الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المعتقدات الدينية والمجتمع العراقي القديم ... القسم الثاني

حامد خيري الحيدر

2021 / 11 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


المعبد :
يُعتبر ظهور المعبد بمثابة انتقالة وطفرة كبيرة في تطور المعتقدات الدينية لدى المجتمع العراقي القديم، حيث اصبح بمثابة مؤسسة تدير وتنظم وتوحد الأفكار الدينية بشقيها الفكري أو الاعتقادي، وذلك بتوجيه عقول الناس نحو توجه ديني مُحدّد الاطار واضح المعالم، وطقوسي أجرائي، مُتمثلاً بالشعائر والمراسيم المترجمة لتلك المعتقدات، بعد أن كانت مُجرّد مُمارسات عشوائية عامة تُمارس بشكلٍ عفوي وشخصي من قبل الناس، كل حسب غايته وأدراكه ودرجة تفكيره ومستواه الاقتصادي، مما ساعد على أنتشار تلك المعتقدات، ثم نضوجها ورسوخها تدريجياً بين الناس تبعاً للمتغيرات الحاصلة في حياتهم.
ويُمكننا أن نحدد فترة العصر الحجري المعدني في مطلع الألف الخامس قبل الميلاد، بأنها كانت الفترة التي ظهرت فيها البدايات الأولى للمعابد، حيث كشفت التنقيبات الأثرية في المواقع التي تعود لهذا العصر في شمال وادي الرافدين، وتحديداً تلك العائدة الى الدور التاريخي المعروف باسم "حَلف"، ومنها موقع مستوطن "الأربجية" الزراعي أو كما يُسمى محلياً "تبة رشوة" شمال شرق الموصل، عن أبنية دائرية كبيرة مبنية بالطين "الطوف" على أسس من الحجارة، اقطارها بحدود سبعة أمتار لها مدخل بهيئة رواق طويل، مما جعل شكل هذه الأبنية مشابهاً لبيوت سكان الأسكيمو الثلجية، عُرفت بين الباحثين باسم "ثولو"، تم العثور داخلها على العديد من الدمى الصغيرة المختلفة الأشكال، مَعمولة من الطين أو الحجر، كانت موضوعة بشكل مُرَتّب ومُنَظم على دِكاك من الطين والى جانبها بقايا عظام حيوانات وآثار رماد، مما يُشير الى أن هذه الأبنية كانت في الغالب تُمثل مزارات مُخصصة للتعبد، من خلال تقديم القرابين والنذور لمَعبودات خاصة اعتنق سكان المستوطن فكرة الأيمان بوجود تأثيرها ضمن حياتهم، كما وجدت إشارات أخرى أيضاً في هذا الموقع الى تشابه هذه الممارسات الطقوسية، مع أخرى كانت تُمارس وفق نفس الأسلوب تقريباً في موقع "تل الصوان" الذي سبق الإشارة إليه.
ثم شهدت الفترات التاريخية اللاحقة التي أعقبت انتقال الشعب السومري للاستيطان من المناطق الشمالية والشرقية لوادي الرافدين الى سهله الجنوبي، في مطلع الألف الخامس قبل الميلاد عند الدور الحضاري المعروف باسم "العبيد" ضمن فترة العصر الحجري المعدني، تبلور الفكر الديني بشكل كبير، أدى الى تطور وانتشار ملحوظ في بناء وتشييد المعابد، وكذلك تَغيّر جوهري في تصاميم بنائها حتى أخذت شكلها العام الذي أستمر طيلة الفترات التاريخية اللاحقة، والذي يَتميّز باحتوائه على خلوة الإله ودكة القرابين والفناء الوسطي وموقع المدخل الرئيسي المواجه لخلوة الإله، وأيضاً أتجاه زواياه الى الجهات الرئيسية الأربعة، بالإضافة الى تصميم جوانبه الخارجية بأسلوب الطلعات والدخلات، علماً أن بعض هذه المَيّزات المعمارية موروثة بالأساس من أسلوب تشييد البيوت الطينية الأولى خلال الدور الحضاري المعروف باسم "حَسونة" من الألف السادس قبل الميلاد، والعائد الى العصر الحجري الحديث، حيث شُيّدت البيوت في تلك الفترة بشكل مجموعة حجرات تطل على فناء مكشوف، وتُعد هذه الحالة أحد القرائن الهامة، التي تُشير الى أن أصول شعب سومر تعود الى الأقسام الشمالية من وادي الرافدين، حيث أنتقل الى الجنوب جالباً معه الكثير من ثقافاته ومنها أساليبه التي أعتمدها في طرز البناء.
وكان أقدم معبد مكتشف تتجسد فيه هذه الخصائص والمَزايا المعمارية الجديدة بشكل واضح، ذاك الذي تم الكشف عنه في الطبقة السادسة عشرة من مدينة "أريدو"، أولى المدن التي شُيّدت في جنوب وادي الرافدين، وكان مجرد حجرة بسيطة مربعة الشكل لا تزيد مساحتها عن بضعة أمتار مربعة، مٌشيدة بالِلبن على دكة قليلة الارتفاع، لها مدخل صغير في ضلعها الجنوبي الشرقي، تقابله مباشرة في الضلع الشمالي الغربي خلوة للإله تحوي على دكة صغيرة للقرابين، ثم ليحدث التطور الهام في بناء المعابد عند عصر "الوركاء" في منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، حيث ظهرت البدايات الأولى لتشييد المعابد العالية التي عُرفت بـ"الزقورات"، ويَتمثل هذا الأسلوب البنائي الجديد ببناء المعابد على دكاك عالية من الِلبن يَتم تغليفها بالطابوق، ويَتم الارتقاء إليها من خلال سُلم مُدرّج واحد أو عدة سلالم مُدرّجة في جوانبها، ومن أقدم وأبرز الأمثلة على هذا الأسلوب البنائي الجديد، المعبد المعروف باسم "المعبد الأبيض"، الذي شُيّد في مدينة "الوركاء" وخصّص لعبادة وتقديس إله السماء "آنو".
