الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمد عبده ماهر وحكاية الفيل

محمد زكريا توفيق

2021 / 11 / 19
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الأستاذ أحمد عبده ماهر يقول ما يقوله منذ سنين. فعلام هذه الضجة الكبرى؟ التي يقودها رجال الأزهر وبطانته ضد ماهر وما يمثله من فكر يدعو للإصلاح الديني وتنقية التراث من أساطيره وتخاريفه وهبله وغبائه وإسرائيلياته.

يقف في صف الأزهر، بتوع داعش والإخوان والسلفيين وكل من طالت لحيته وقصر جلبابه وحجّب أو نقّب زوجاته. وكذلك كل الهيئات والمؤسسات الرجعية، المستفيدة من إبقاء الوضع على ما هو عليه.

الأزهر ومريدوه، يريدون بقاء الحال على ما هو عليه، فليس في الإمكان أفضل مما كان. الأديان الثالثة السماوية بوضعها الراهن لا تستطيع مقاومة العلم الحديث والحقائق الجديدة التي تظهر كل يوم.

صراحة، المعركة محسومة منذ البداية. فلا يمكن أن تحارب العقل بالهبل والشتائم والتهديد بالسجن والاتهام بالكفر. لقد طلب الرئيس السيسي من رجال الأزهر قيادة حركة الإصلاح الديني. وقد كتبت عدة مقالات، قلت فيها إن الأزهر لا يقدر ولا يستطيع، وغير مؤهل لحركة الإصلاح الديني المنشودة. ها هي الأيام تثبت صحة ما قلت وما قاله غيري. الأزهر هو سبب هذه المصيبة الدينية التي نعيش فيها، ولا يستطيع إصلاحها.

المشكلة هي أننا أمام فكر عقلاني يؤمن بالمنطق والتحليل والتجربة والمشاهدة، يواجه فكر سلفي لا يؤمن بمثل هذه الأشياء. إنما يؤمن بالآية والحديث والتفاسير والشروح والنقل، بدون تفكير أو نقد.

إذا انتشر وباء الكوليرا على سبيل المثال، الفريق الأول يأخذ المرضى إلى المعمل لإجراء التحاليل اللازمة لمعرفة سبب المرض ووصف الدواء. أما الفريق الآخر، فيذهب إلى الآيات والأحاديث والتفاسير، فلا يجد إلا بول الإبل علاجا شافيا، أو غمر الذبابة بكاملها في السائل حتى يبطل مفعول المرض.

إنهم يعتقدون أن شرب بول الإبل ووضع النساء في أكياس سوداء، هي أفضل طريقة للعبادات والتقرب إلى الله. وأن النقل عن شيخ عاش منذ ألف سنة، أفضل وأضمن من أن نقوم بالتفسير بأنفسنا. لماذا نتحمل المسئولية ونودي أنفسنا في داهية، طالما مشايخنا العظام الذين سبقونا بقرون عديدة، قاموا بالواجب وزيادة؟

الشيخ الشعراوي له مقولة خالدة تبين المأساة في أجل صورها. يقول لماذا نفكر ونتعب أنفسنا ونبتكر ونصنع الأشياء. الحل الجهنمي هو أن نترك أعداءنا يتعبون ويعرقون ويصنعونها، واحنا نأخذها على الجاهز.

هو نفس الفكر الذي يرضى بفكر الأقدمين. هم قد تعبوا وفسروا، حسب علوم ومدارك عصرهم، واحنا نأخذها جاهزة بدون تعب أو مسئولية. الفرق هنا هو أن هذه التفاسير لم تعد صالحة لهذا العصر الذي نعيش فيه. عصر الميكانيكا الكمية والهندسة الوراثية وثورة المعلومات.

"لوجوس" باليونانية تصف نوعا معينا من التفكير. طريقة تفكير تستخدم المنطق والتحليل، لتفسير الظواهر والأشياء التي تعتري الإنسان. هذا النوع من التفكير، غالبا يقود إلى الحكمة. الحكمة باليونانية تعبر عنها كلمة "صوفيا". إذا أضفنا لكلمة صوفيا، كلمة "فيلو" وتعني حب، أصبحت الكلمة المركبة "فيلو صوفيا". وتعني حب الحكمة. من هنا جاءت كلمة فلسفة.

ماذا كان يوجد قبل الفلسفة، وقبل طريقة "لوجوس" في التفكير؟ كانت توجد طريقة أخرى. هي "ميثوس"، أو الأساطير. لا داعي للتفكير ووجع الدماغ. نترك التفكير للكهنة والمفسرين ورجال الدين، ونأخذ نحن المعلومات على الجاهز.
الأساطير والقصص الموروثة عن الأجداد تفسر لنا كل شيء. البرق والرعد سببهما مقرعة كبير الآلهة "زيوس" على قمة جبل الأوليمب. الكرة الأرضية يحملها الحوت بهموت. عندما يشعر بالتعب، تحدث الزلازل. الأمراض والأوبئة بسبب غضب الآلهة. وهكذا.

