسمى ماركس ونيتشه كأعظم عقلين دافعا عن الانسان وحريته, تكمن بعد تجسيدهما على ايدي ذريتهما, وحينما يتقابلا في النصف الأول من القرن العشرين كالد خصمين, محاولا كل منهما القضاء على الاخر في أعنف حرب شهدها الإنسانية, درات رحاها بين الجيش النازي الألماني والجيش الاشتراكي الروسي, بين الانسان الاعلى وانسان التاريخ , وكل طرف من الاطراف كان يستحضر فلاسفة العقل والانسان من قبورهم ليحولوا "يهوي" اليهودي إلى اله القتل المنزوع الرحمة فهتلر يستحضر نيتشه وستالين يستحضر ماركس, وموسوليني يستحضر هيجل...

هكذا تم ابادة ملايين البشر باسم الإنسان الحر, وباسم المبادئ الفلسفية. ولعله من حسن أو سوء حظ ماركس ونيتشه ان يكون هذا التجسد في دولتين كبيرتين "الهتلرية والستالينية, وقد جعلهما أشهر من نار على علم, وفاق تأثيرهما في الفلسفة المعاصرة أكثر من تأثير أي فيلسوف آخر.

واذا كان ماركس ونيتشه اول من ارسى دعائم فلسفة الإنسان في المانيا, فان هذا لا يعني باي حال من الاحوال ان الفلاسفة الاخرين في بلدان اوروبا الاخرى كالنمسا وبريطانيا وفرنسا وامريكا وغيرها, كانوا مغضين الطرف عن الانسان كمشكلة فلسفية.. بل يمكن القول ان الانسان بات قلق العصر, وانبسط كموضوع للمعرفة العلمية والفلسفية معا.

فها هو ذا الفيلسوف المسيحي الدانمرك يسون كير كجور (1813 – 1855) الذي يعتبره بعض الباحثين ابو الوجودية الحديثة والمعاصرة, يجعل من وجود الذات الانسانية الفردية منطلقا لفلسفته معترضا اشد اعتراض على هيجل الذي حاول ان يحشر الناس والاشياء جميعا في بنيه عضوية واحدة وكلية. في حين يرى كيوكجور ان الوجود هو اساس وجود عيني فردي يستحيل ادراجه ضمن مذهب او نسق فكري او اجتماعي.

لقد كان لفلسفة كيركجور تأثيرا كبيرا على الفلاسفة المعاصرين امثال هيدجر وياسيرز ومارسيل وبرد يائف.. وقليل الاثر على سارتر وكامو..هذا وقد كان الانسان يشكل مدار قلق عالم النفس النمساوي فرويد في مدرسته "التحليل النفسي" فهو اذ رام تفسير الحياة الجنسية للانسان ومن ثم الكشف والفضح لوجه الخفي لسلوك الانسان "اللاشعوري" قد الحق بكبرياء الانسان ثالث احلال كبير لها بعد كوبرنيك وداروين, حيث وللمرة الثالثة فقد هذا العالم الانساني فقد مركزه في الكون بفعل نظرية فرويد التحليلية التي اعطت عن الانسان صورة, باتت نفسه محبوكة بخطوط قوى بعيدة تمتع في اعماق التاريخ ولا تقع تحت سيطرته, وذلك عندما اعاد كل سلوك وحركات الانسان السوي او العصابي الى العقدة الجنسية "عقدة اوديب" كعقدة جوهرية في النوع الانساني منذ الازل إذ اعاد فرويد مشكلة اغتراب الانسان عن ذاته الى العامل الجنسي, ولعل العالم الانجلو – سكسوني وفلسفته التجريبية, اهتمت بمشكلات الانسان على طريقتها, فرغم انها لم تكن فلسفة احتجاج اكثر مما هي دفاع عن العالم الرأسمالي, الا انها جعلت من الانسان والحرية والادارة والمعرفة موضوعاً لها. وهذا ما يمكن العثور عليه عند ابرز ممثليها البراجماتي الامريكي وليم جيمس (1910م) الذي يفكر بعقلية العقال فهذا الاخير الذي ترى فيه الدكتورة يمنى طريف الخولي"الفيلسوف الحق والعالم المتمكن الذي انفرجت ازمة الحرية على يديه, فأقتربت الحرية معه كثيرا من الصورة المنشودة.. لان البراجماتية امدته بمنهاج اقامة الحرية معه كثيرا من الصورة المنشودة.. لان البراجماتية امدته بمنهاج اقامة الدعوى بالحرية, وهو منهج لتحسين هذا العالم وتقليص الشر فية"