ومن المُرجح أن الغاية من هذا التصميم الجديد، هو لحماية المعابد من أخطار الفيضانات المنتشرة آنذاك في جنوب وادي الرافدين، والتي كانت تُشكل خطراً كبيراً على المدن، ثم أضفيّ على شكلها وتصميمها نوع من الصبغة الدينية الفلسفية، التي صَوَّرتها بأنها تُمثّل السُلم الذي يَنزل ويَرتقي من خلاله الإله بين السماء والأرض، وهذا ما يُستَشف من الاسم الرمزي الذي أطلق علها بالسومرية وهو "أي تيمن آن كي" ومعناه "معبد طرفاه الأرض والسماء"، ومن الآراء الهامة الأخرى والجديرة بالاهتمام في تعليل الغرض أو الغاية من تَشييد المعابد بهذا الأسلوب، هو من أجل أجراء شعيرة "الزواج المقدس" في معبدها العلوي، حتي تكون بمنأى عن عيون وآذان عموم الناس، وهذا مأ أورده المؤرخ اليوناني "هيرودوت" الذي عاش خلال القرن الخامس قبل الميلاد في تاريخه الكبير، وما يُعزّز هذا الرأي هو أن بداية تشييد هذه المعابد كانت في مدينة "أوروك" التي بدأت منها هذه الممارسة الطقوسية الرمزية الهامة.
ومع تطور الفكر الديني مع تعاقب الأدوار التاريخية اللاحقة تطورت الزقورات بأسلوب بنائها وعدد طبقاتها الى ثلاث كما في زقورة مدينة "أور"، ثم الى خمس حَسبما يُعتقد كما هو الحال في زقورة مدينة "دوركوريكالزو"/"عقرقوف" العائدة لفترة الحكم "الكشّي"، وصولاً الى شكل وتصميم الزقورة النموذجي بطبقاته السبع الذي أعتمد في الزقورات الآشورية عند الألف الأول قبل الميلاد، ثم زقورة مدينة بابل التي تم تشييدها خلال القرن السادس قبل الميلاد.
من جانب آخر فقد أدى أنشاء المعبد الى الحاجة للشخص القائم والمُنظم والمدير لهذه المؤسسة، فظهرت نتيجة ذلك وظيفة "السادن" أو "الكاهن"، الذي كان يؤدي دوره على الأرجح في البدايات المبكرة لتأسيس مجتمعات المدن زعيمها القبلي، حيث كانت في بداية تحولها من نظام القبيلة الى الحياة المدنية، مُتولياً هذا الزعيم سلطتين على أبناء جلدته هما الدينية والمدنية، وكان يُطلق عليه بالسومرية "أين" وتعني بالسومرية "السيد"، علماً أن هذه الكلمة لازالت مُتداولة حتى وقتنا الحاضر وتطلق على الأشخاص كبار المنزلة (عين من الأعيان)، لتمثل هذه الحالة البدايات الأولى لارتباط الدين بالسلطة السياسية في وادي الرافدين، حيث تم الإيحاء من قبل الثلة المحيطة بذلك الزعيم الكاهن ذو العائدية الموروثة من المجتمع الزراعي السابق، والتي أسّست نواة المؤسسة الدينية اللاحقة، بأنه يُمثل الصلة أو الواسطة الروحية بين الأنسان والإله، لتنبثق من هذه الفكرة فرضية "التفويض الإلهي" الذي منحته الآلهة للزعامات المجتمعية في حكم وإدارة شؤون البشر، والتي جَرى تَرسّيخها بشكل مطلق في المعتقدات الرافدينية، وخاصة لدى الطبقة الحاكمة طيلة الحقب التاريخية، حيث ظل هؤلاء الحكام يحتفظون بمكانتهم الدينية بدرجات متفاوتة إضافة لسلطتهم الدنيوية، حتى بعد انفصال هاتين السلطتين كلياً.
ومن الإشارات الواضحة الى تلك البدايات السلطوية ذات الصبغة الدينية، هو إداء أولئك الحكام لشعيرة "الزواج المقدس" التي تعود أقدم الدلائل الأثرية لممارستها الى عصر "الوركاء"، والمتمثل بالإناء النذري الذي أكتشف في هذه المدينة، وعليه نقوش تُبيّن تفاصيل هذه الفعالية التي استمرت ممارستها طيلة الأدوار التاريخية اللاحقة، والتي تُمثل في حقيقتها المحاكاة الطبيعية لعملية الخصب التي كانت تُمارس في الفترات التاريخية السابقة، من خلال أجراء أحد أشكال "السحر التشابهي"، ثم أخذت تُنظم بشكل دوري واسع كل عام مع حلول فصل الربيع عند الأول من شهر نيسان، ضمن أعياد رأس السنة الجديدة، حيث يتم خلالها زواج الملك من الكاهنة الكبرى "الأينتو" من أجل جلب الرزق وإحلال النماء في الأرض.
من جانب آخر فقد كان تشييد وترميم المعابد بالنسبة لملوك وأمراء وادي الرافدين، حالة مقدسة لا يُضاهيها شيء آخر، وتُعتبر من المفاخر التي يتباهون بها والأعمال الجليلة التي يتبجحون بإنجازها في مدوناتهم وحولياتهم، لغرض التقرّب من الآلهة وكسب ودّها، كي تقوم هي بدورها بتعزيز وتقوية سلطتهم، وتزيد من استقرار مدنهم ومناطق نفوذهم، حيث ذكرت الكتابات الرسمية الشيء الكثير في هذا الجانب، كما أظهرت الأعمال الفنية من مَسّلات وتماثيل العديد من أولئك الحكام، وهم يحملون على رؤوسهم سَلة الرمل التي تستخدم في البناء، دلالة على مشاركتهم في تشييد المعابد أو تجديدها، باعتباره عملاً استثنائياً يتشرفون بدعمه والمساهمة به.