معظم الأساطير لها علاقة بالدين وحياة الآلهة. لذلك كانت لها صفة القداسة. حافظ عليها الأجداد وعضوا عليها بالنواجذ. كان يسلمها كل جيل إلى الجيل الذي يليه.

استخدمت هذه الأساطير في خلق نظام اجتماعي متكامل. يفسر كل شيء ويجيب على كل سؤال. لكن عيب هذه الأساطير المقدسة، أنها تخلق مجتمعات ساكنة راكدة تقاوم التقدم والتغيير، كما هو الحال عندنا الآن.

العصور المظلمة، استمرت أكثر من 1000 سنة بسبب سيطرة الكنيسة الكاثوليكية في الغرب، والأزهر ورجال الدين عندنا في الشرق. لكن شيء مختلف ظهر في اليونان في القرن السابع قبل الميلاد. وجاء أول تفسير فلسفي، بعيدا عن الأساطير. يشرح أسباب حدوث فيضان نهر النيل خلال الصيف من كل عام. بالرغم من أن معظم أنهار الدنيا تجف أثناء فصل الصيف.

فيضان نهر النيل يحدث بسبب "رياح الصحراء". ليس بسبب الصراع بين الآلهة، أو علاقات الحب والزواج بينهم. هنا نجد الظواهر الطبيعية تفسر بظواهر طبيعية أخرى. القوى الخفية الخارقة للطبيعة ليس لها دخل بموضوع فيضان نهر النيل.

هذا هو لب المشكلة. نحاور رجال الأزهر ونتكلم معهم ونجادلهم بلغة لا يفهمونها. وهي لغة العلم والمنطق. ربما يدرسون تاريخ الفلسفة، لكنهم لا يمارسونها. هم أبعد ما يكون عن التفكير العلمي. ثم نطلب منهم أن يقوموا أو يقودوا الإصلاح الديني! طيب إزاي؟ كيف؟
كل الذي يطلبه أحمد عبده ماهر، ومن قبله البحيري، وغيرهما من المصلحين، هو تنقية كتب التراث وعلى رأسها صحيح البخاري من الشوائب واللامعقول.

وبدلا من مناقشة ما يقال، ومقارعة الحجة بالحجة والرأي بالرأي، يقوم رجال الأزهر بمهاجمة الشخص نفسه ولعن سلسفين جدوده، والمطالبة بسجنه أو قتله بسلاح التكفير.

الأزهر وشيخه، لا يصلحان للقيام بهذه المهمة. وده من الآخر. المفروض أن تشكل لجنة من كبار العلماء والفلاسفة والمفكرين والمؤرخين والكتاب والفنانين والشعراء والتربويين. تقوم بدراسة الوضع جيدا بعيدا عن الأهداف السياسية.

ثم تقوم هذه اللجنة بوضع توصيات للإصلاح الديني وتنقية التراث. هذه التوصيات، يجب تفرض على الأزهر والحكومة والجميع. لأن هذا هو الأمل الوحيد في قيام إصلاح ديني حقيقي، قبل أن تغرق المركب ونغرق معها جميعا في فكر أشد تخلفا وانحطاطا.

الأفكار مثل النظريات العلمية، أو مثل الحياة نفسها على سطح الأرض، تتبع قوانين التطور. الحياة أثمن وأعز من أن تعطى لغير القادر عليها. لذلك نقول إن حماية السلطة بجميع أنواعها لرأي معين، وفرضه ومنع مناقشته عن طريق الأحكام الجائرة والإرهاب الفكري، يضعف هذا الرأي، ويضعف معه قدرتنا على كشف الحقائق. قل لي بالله عليك، كيف نعرف الحقيقة، إذا كممنا الأفواه؟ سوف تصبح الدنيا ضلمة خالص.

النظر إلى الحقيقة من جانب واحد، ليس رؤية بالمرة. إنما مجرد سراب أو انطباع أو وجهة نظر أو أحلام وتمنيات. لأن الحقيقة لها عدة وجوه. من لم ير جوانبها المختلفة، كمن لم يرها مطلقا.

هل ثورة 52 المصرية كانت ضرورية؟ الإجابة الصحيحة لهذا السؤال، لن تأتي إلا إذا كانت هناك حرية رأي، حتى نرى الصورة كاملة. الحقيقة، مثل طائر الفنيق، الذي يحترق لكي يولد من جديد أقوى وأجمل. فهي تنبع من لهيب الصراعات وتصادم الأضداد.