ويعد فيلسوف فرنسا الابرز برجسون من اهم الفلاسفة الذين جعلوا من الانسان وحريته في صميم خطابهم. وقد جاءت فلسفته في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين كجسر انتقال بين فلسفة الانسان ماركس ونيتشه وفلسفة الانسان الوجودية عند سارتر. ان برجسون قد نقل الحرية من نطاق العلم الى نطاق التصديق والعمل, ولكن بطريقة مغايرة لطريقة كانط, كما يشير جان فال, وذلك عندما وضعها في معطيات الشعور البديهية.
يقول جان فال" من حكمة ديكارت (أنا أفكر, فأنا موجود) الى حكمة برجسون (أنا أدوم فأنا موجود), ومن الخلق المطرد الى التطور الخلاق إلى انا حر فإنا موجود عن سارتر تلك هي الجادة التي سلكتها الفلسفة الفرنسية".
وما كان لافكار برجسون الحدسية من أثر عميق على الفلسفة الوجودية المعاصرة. كما ان الانسان ككلية, كنسيج من العلاقات المتعددة الامشاج والابعاد الاقتصادية والسياسية والثقافية والاخلاقية والتاريخية, والبيئية والعلمية والاجتماعية, لم يكن موضوعاً محصورا على التأمل الفلسفي للقرن الماضي بل أخذت تتناهب شتى فروع المعرفة العلمية الانسانية الفتية, ومنها الانثروبولوجيه, والتحليل النفسي, والسيوسولوجيا وعلوم اللغة والتاريخ..الخ.

ولعل نيتشه كان يقصد ذلك في إضاءته الذي يحلو ليهدجر ترديدها حينما قال" ان هناك ارادة قصوى في التواصل تهيمن على الفكر من شأنها ان تجعل المفكرين الكبار يفكرون حول الشيء نفسه حتى وان لم يعرفوا بذلك . لأن هذا الشيء هو اساسي وثري الى درجة أنه, ولا مفكر واحد, يستطيع أن يستنفذه استنفاذا تاماً, كل واحد يواصل الاخر بشكل اكثر دقة"

وبالفعل بدا لنا الامر, ونحن نلج القرن العشرين لنرى ونسمع ماذا يقول الفكر بشان الانسان ومشكلاته, ان المشكلة غدت اكثر تعقيداً بما لا يقاس عما الفيناه في فلسفة القرن الماضي, ليبدأ الدوران من جديد حول الانسان, واغترابه ومصيره ووجوده, بل ان ما هو امر من ذلك ان قرننا نظر الى الانسان "ككائن مجهول" حسب المفكر الفرنسي (الكسيس كاريل).. وهذا ما سوف نمعن النظر فيه في تتبعنا اللاحق لتطور الفلسفة في القرن العشرين؛ قرن الاضطرابات الكبرى, والحروب الكونية, ففيما كان القرن التاسع عشر – ليس قرن التاريخ فحسب بل قرناً تاريخياً, بدأه (نابليون) في الغرب بملحمة امتدت الى اوروبا بأسرها وحملت اليها هز الثورة الفرنسية فغرست فيها نتائجها عن حقوق الانسان السياسية والاجتماعية.. وعن حريته الوجودية والفكرية.. الخ وقد كانت مهمة الفلسفة حينذاك – بدأ بفيلسوف العقل المعجب بنابليون بوصفه " العقل الذي يمتطي الحصان" بحسب هيجل بينما جاءت فلسفة ماركس ونيتشه كصرخة احتجاج على هذا العالم البرجوازي الذي يستحق الانسان ويسلخه عن وجوده الحق, بل جاءت فلسفة ماركس بالذات مفعمة بالتفاؤل وزاخرة بالنزعة العقلانية والضمير التاريخي المطمأن ورغم الاحداث السياسية والثورات والازمات العامة مثلا ازمة 1848م والحروب الصغيرة التي كان اقساها حرب 1870م, الا ان النظرة الاجمالية للامور تجعلنا نرى في القرن التاسع عشر بالنسبة الى القرن العشرين فترة امن وهدوء اكثر استقرارا ويرى هنري سيمون في كتابه الفكر والتاريخ "في القرن الماضي العصر الذهبي لازدهار الرأسمالية والصناعة"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تعرف على السباق ذاتي القيادة الأول في العالم في أبوظبي | #سك


.. لحظة قصف الاحتلال منزلا في بيت لاهيا شمال قطاع غزة




.. نائب رئيس حركة حماس في غزة: تسلمنا رد إسرائيل الرسمي على موق


.. لحظة اغتيال البلوغر العراقية أم فهد وسط بغداد من قبل مسلح عل




.. لضمان عدم تكرارها مرة أخرى..محكمة توجه لائحة اتهامات ضد ناخب