وكان المعبد في العراق القديم إضافة الى كونه مؤسسة دينية بالدرجة الأساس، إلا أنه كان يحمل بذات الوقت طابع ثقافي وسياسي واقتصادي، كما كان له دور رئيسي في إدارة شؤون المدينة وتنظيم اقتصادياتها، ونتيجة لذلك فقد تم التوصل داخل أروقتها الى العديد من الابتكارات الحضارية أملتها الحاجة المُلحة لمواكبة التطورات الحاصلة في البلاد، والتي توّجت فيما بعد بابتكار أقدم وسيلة للتدوين في التاريخ، والمعروفة بـ"الكتابة المسمارية"، والتي تمّت في معابد مدينة الوركاء، وذلك عند منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، ليكون ذلك إنعطافة كبيرة في تاريخ الانسانية، كان الغرض منها تدوين الواردات الاقتصادية، وقد ظهرت نتائج هذا الابتكار واضحة في عصر دويلات المدن السومرية في مطلع الألف الثالث قبل الميلاد، عندما أصبح التدوين يُعبّر عن افكار الناس وطبيعة حياتهم، فكتبت الكثير من النصوص التي ألقت الضوء على واقع المجتمع الرافديني، وتطور معتقداته الدينية التي أستمرت بإطارها العام حتى آخر عهوده التاريخية، خاصة بعد أن أصبح المعبد السَند القوي والداعم الرئيسي للسلطة السياسية الحاكمة، التي أصبحت تعتمد على المعتقدات الدينية في تثبيت سلطة الملك أو الأمير ونظامه الحاكم.
ومع تطور الحياة الدينية في وادي الرافدين وتشعب وتعدد مهام وظائف المعبد، خاصة بعد ازدياد رفاهيته وبحبوحته الاقتصادية، أثر سيطرته على المساحات الزراعية الواسعة، ثم التقلص التدريجي لحجم شكل النظام الاقتصادي السابق القائم على مبداً التعاونيات الزراعية العائلية، الذي كان يُمثل بدايات التطبيق الاشتراكي لوسائل الانتاج في وادي الرافدين أملته العائدية القبلية للمزارعين، والذي تم الأخذ به من قبل المستوطنين الجدد (شعب سومر) مع بداية سكناهم عند حافات الأهوار في السهل الرسوبي، والاتجاه شيئاَ فشيئاً نحو النظام الاقطاعي، الذي اعتمده المعبد تماشياً مع مصلحة الطبقة السياسية التي كان يمثلها كبار الكهنة وفق الوفرة الاقتصادية التي أنتجتها الأرض، وأيضاً تملكه للكثير من المشاريع التجارية والحرفية، مثل الحوانيت والمشاغل ودكاكين الصيرفة بالإضافة الى الحانات ودور البغاء، ليغدو المعبد أثر ذلك سلطة قوية للغاية تضاهي وتنافس السلطة السياسية الحاكمة، لذلك فقد تطلب أن تدير كل هذا مؤسسة قوية ومتكاملة، وعلى درجة كبيرة جداً من التنظيم، لها هيكلها الاداري المتسلسل الذي يتولى إدارتها والأشراف على أمورها العامة من دينية واقتصادية، تحوي العديد من الكهنة الذين كانوا بدرجات وأصناف عدة، وقد ظهر هؤلاء في المنحوتات المدورة والبارزة بهيئات مُميزة، حيث بَدو حفاة الأقدام حليقي الرأس والوجه، عراة الصدور يَتزرون بمِأزر مُشرشَب يُحيط نصفهم الأسفل، وأحياناً يكونوا عراة بالكامل، يعقدون أذرعهم نحو بطونهم، وكان من أهمهم..
""أين" الكاهن الأكبر الجامع بين السلطتين الدينية والسياسية.. "سانكَا" الكاهن الاداري الأعلى.. "أوريكالو" كاهن القدّاس والمراسيم الدينية.. "مشمشو" الكاهن الذي يبارك بالزيت والعطور.. "أشيبو" الكاهن المٌعزّم وطارد الأرواح الشريرة.. "باشيشو" الكاهن المسؤول عن تقديم النذور والقرابين.. "بارو" الكاهن العراف.. "شائيلو" الكاهن قارئ ومفسر الأحلام.. "نارو" مُنشد تراتيل الأفراح.. "كَالو".. مُنشد تراتيل الرثاء والمآتم.
كما كان هناك أيضاً اًصناف من النساء الكاهنات اللواتي كان لهن دور كبير وهام في مؤسسة المعبد، والذي تأتى دورهن بالأساس من بدايات المعتقدات الدينية المبكرة للقرى الزراعية الأولى، ومكانة المرأة المقدسة آنذاك مع بدايات التصور الفكري للمعتقدات الدينية، ودورها المباشر في عملية الإنبات الزراعي وكذلك الولادة وتكريس النَماء، ومن أصنافهن..
"أينتو" الكاهنة الكبرى.. "ناديتو" الكاهنة التي كانت تُنذر من قبل عائلتها لخدمة المعبد.. "قاديشو" الكاهنة التي تناط بها وظيفة أعداد النذور والقرابين.. "كيزيرتو" الكاهنة المسؤولة عن تماثيل الآلهة.. "شوكيتو" الكاهنة التي تشرف على أعداد مراسيم شعيرة "الزواج المقدس".
ومن الأمور التي تولى المعبد إدارتها وتنظيم ممارستها، في حالة تلفت النظر وتستحق التوقف عندها في وادي الرافدين هي ظاهرة البغاء، التي عُرفت باسم "البغاء المقدس"، وكان ذلك منذ فترة مبكرة من تاريخ وادي الرافدين وتحديداً مع عصر "الوركاء"، أي مع نشأة المدن وثبات سيطرتها السياسية، وقد توضحّت بشكل أكبر مع بداية جلب العبيد من المناطق البعيدة، لغرض العمل في الأراضي الزراعية وكذلك الخدمة في المعابد وبيوت الطبقة السياسية الناشئة، التي اخذ الثراء طريقه إليها شيئاً فشيئاً، حيث تتطرق المصادر المسمارية عن أجنحة خاصة وأحياناً بيوت، ترفق بالمعابد تًسمى بالسومرية "كَاكَو"، كانت يتم فيها ترويج وممارسة هذه الظاهرة لكِلا الجنسين (المومسات والمُخنثين)، اختلف الباحثون في هويتهم، وهل كانوا يمثلون أصناف خاصة من الكاهنات والكهنة أم أنهم من العامة والعبيد، ويَميل الأغلبية منهم الى ترجيح الرأي الأول، كما كان يُشرف على هذه الأماكن ويُدير العمل فيها، مجموعة خاصة من الكهنة أيضاً، يُشترط أن يكونوا من المَخصيين، يُسَمَون بالسومرية "أسينو" أو "كوركارو". ومن بغايا المعابد اللواتي نلّن شهرة خاصة، البغي "شمخة" التي وَردت في ملحمة "كَلكَامش"، حيث تم أرسالها الى "أنكيدو" من أجل إغوائه وجعله يترك حياة البراري ويذهب للعيش في مدينة "أوروك".