القصة التالية توضح ذلك:

كان فيه زمان ستة عميان من هندستان. قرروا أن يدبوا في الأرض، بالطول والعرض. ليفتحوا الغالق ويكتشفوا المجهول، وينالوا من الحكمة ما يشبع العقول. ناس تبحث عن الحقيقة بالرغم من عاهتهم وعدم قدرتهم على الإبصار.

بعد عدة خطوات على الطريق الوعر، وجدوا أنفسهم أمام فيل عتيق يسد الطريق. قرروا أن يبدأوا عملهم المجيد، بدراسة هذا الوضع الجديد، ومعرفة الأمر بالتأكيد. بالطبع لم يروا الفيل، ولكن ربما شعروا بوجوده.

اقترب أولهم ووضع يده على بطن الفيل الجبار. وعاد مسرعا قائلا يا إخوتي ما هذا إلا جدار. الجدار العازل في فلسطين أو حائط برلين، يمنعهم من مواصلة المسير، والتقدم.

جاء الثاني في حذر من الأمام. لمس ناب الفيل بالإبهام، وقال يا سادتي هذا رمح كبير، لا يحمله إلا ذو شأن خطير. نحن الآن أمام جيش عرمرم، شاهرا سلاحه ومستعدا للقتال.

تقدم الثالث ببطء. تحسس من الفيل الخرطوم، ليطلق صرخة تتجمع لها الغيوم، ويخبر باقي الهندستان، أن الكائن هو الثعبان. لا يا رفاقي، نحن في عمق الغابة المظلمة، وأنا لمست أخطر حيواناتها.

تقدم الرابع ووضع يده على ساق الفيل في جرأة، ليعلن على الملأ أن المخلوق هو الشجرة. أبدا، لا زلنا في الطريق، وها أنا ذا ألمس أحد أشجاره، فواصلوا المسير.

أما الخامس فتحسس أذن الفيل بحنان. ليقول، يا قوم، إنها مروحة يحملها الصبيان. لا، نحن في الشارع وسط صبيان تلعب، أحدهم يحمل مروحة.

ويأتي الأخير ليشد الكائن من ذيله المنحول. ويعلن، يا رفاقي: هذا حبل مجدول. لقد وجدتها، إنه حبل مثبت من نهايته.

الفيل هنا يمثل الحقيقة التي نبحث عنها جميعا، ويعتقد عمي هندستان أنهم قد توصلوا إليها، كل بطريقته المختلفة. هذه القصة تمثل محنة المعرفة البشرية بأثرها.

كل منا يعتقد أنه يعرف الحقيقة كلها. لأنه قرأ كتاب تفسير أو تخصص في فرع معين من العلوم أو الآداب وتعمق فيه. الواقع هذا التعمق والتخصص يبعدنا عن الحقيقة أكثر وأكثر. ويجعلنا نرى الفيل ثعبانا أو شجرة، وما هو بثعبان أو بشجرة.

ماذا يحدث لو حاول كل واحد من عمي هندستان التمسك برأيه على أنه الصواب والحق المبين المبني على التجربة والحس الصادق؟ ماذا يحدث لو رفض كل منهم الإصغاء تماما لكل ما يقوله الآخرون؟

ألا يقود هذا إلى ضياع الحقيقة. وماذا يكون عليه الحال، لو فرض أقواهم باعا وأعلاهم صوتا، رأيه على الآخرين بالقوة وبالإرهاب الفكري، وهدد وتوعد كل من يقر بأن الفيل يختلف عن الحبل المجدول.

إننا عندما نبني الحواجز، ونقيم القضايا، ونستخدم التهديد والإرهاب، لإسكات الرأي الآخر، نكون قد فقدنا القدرة على التعلم والتقدم والازدهار إلى الأبد.

إعصار الإرهاب الفكري يطغي على المنطقة دون رحمة أو هوادة. لقد وصلنا إلى ما وصلت إليه أوروبا في العصور المظلمة، بل أدنى وضعا وأشد نكأ وأسوأ حالا. الفرق بيننا وبين أوروبا هو أنها استطاعت أن تنجو وتهرب من هذا الوباء وجائحة التخلف، وأقرت حرية الرأي والعقيدة كحق من حقوق الإنسان الطبيعية.

يا سادة، التقدم له أسبابه. والتخلف لا يأتي من فراغ. إذا لم نراجع أنفسنا ونعيد حساباتنا، سوف نضيع. وقد ضاعت أمم قبلنا كثيرة حين اختلط عليها الأمر، وحجبت الرأي، وحاربت العقل. فلم تعد تستطيع أن تفرق بين الخطأ والصواب، أو بين الظلم والعدل.