وفق ذلك فقد أخذت هذه الظاهرة شرعيتها الدينية بعد أن أضفيت عليها شيئاً من الصبغة العقائدية، من خلال ربطها بممارسة "الزواج المقدس" السابقة الذكر، وبالتالي حصولها الى الحصانة المجتمعية، لذلك لم يكن ينظر الى متعاطي هذه المُمارسة بالازدراء أو الاحتقار من قبل عموم الناس، بعكس ما إذا تم تعاطيها خارج حصانة المعبد، ثم لتغدو من الظواهر الشائعة والمألوفة في المجتمع العراقي القديم، ومع مرور الزمن حصلت على شكلها القانوني أيضاً، بعد أن أجازتها ونظمت عملها السلطات الحاكمة والقوانين المشرّعة، كون المعبد هو من يديرها باعتباره مؤسسة رسمية معلومة التوجه والغاية، من النواح الدعائية والاقتصادية والادارية، ويبدو من مراجعة النصوص الاقتصادية العائدة للمعابد لمختلف الفترات التاريخية، حقيقة الامر في ترويج هذه الظاهرة وهو سبب مادي بَحت، حيث يَرد فيها حجم الموارد المالية الكبيرة التي كانت تُجنى من هذا النشاط المُقنن، بعد أن يتم منح نسبة عالية منها طبعاً للسلطة السياسية الحاكمة.
وفي النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، أخذت سلطة المعبد السياسية المُستمدة قوتها الاقتصادية من نظام الأقطاع الذي كان سائداً خلال الفترات السابقة، يصيبها الضعف والتَمزّق إيذاناً بانحلالها نهائياً مع بديات ظهور الدولة الاستبدادية في وادي الرافدين، وذلك مع تأسيس الامبراطورية الأكدية 2371_2230ق.م، بسبب واقعها المتخلف المُستند الى وسائل عتيقة بالية في اخضاع عقلية الأنسان العراقي القديم، حيث لم تعد قادرة على مواكبة التطور الفكري الذي أخذ يَسود في المجتمع الرافديني، نتيجة التقدم التقني في وسائل الانتاج، وكذلك نتيجة التنامي المُضطرد لقوة السلطة السياسية المدنية، وسَيطرتها التدريجية على مقدرات الأمور في عُموم المدن والأقاليم الرافدينية، وكان من أكثر الأسباب التي أدت هذه النتيجة، هو اندلاع ثورة دويلة "لكَش" السومرية عام 2400ق.م واسقاطها للسلطة الدينية الاقطاعية الفاسدة القائمة هناك، بعد أن مارست لفترة طويلة من الزمن شَتى أنواع القهر والظلم بحق الفلاحين والشغيلة البُسطاء والطبقات الفقيرة المُعدمة من المجتمع، واقترفت بحقها الكثير من المساوئ فأبدلت الكثير من الاعراف الأخلاقية والاجتماعية السائدة بشكل يخدم مصالحها، ليصلوا بالناس الى أدنى درجات الفقر والفاقة، ثم ما أحدثته المُتغيرات اللاحقة بعد هذه الثورة من تَبدّل المَزاج الشعبي العام للمجتمع الرافديني تجاه السلطات الدينية.
ولإكمال الاجهاز على ما تبقى من قوة سلطة المعبد الدينية وبطريقة غاية في الخبث والذكاء معاً، أبتدع عدد من ملوك العراق القديم فكرة جديدة بل وغريبة على السياق العام للمعتقدات الدينية الرافدينية، ألا وهو ادعائهم الألوهية، وكان أبرز من سار بهذا الأسلوب الملك "نرام سين" 2291_2255 ق.م رابع ملوك الامبراطورية الأكدية 2371_2230ق.م، الذي ظهر في مسلته المعروفة باسم "مسلة النصر" ومنحوتات أخرى، مُرتدياً الخوذة المُقرّنة التي أقتصر اعتمارها على الآلهة دون غيرهم، كما أن أسمه كان يُكتب في النصوص الملكية مَسبوقاً بعلامة النجمة "دنكَر"/"أيلو" التي كانت توضع عادةً قبل أسماء الآلهة للدلالة عليها، وكذلك كان الحال مع الملك السومري "شولكَي" 2195_2047ق.م ثاني ملوك سلالة "أور الثالثة" 2113_2006 ق.م، الذي ظهر أسمه أيضاً في الكتابات الملكية مَسبوقاً بعلامة النجمة.
وكان الغرض من هذا التوجه الجديد لهؤلاء الملوك، هو سحب البساط من تحت أقدام السلطة الدينية، التي أدّعت ورَوّجت طيلة الحِقب التاريخية الماضية في أفكارها الدينية، بأن جميع أراضي البلاد هي مُلكاً صِرفاً للإله، وبالتالي لها كامل الحق بالتصرف بمواردها، كونها وكيلة عنه في إدارة ممتلكاته، لتنتقل تلك الاراضي وفق هذا الادعاء تلقائياً الى مُلكية السلطة السياسية المدنية مُمثلة بالملك (المُؤله)، ويمكن اعتبار هذه المناورة السياسية وما أنتجته بعد ذلك، البدايات الأولى لإجراءات التأميم الاقتصادي في التاريخ، لتدق السلطة السياسية الحاكمة بذلك آخر مسمار في نعش سلطة المعبد الاقتصادية، وتجريده من مصدر قوته وسطوته، علماً أن فكرة تأليه الملوك في وادي الرافدين لم تستمر في الفترات التاريخية اللاحقة بسبب عدم تَقبل الفكر الرافديني لها والامتعاض الشعبي منها، حيث أنها جاءت في وقتٍ مُحدد، من أجل غاية مُلحّة وسببٍ معين وفي ظرف سياسي خاص للغاية.
ونتيجة لذلك فأن المعبد ممثلاً بمؤسسته الكهنوتية بعد خسارته لامتيازاته القديمة وسلطته، المُستمدة قوتها من الاعتماد على الزراعة والارض بشكل رئيسي ويأسه الكامل من استردادها، ولغرض الحفاظ على كيانه وضمان جريان مصالحه وبقاء مكانته الاعتبارية، أصبح دوره تَملقياً انتهازياً من خلال دعمه الكامل للسلطة السياسية الحاكمة، مُغيّراً بذلك توجهاته وفق تقلّب موازين القوى والإرادات، مؤيداً هذه تارة ونابذاً تلك تارة أخرى حسب توافقها مع مصالحه، مُستعيناً بأسلوبه القديم البغيض بترويجه أفكاراً تصبّ في هذا الاتجاه، وبشكل خاص عند قمع الثورات والانتفاضات التي كانت تحدث في داخل بلاد وادي الرافدين ضد السلطة المركزية التي يحتمي بظلها، أو لقبر محاولات إرادات شعوب الاقاليم البعيدة المحتلة الطامحة بالانفصال والتحرر من استبداد تلك السلطة.
ثم لتغدوا المؤسسة الدينية مع حلول فترة العصر البابلي القديم 2006_1595ق.م والفترات التاريخية التي تلتها، السند القوي للسلطة الحاكمة، طالما كانت تلك السلطة ترعى مصالحها وتساهم في انتفاخها الاقتصادي، مما ساعد ذلك الملوك في زيادة سطوتهم على عموم الناس المُستضعفين، خاصة بعد تنامي طبقة التجار خلال هذه الفترة، وظهورها كقوة اقتصادية فاعلة ومؤثرة في المجتمع الرافديني، ليتشكّل من أجل ارتباط المصالح، ذلك الثالوث المُتماسك المُكوَّن من السلطة الحاكمة ومؤسسة المعبد وطبقة التجار (القوة+الدين+المال)، والذي غدا أداة قهر رهيبة ضد تطلعات الجماهير الطامحة بالكرامة ورخاء العيش، بسبب الفارق بين امكانيات المواطن البسيط وذلك التحالف المتنامي على حساب بؤس الناس.
تأثير المعتقدات الدينية :
أصبحت المعتقدات والأفكار الدينية في وادي الرافدين بعد الألف الثالث قبل الميلاد، واستقرار المجتمعات المدنية وتوسع مدنها في عصر دويلات المدن السومرية، من أهم العوامل المؤثرة في سير حياة شعب الرافدين وفي شكل وأسلوب تطور حضارته، وغدت تحدد الاطار العام لسلوكه، والخلفية المؤثرة في حياته الاجتماعية والاقتصادية، وتوجه عاداته وتقاليده وأعرافه وقوانينه التي شَرّعها فيما بعد. وكان تغلغل هذه الأفكار في حياة الناس قد تَجسّدت بشكل واضح في الآثار الفنية والأعمال الأدبية والمنشآت العمرانية التي خلفوها، فكانت تصاميم بيوت العامة وكذلك القصور فيها صبغة دينية من خلال مشابهتها لعمارة المعابد والمزارات، كما اصبحت كذلك المُلهمة والمُحفّزة للنحاتين والفنانين لإبراز أبداعهم الفني، من خلال تنفيذ أعمالهم الفنية التي جَسّدت الفكر الديني وتداخله بالواقع الاجتماعي لعموم الناس، عند أنجازهم منحوتات ورسوم تمثل الآلهة وأساطيرها وكذلك الكهنة المتعبدين والطقوس الدينية المتعلقة بها، مما أدى الى تطور المدارس الفنية التشكيلية بشكلٍ ملحوظ، من البدائية العشوائية الى التجريدية العفوية وصولاً الى الطبيعية الواقعية، وبما يتوافق مع رؤية الفن الخاصة التي أثبتت أسسها الأفكار الدينية.
ولعل من أشهر الأعمال الفنية النحتية التي تُعبّر عن ذلك التأثير المَسَلة الشهيرة التي تعرف بـ"مَسَلة النسور" التي تعود الى عصر دويلات المدن السومرية ونفذت بأسلوب النحت البارز، حين أقامها أمير دويلة "لكَش" "أيأناتم" بعد انتصاره على جيش دويلة "أوما"، وفيها يظهر إله المدينة "ننكَرسو" وهو يجمع جنود الأعداء في شبكة كبيرة كي يقدمهم طعاماً للنسور الجارحة، بدلالة رمزية على انتصار "لكش" بعد وقوف إلهها الى جانب جيشها، وهناك مثال مُهم آخر ألا وهو النحت البارز الذي يعلو مَسَلة القوانين التي شرعها الملك البابلي "حمورابي" 1792_1750ق.م، حيث يظهر الملك واقفاً بهيئة الخشوع وهو يتسلم صولجان القوة وحلقة القياس رمزا العدل، من الإله "شَمَش" مُلهم القوانين، ليبدوا أنه هو الذي أمره ودعاه للقيام بهذا العمل الكبير.
وفي الجانب الأدبي نجد المعتقدات الدينية تُكوّن العمود الفقري في بناء النصوص الأدبية، سواءً في الفكرة والمضمون أم في العبرة النهائية لتلك النصوص، وما ينطبق في العمارة والفنون والأدب نجده أيضاً في القوانين والعلوم وباقي الأمور الحياتية الأخرى، حيث يُذكر أن جميعها قد أتت بوحي من الآلهة ومشيئتها ووفق حاجتها ورغبتها، حيث انيطت مسؤولية كل جانب من حياة الناس بأحد الآلهة، فكان على سبيل المثال الإله "أوتو"/"شَمَش" إلهاً للقوانين، والإله "أينكي" إلهاً للطب، والإله "نابو" إلهاً للثقافة والعلوم، والإلهة "نيسابا" إلهة للمدارس والتعليم.
كما أثرت المعتقدات الدينية بشكل خاص وكبير في الجانب الفكري للإنسان الرافديني، مما أدى الى انعكاس ذلك التأثير على طبيعة عاداته وتقاليده ومُمارساته اليومية، بعد أن أوجد من خلالها تصورات خاصة لنفسه، صاغ منها واقعه المادي الذي يعيشه بشكل روحاني مؤثر، عبّر فيه عما يَحسّه ويشعر به من مَخاوف وهَواجس في الحياة وما بعدها، حين يحين أجله ويلتقي شبح الموت القاسي المخيف، وأيضاً ما كان يرغب به ويتمناه لرفاهية حياته، وكيفية ديمومتها.