لا يجب أن نهاب الحقيقة، فالحقيقة صديقة، والصدق منجي. والدول التي تبنى على الكذب والرياء، عمرها قصير، وتخلفها أكيد، ومصيبتها كبيرة.

عندما يقول قائل بأن كتبنا الدينية بها عوار، فيجب أن أبحث الأمر بجد، وأكافئه بقدر اجتهاده، وأشد على يديه إن تبين صوابه. لا أن ألقيه في غيابات الجب مثل سارق المعيز من الغيط، أو حرامي الغسيل من البيت.


ملحوظة: كتابي الجديد بعنوان "قصة تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية"، يمكن تنزيله بالمجان من هذا الموقع:
https://archive.org/details/20211118_202111/mode/2up

باقي كتبي يمكن تنزيلها من هذا الموقع:
https://archive.org/details/@zakariael








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لكم الشكر في الدعوة للخير
عبد العزيز فرج عزو ( 2021 / 11 / 20 - 00:23 )
بارك الله تعالي فيكم وجزاكم كل خير في الدفاع عن المستشار احمد عبده ماهر الباحث والمعلم الكبير الداعي الي فضيلة التسامح والمواطنة وقضية تنقية كتب التراث المخالفة لروح القرن الكريم فلكم الشكر علي كلمتكم في الدعوة لايقاف هذا الحكم ونحن معك ونناشد الرئيس السيسي في
التدخل لرفع هذا الحكم عن المستشار احمد عبده ماهر وبالله التوفيق


2 - مقاله علميه راقيهيناقش فيها بلغة ساحره ومنطق اخاذ
الدكتور صادق الكحلاوي ( 2021 / 11 / 20 - 03:56 )
كيف علينا الخروج من قمقم طلمات الماضي البربري المتوحش الذي لم يكن له مثيل في مصر الفرعونيه ولا في بلاد الرافدين السومريه -ايها الناس ان اسلام الوحوش البدو البدائيين هدم حضاراتنا واعادنا الى حياة اشباه البشر قبل انفصالهم عن حياة الحيوان فبدل ان نلعن هذا الدين الذي اعادنا للحيوانية جعلنا منه دينا ودوله ومفسرا لكل شئ حتى اصبحت شعوبنا في القرن 21 عنوانا للفقر والجهل والمرض-تحياتي وشكري الجزيل للزميل العزيز الاستاذ زكريا على تحفته الجديده التي فيها كل الحكمة والجمال-تحياتي


3 - إإلى العزيز عبد العزيز فرج عزو
محمد زكريا توفيق ( 2021 / 11 / 20 - 08:45 )
شكرا أخي العزيز لتعقيبك الكريم


4 - إلى الدكتور صادق الكحلاوي
محمد زكريا توفيق ( 2021 / 11 / 20 - 08:48 )
مرحبا بك دكتور صادق، هذا أقل ما يجب للدفاع عن حرية الرأي، وعن المظلومين في بلادنا المنكوبة.


5 - المريض بحاجة الى طبيب
وسام صباح ( 2021 / 11 / 21 - 11:25 )
زميلنا العزيز الاستاذ محمد زكريا
المريض لا يعالج نفسه بنفسه. فالاصلاح الذي يطالب به السيسي لا يمكن ان يخرج من مشيخة الازهر و مدارسها المبتلية بمرض التخلف و الجعل و عبادة الكتب الصفراء التي مضى عليها اكثر من الف سنة .
الاصلاح كما اشرت بالمقال يجب ان يتم من خارج هذه المؤسسة المريضة ، ولابد من منع تكوين دولة داخل الدولة الرسمية .و يعاد تعيين شيخ الازهر بموافقة مجلس الشعب ومصادقة رئيس الجمهورية وباختيار مثقفي الشعب .
نطالب السيسي بالغاء حكم المحكمة الاخوانية الازهرية الجائر والغاء قانون ازدراء الاديان السيف
المسلط على رقاب المتنورين


6 - إلى العزيز وسام صباح
محمد زكريا توفيق ( 2021 / 11 / 21 - 15:38 )
شكرا لمرورك الكريم. أنا معك تماما. الأزهر لا أمل فيه، وأصبح عبئا ثقيلا يقف في طريق التقدم.

اخر الافلام

.. طلاب يهود في جامعة كولومبيا ينفون تعرضهم لمضايقات من المحتجي


.. كاتدرائية واشنطن تكرم عمال الإغاثة السبعة القتلى من منظمة ال




.. محللون إسرائيليون: العصر الذهبي ليهود الولايات المتحدة الأمر


.. تعليق ساخر من باسم يوسف على تظاهرات الطلاب الغاضبة في الولاي




.. إسرائيل تقرر إدخال 70 ألف عامل فلسطيني عبر مرحلتين بعد عيد ا