ومن الأمثلة الواضحة في ذلك ما ترسخ في ذهنيته مع ممارسة "الزواج المقدس" التي سبق الإشارة إليها، حيث تصورها بشكل درامي يجمع نقيضي الوجود المتمثلين بالحياة والموت، وما يدور بينهما من أفراح وأحزان وما يتشبه بهما في حياة الأنسان من نقائض ومتعاكسات، كأنه فعل تراجيدي حدث في عالم الآلهة السماوي، تمثّل بقصة حُب مُعبّرة بين الإله "دوموزي"/"تُموز" والإلهة "أينانا"/"عشتار"، توّج بزواج وزفاف ميمون باركته الطبيعة يحدث عند فصل الربيع، تزامناً مع الاحتفال بـ"عيد الحصاد" الذي يُسمى بالسومرية عيد "زاموء" الأول أو عيد "زاكَمكَ"، (الذي عُرف فيما بعد باسم عيد "أكيتو")، حيث تخضر الأرض بسبب ذلك الزواج وترتدي حلتها اليانعة الجميلة بعد ما تناله من خير ورزق وفير، حينها تَعمّ الأفراح وتُمارس الفعاليات السعيدة بين عُموم الناس.
ثم لينتهي هذا الزواج بعد ستة أشهر بتلك المأساة الكبيرة المُتمثلة بموت "دوموزي" ونزوله الى العالم الأسفل ليبقى هناك ستة أشهر أخرى، أي عند الخريف بعد استذكار الناس لـ"عيد البذار" الذي يُسمى بالسومرية عيد "زاموء" الثاني، حيث يحل الركود والجمود في الأرض مع قدوم قرّ الشتاء القارس بأمطاره وزوابعه العنيفة، ليُمارس أبناء الرافدين مع هذه المناسبة شعائر الحداد والحُزن بما تتضمنه من طقوس خاصة، حيث يبدلون ملابسهم الملونة بالأثواب السوداء المُمزقة المُلطخة بالطين، مُقيمين مجالس المَناحات والعزاء كمداً وألماً على إلههم المحبوب، ولما سيصيب العالم جراء هذه الفاجعة، ثم ينهض "دوموزي" مرة أخرى عند الربيع ويموت ثانية في الخريف الذي يليه وهكذا، وبتعاقب الفصول وتوالي جدليتي الموت والحياة، تتغير النفس البشرية وفقها، حسب ما تكنّه من مشاعر وأحاسيس، لتغدو خليطاً غير متجانس أحاط بنفسية الأنسان العراقي القديم، أنعكس في سلوكه وتصرفاته اليومية بل وحتى في فنونه، حيث نرى غنائه الجميل المُعبّر مثلاً يحمل النقيضين، فنصفه شَجَن وأسى ونصفه الآخر طرَب ومَرَح.
المعتقدات الدينية والأفكار السياسية:
لعبت المعتقدات الدينية دوراً فاعلاً وكبيراً في نمو الأفكار والتطلعات السياسية منذ فترة مبكرة لنشأة حضارة وادي الرافدين، وذلك حين تم توظيفها لدعم المصالح والمَآرب السياسية، التي أخذت بالتعاظم لدى الطبقات المُترفة والمُسيطرة على مُجريات حياة المجتمع، خاصة بعد النمو الاقتصادي الكبير للمدن وتقسيم المجتمع الى طبقات اجتماعية واقتصادية متفاوتة المستوى، وذلك بعد أن صوَّر الفكر الديني بأن الآلهة قد خلقت البشر ليقوموا بدلاً عنها بأعمار وزراعة الأرض، واحلال النَمَاء فيها وخدمة مصالحها هناك، عندها اختارت أحدهم ليكون حاكماً على عامة الناس، يقودهم باسمها ويكون مُمثلاً ونائباً عنها في إدارة شؤونها على الأرض، لذلك فقد أصبح له حق وتخويل الهي في ذلك، باعتباره مُعيّن من قبل الآلهة، وبالتالي فأن جميع الأوامر والقرارات والتشريعات التي يُصدرها ذلك الحاكم تكون واجبة التنفيذ لأنها تمّت بوحي وإلهام من الآلهة.
لذلك كان حكام وادي الرافدين من ملوك وأمراء، وخاصة أولئك الذين يصلون الى الحكم عن طريق المؤامرات والانقلابات العسكرية، يذكرون في كتاباتهم بأن الآلهة قد أحبتهم من دون الناس، وأن كانوا سابقاً من المهمشين أو من أصول وضيعة، فباركت توليهم حكم الرعية كي يلبوا مطالبها ويخدموا مصالحها في الأرض نيابة عنها. ومن أمثلة ذلك ما كتبه الملك "سرجون الأكدي" 2371_ 2316ق.م.. (أنا سرجون الملك العظيم، ملك "أكد"، كانت أمي كاهنة المعبد، ولم يتسنى لي أن أعرف من هو أبي، حيث حملت بي أمي سراً، وبعد أن أنجبتني أخفتني داخل سلة ورمتني في النهر.... وبينما كنت أعمل بستانياً، أحبتني الآلهة عشتار فوهبتني الملوكية، لأتولى حكم ذوي الرؤوس السود "أي السومريين").
أن مثل هذه الأفكار التي رَوَّجت لها المؤسسة الدينية مُمثلة بالمعبد منذ فترة مبكرة من تاريخ وادي الرافدين، كان لها طابعاً سياسياً مُبطناً رغم أطارها الفلسفي الديني، والتي اعتبرت خطاً أحمر لا يجوز المساس به، كونه قدراً مفروغاً منه فرضته الآلهة على بني البشر، لغايات في دواخلها يصعب على البشر أدراكها، كما يتضح ذلك في معظم التراتيل الدينية.. (أن حكمة الآلهة مثل البحر العميق لا يمكن سِبر أغواره)، إلا أنها في الحقيقة تخفي بين ثناياها أغراضاً سياسية واضحة سَعَت اليها منذ البدء الزعامات الدينية القبلية التي تولت تسيّير الشؤون العامة للتجمعات القروية البدائية، ثم عند إدارتها المدن الأولى في بداية نشأتها لتطبعها بطابع ديني متزّمت، من أجل السيطرة على مجتمعاتهم الصغيرة والحَدّ من تطلعاتها الانسانية، واخضاعها لإرادات وأغراض خاصة تصّب في نهاية المطاف لصالحها، عن طريق احتواء عقول الناس وتكتيفها بقيدها الفكري، بعد أن أُضفيَّ على هذا الدهاء السياسي صبغة دينية.
وهنا تجلت عظمة الشعب الرافديني في اعلانه أولى الثورات الفكرية في تاريخ البشرية، والتي تجلت برفضه تلك المفاهيم السائدة التي فُرضت قسراً عليه، ومحاولاته التحرر من ذلك الاحتكار الفكري الذي استحوذت المؤسسة الدينية عليه، وجعلته في مَنأى عن عقول عُموم الناس، الذين أرادتهم أن يظلوّا متقوقعين ضمن أطارهم الضيق في مجتمعاتهم الزراعية وانتماءاتهم العائلية، خاصة بعد أن ثَبتت في ذهنية الانسان الرافديني القناعة التامة بأنه منذ الأزل، يُمثل عنصراً أساسياً فاعلاً في بناء الحياة وازدهارها وليس جزءاً مُكمّلاً أو ثانوياً لها، وذلك بعدم تقبله العديد من الأفكار التي أرادت المؤسسة الدينية تسويقها للمجتمع وترسيخها في عقول الناس، من أهمها رفضه المطلق لتأليه الملوك والتأكيد على عائديتهم الى الجنس البشري الذي كتب عيه الموت والفناء، واعتبارهم مُجرَد وكلاء عن الآلهة ليس إلا يحكمون باسمها فقط دون الوصول الى مرتبتها الخالدة، فاذا كان الموت مُقدَّراً على عموم البشر فهو كذلك مُحتَّم على الحكام أيضاً مهما بلغوا من قوة وجبروت.
بمعنى آخر أن الفكر العراقي القديم قد قطع الطريق أمام نوايا ومحاولات أولئك الحكام بالترّفع عن جنسهم الآدمي، من خلال اعلان خلودهم كونهم من الآلهة وليسوا من البشر الفانين، لتثبت تلك الفكرة وتغدو بديهية متوارثة في جميع الفترات التاريخية لوادي الرافدين، وهذا ما يُمكن استيضاحه بشكلٍ جَلي من طقوس ومراسيم عيد "أكيتو" الذي سبق ذكره، والذي يستمر لمدة أثني عشر يوماً، حيث تتم في اليوم الخامس منه المراسيم المعروفة باسم "إذلال الملك"، وفيها يخلع الملك شاراته الملكية وكذلك سيفه وصولجان حكمه، ويضعها أمام تمثال الإله القومي بحضور الكاهن الاكبر الذي يقوم بصفعه عدة مرات على وجهه كي يُذكرّه بطبيعته البشرية، ثم يَركع الملك ويُردد تراتيل الاعتراف بخضوعه للآلهة وأوامرها وتنفيذ أرادتها، وتعهده بإحلال النَماء في الأرض ونشر الخير والرفاهية بين الناس، عندها يسترجع شاراته وسيفه وصولجانه مُعلناً تجديد حكمه عاماً آخر.
وفي هذا الجانب يَبرز الدور الخلاّق للفكر الرافديني في تبرير التمرد والثورة وجوازهما على السلطة الحاكمة، بعد أن كان لها حقاً إلاهياً لا يجوز لاحد المساس به سوى الالهة نفسها، موجداً الشرعية الدينية في هذا، وذلك بإعطائها بُعداً إلهياً ألهمته الآلهة للناس، مانحاً إياها وضعاً دينياً مقدساً أسوة بسلطة الحكام المناطة بهم من قبل الآلهة، والمُتمثلة بإحلال الرَخاء والنمَاء في الأرض ورعاية مصالح المجتمع، ليكون بسلطته السياسية عنصر توازن بين رغبات الآلهة من جانب وحاجات عموم الناس من جانب آخر، فاذا ما أخّل هذا الطرف بواجباته وغدا لا يمثل ذلك الإحسان الإلهي المفترض، بل أخذ يمارس الجَور والظلم والقهر لمصلحته الخاصة، عندها يصبح فاقداً لتلك الشرعية المَمنوحة له من قبل الآلهة، وبالتالي يمكن أن تسترجعها منه، كونه في كل الأحوال مخلوقاً بشرياً مصيره الفناء، لذا يصح الخروج عن طاعته ومن ثم الاطاحة به عن طريق الثورة.
وقد تَرجم شعب الرافدين هذا الفكر التحرري السابق لعصره على أرض الواقع، بقيامه بالعديد من الثورات والانتفاضات ضد الأنظمة الحاكمة، كان أبرزها ثورة دويلة "لكَش" التي سبق الإشارة إليها، إضافة الى ثورات أخرى أدت نتائجها الى أضعاف كيانات تلك الأنظمة من الداخل بشكل كبير، مما أدى الى انهيارها سريعاً فيما بعد، من أهمها الثورة التي كادت تطيح بالملك "سرجون الأكدي"، والثورات العديدة التي اندلعت في أرجاء "امبراطورية أور الثالثة"، التي أدت تدريجياً الى انهيارها اقتصادياً ثم سقوطها السريع على يد العيلاميين عام 2006 ق.م، وثورة مدينة "ماري" ضد الملك "حمورابي" 1795_1750ق.م التي سَعت للاستقلال عن سلطته، وكذلك الثورة التي حدثت في القسم الجنوبي من أرض الرافدين المتاخم للخليج ومناطق الاهوار، التي قادها الثائر "أيلوما أيلو" عام 1740 ق.م، وأدت الى انفصال تلك المناطق عن الجسد البابلي، لتؤسس على إثرها سلالة جديدة عرفت باسم "القطر البحري" وبالسومرية "أورو كوكي"، بالإضافة الى الثورات العنيفة التي اندلعت ضد الامبراطوريات الكشّية والآشورية والبابلية الحديثة.
ومن التأثيرات الهامة جداً في توظيف الأفكار الدينية للأغراض والطموحات السياسية ظهور ما يُعرف بـ"الزعامة الإلهية"، وما أحدثه هذا التطور في الواقع السياسي لوادي الرافدين، وطبيعة تكون أنظمته الحاكمة، ويمكن فهم ذلك من خلال التمَعّن في صفات ومميزات الآلهة التي سبق ذكرها، لنجد أن فكرة "الزعامة الإلهية" كانت نتيجة منطقية لتطور الفكر الديني، خاصة بعد أن تم توظيف الدين لدعم المآرب والطموحات السياسية، حيث كان لكل مدينة كما سبق القول إله حامي مقدس من قبل سكانها، وأن صراعات المدن فيما بينها التي كان تشتعل بين الفينة والأخرى، بسبب الاستحواذ على مصادر المياه أو توسيع رقعة الأراضي الزراعية أو للسيطرة على الطرق التجارية ومناطق المواد الخام الأساسية، يتم تصويره وفق مبدأ "التشبيه" على أنه في الحقيقة صراع بين آلهتها الحامية في السماء، وفي حال غلبة مدينة على أخرى فهذا يعني أن إله المدينة المنتصرة قد أقصى إله الثانية عن مكانته، وكسب قوته وطاقته الالهية وحل محله في ترتيب أهميته الألوهية، وهكذا فأن أية مدينة كانت تفرد سيطرتها على بقية المدن الأخرى، يعني أن إلهها قد أنتصر على خصومه من الآلهة الأخرى وتولى زعامة مجلسها.
ويبدوا هذا واضحاً في أسطورة الخليقة البابلية "أينوما أيليش"، التي كتبت خلال القرن الثامن أو السابع عشر قبل الميلاد، أي بعد أن فرضت مدينة "بابل" سيطرتها على وادي الرافدين وضَمّت جميع مدنه تحت نفوذها، فكتبت هذه الأسطورة لتعظيم مدينة "بابل" من خلال تمجيد إلهها القومي "مردوخ" الذي اختير زعيماً لمجلس الآلهة بعد أن وهبته كل صفاتها وقوتها، من أجل قتال الإلهة "تيامات" ربّة الآلهة العتيقة، وقد صَوَّرت المنحوتات الإله "مردوخ" الذي يًرد في الكتابات المسمارية بصيغة "موشخوشو" أو "موشروشو"، بشكل مَخلوق مُركب غريب الشكل، له رأس تنين وقرون ثور ولسان ثعبان وحراشف سمكة وذنب عقرب واقدامه الخلفية أقدام نسر والأمامية أقدام أسد، والتي هي رموز لآلهة أخرى أضيفت الى هيئه "مردوخ" دلالة على اكتساب قوى بقية الآلهة وتفرده بالزعامة الإلهية.
ولتأكيد هذه الفرضية فقد أعيد كتابة الأسطورة البابلية بنفس تفاصيلها تقريباً بعد فترة من الزمن، لكن باسم الإله "آشور" هذه المرة، الذي تولى زعامة الآلهة وفرض إرادته عليها، وذلك حين انقلبت موازين القوى السياسية في وادي الرافدين وظهور مدينة "آشور" عاصمة الآشوريين كقوة عظمى في منطقة الشرق الأدنى القديم، فارضةً سيطرتها على معظم أرجاء تلك المنطقة. ليتوَّضح من ذلك أن فكرة "الزعامة الالهية" التي أوجدتها مؤسسة المعبد لدعم الطبقات الحاكمة، كانت لغرض سياسي بحت الغاية منه اعطاء الأهمية السياسية والاقتصادية لمدينة أو منطقة مُعينة على حساب المدن والمناطق الأخرى، من خلال رفع شأن إلهها القومي وتضخيم قوته، وبالتالي فأن سيطرة تلك المدينة على الأخريات قد تم وفق طابع مقدّس كونه حدث بوَحي من الآلهة وارادة مجلسها في السماء، ترجمه كما يُفترض بشكل واقعي بين الناس مُمثلو تلك الآلهة على الأرض من ملوك وأمراء.
وبالرغم من أن فكرة "الزعامة الالهية" التي يمكن اعتبارها البداية الأولى لشرّعنة الفكر الدكتاتوري في التاريخ، والذي غدا المبدأ الأساسي الذي ترسَّخ في ذهنية الطبقات الحاكمة في العراق القديم حتى آخر أدواره التاريخية، إلا أن المعتقدات الدينية بسبب التطور الفكري للشعب الرافديني، لم تذهب بعيداً لدرجة الإلغاء التام لبقية الآلهة، أي مباركة إقصاء باقي المدن عن الواقع السياسي في البلاد، رغم علوّ شأن وتَسيّد إله المدينة القوية الغالبة، بمعنى عدم تبّنيها ما يُعرف بمُعتقد "التفرد الإلهي"، رغم أنها كانت المُحّفز الرئيسي للوصول اليه في مناطق أخرى من الشرق الأدنى القديم ومنها وادي النيل، وذلك بسبب خشية الطبقات الحاكمة من زعزعة عروشها، عن طريق اندلاع الثورات وحركات التمرد ضدها، حيث أستمر حكام وادي الرافدين أسوة برعيتهم يُقدّسون الى جانب إلههم القومي الكبير بقية الآلهة الأخرى، مُبجلين إياها من خلال تقديم القرابين وإجراء أعمال الصيانة والترميم على معابدها ومزاراتها، التي ظلت محتفظة بقدسيتها ومكانتها الاعتبارية، وأن تذبذبت أهميتها وتقلص نفذوها من فترة لأخرى ومن منطقة لسواها حسب تقلب الأوضاع السياسية.

المصادر:
_ راجحة خضر عباس النعيمي ... الأعياد في حضارة بلاد وادي الرافدين ... دمشق 2011
_ طه باقر ... مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة/ الجزء الأول ... بغداد 1973
_ طه باقر ... مقدمة في أدب العراق القديم ... بغداد 1976
_ طه باقر ... ملحمة كَلكَامش ... بغداد 1981
_ عامر سليمان ... العراق في التاريخ القديم/ الجزء الثاني ... الموصل 1993
_ فاضل عبد الواحد علي ... عشتار ومأساة تُموز ... بغداد 1986
_ فاضل عبد الواحد علي وعامر سليمان ... عادات وتقاليد الشعوب القديمة بغداد ... 1979
_ مجموعة من علماء الآثار السوفيت ... العراق القديم ... ترجمة/ سليم طه التكريتي ... بغداد 1976

Bibliography:
_ F. Safar, M. A. Mustafa, S. Lloyd … Eridu … BAGHDAD 1981
_ L. Delaport … Mesopotamia … LONDON 1970
_ L. Oppenheim … Ancient Mesopotamia … CHICAGO 1977
_ M. Mallowan … Twenty Five Years of Mesopotamian Discovery … London 1956
_ S. Lloyd … The Archeology of Mesopotamia … NEW YORK 1978








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة