الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العوده الى الجنه - القسم الثاني

حافظ الكندي

2021 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


الطبيعة تأبى الا ان تتم نورها ولو كره الكافرون
الاديان بأشكالها القائمة حاليا انطلقت بعد تكرس الوضع الإنتاجي الجديد وبعد سيطرة الدولة وزوال معظم اثار ومعالم الانسان الأصلي، والاهم من ذلك أي أثر للمحيط الطبيعي. باتت الطبيعة مشكله حصريا من قبل الانسان، على الأقل في محيط هذه الأديان. وقد نمت هذه البنى المعتقديه بين سكان تابعين لدول متكاملة التشكل ومؤسسات قائمه عليها وأفراد قد نشؤا وتربوا ضمن هذه المؤسسات قد انطفأت جذوة الطبيعة او الانتماء اليها في نفوسهم.
هذا الوضع فرض على الأديان الناشئة ان تتبنى مفهوم "الاله الواحد" كخالق للوجود وكقوة مدركه محركه للكون توصل ايحاءاتها وتعاليمها بواسطة افراد مختارين ممن يمتلكوا بصيرة واسعه وعميقه تنتمي لعالم انسان ما قبل الانفصام الكبير وما قبل التدجين. مهمة هؤلاء المرسلين ان يشكلوا نماذج للعيش حسب منهاج وقيم تعيد العربة الى سكتها، وان يكونوا أدوات توصيل رسائل من الاله، وتكوين بنى معتقديه تقنع الافراد بعبادته. ومن خلال ذلك تأكيد روح الطبيعة وحضورها بقوة الايمان. وليس مصادفة ان الحكيم الذي امتلك معرفه ربانيه، وصار معلما للنبي موسى في القصة القرآنية، ان يأخذ من الطبيعة خضرتها وحكمتها وقوانينها الأزلية التي تبدو قاسيه بالنسبة للفهم الإنساني المحدود لدى موسى.
تلك المخاضات الفكرية ترمي في الاخر الى الاخذ بيد البشر وبالقوة ان لزم الامر او بالتخويف من النار والاغراء بالجنة في البدء، على الأقل، كي تدفعهم للعيش على السراط المستقيم وان لا يطلقوا قدرتهم على التمرد على المحيط، وان يدركوا ويسلموا بأنهم أجزاء من كل أكبر ولا يتبعوا أوهام تمايزهم وانفصالهم عن الوجود الطبيعي وقوانينه.
***
البنى المعتقديه الرئيسية التي نشأت لتملأ فراغ الديانات البدائية هي تأمليه وقائمه على الفكر والمنطق العقلي أكثر منها على التجربة المباشرة مع المحيط الحيوي، وتبدو مجرده من الرموز الطبيعية (بدل قوى الطبيعة المشخصة مثل الطيور والأشجار والحيوانات حلت الملائكة والجن)، غير انها في الواقع تحمل نفس الرسالة المحورية او ان لها نفس روح العقائد القديمة، ولكن بلباس وأسلوب اخر يشهد على تأقلمها مع الوضع الجديد وتعبيرها عنه. وربما كذلك تشهد على ان جسم الحياة على هذه الأرض سوف يبقى رافضا ومقاوما للسرطان الذي يزيد استشراسا فيه وتمكنا منه "ما يسميه الاسكيمو سيلا هو نفس القوة المقدسة التي سميها سكان بولينيزيا مانا، والتونكين مانيتو، واللاكوتا واكاندا، والاوركويس اورندا، والباوني تيراوا. وهي الى حد كبير فكرة البراهمان في الهندوسيه، والطاو في الصين واليابان. وفي التقاليد الروحانية الأوربية.... انها الرب المجرد من الشكل وهي الروح الكبرى وهي القوة الغامضة خلف كل شيء. هي في الحقيقة كل ذلك. والقدامى يؤمنوا ان هذه القوة موجودة في كل الأشياء ومن ثم فان القوة الحية في الكون تربط كل ما هو حي" .
الرسالة الجوهرية لتلك البنى الدينيه الذي تتفق فيه جميعا هوان هناك كل وان كافة الأشياء فيه تشكل أجزاء منه وان ذلك الكل بالضرورة هو أكبر من أي من تلك الأجزاء ومنها بالطبع افراد الجنس البشري. هي كذلك تتفق على وجود قانون كوني واحد وقوه واحده تسير الوجود وان كل الموجودات تخضع له واي خروج عنه يؤدي الى اختلال وبطلان التوازن. غير ان ذلك الكل يتجسد كقوة مطلقه ومجرده لا نظير لها في عالم الطبيعة وهي غير ملموسه ولا يمكن وضع اليد عليها.
تختلف تسميات ذلك الكل المطلق فالطاويه، وهي نظره فلسفيه، تسميه "الطريق" او "الطاو الذي هو المبدأ الذي هو مصدر ونمط ومضمون كل شيء موجود في الوجود. - الإله – لديهم – ليس بصوت، ولا صورة، أبدي لا يفنى، وجوده سابق وجود غيره وهو أصل الموجودات، وروحه تجري فيها. ان طاو هو المطلق الكائن، وهو مراد الكون، إنه ليس منفصلاً عن الكون بل هو داخل فيه دخولاً جوهريًّا، انبثقت عنه جميع الموجودات." إنهم يؤمنون بوحدة الوجود إذ إن الخالق والمخلوق شيء واحد لا تنفصل أجزاؤه وإلا لاقى الفناء. والى أن الخالق حالٌّ في كل الموجودات. إن الطاوية تتجه اتجاهاً سلبياً – على عكس الكونفوشيوسية – ذلك لأن الفضيلة لديهم تكمن في عدم العمل والاقتصاد على التأمل داعين إلى الحياة على الجبال المقدسة وقرب الجزر النائية. إنهم يهاجمون الشرائع والقوانين والعلم وما إلى ذلك من مظاهر المدنية التي عملت على إفساد فطرة الإنسان الذي ولد خَيِّراً. إن مثلهم الأعلى في ذلك هو في العودة إلى النظام الطبيعي المتميز بنقاء الفطرة وسلامته".
تعاليم الرسل اخذت صيغا مؤسساتية وصارت اديانا. تدعو الديانة المندائيه للإيمان بالله ووحدانيته المطلقة، وله من الأسماء والصفات عندهم مطلقة، ومن جملة أسمائه الحسنى عندهم (الحي العظيم، الحي الأزلي، المزكي، المهيمن، الرحيم، الغفور) تقول المندائية أن الله الحي العظيم انبعث من ذاته وبأمره وكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، كذلك بأمره تم خلق آدم وحواء من الصلصال عارفين بتعاليم الدين الصابئي وقد أمر الله آدم بتعليم هذا الدين لذريته لينشروه من بعده.
اما اليهودية فان أهمّ تعاليم وعقيدة الديانة اليهودية هي الإيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد الذي يريد لجميع الشعوب أن تفعل ما هو عادل ورحيم.
الله في المسيحية، هو إله واحد، منذ الأزل وإلى الأبد، غير مدرك، كلي القدرة وكلّي العلم، وهو خالق الكون والمحافظ عليه؛ وهو ذو وجود يشكل المبدأ الأول والغاية الأخيرة لكل شيء. ويؤمن المسيحيون أن الله متعال عن كل مخلوق، ومستقل عن الكون المادي؛ فهو "يسمو على كل خليقة، فيجب علينا دومًا ومن ثم على الدوام تنقية كلامنا من كل ما فيه محدود ومتخيل وناقص حتى لا نخلط الله الذي لا يفي به وصف ولا يحده عقل، ولا يرى، ولا يدرك، بتصوراتنا البشرية. إن أقوالنا البشرية تظل أبدًا دون سرّ الله.
وفي الإسلام فان الله هو خالق الأكوان والوجود، وهو الإله الحق لجميع المخلوقات ولا معبود بحق إلا هو. ويؤمن المسلمون بأن الله واحد، أحد، صمد، ليس له مثيل ولا نظير ولا شبيه ولا صاحبة ولا ولد ولا والد ولا وزير له ولا مشير له، ولا عديد ولا نديد ولا قسيم ولا شريك له.
الاباء الروحانيون للبشرية والذين انشأوا تلك البنى الفلسفية والروحانية والدينية مثل لاوتزو وابراهيم وبوذا وعيسى ومحمد جسدوا صحوة الطبيعة الحقيقية للإنسان في ذاته. والمشروع الديني هو الوجه الحديث لممارسات الكهنة والحكماء والاطباء في المجتمعات السابقة للعصر الزراعي. وهو ومن خلال تجسداته الروحانية يعمل على احياء التقاليد القديمة والبدائية والباسها ثيابا وقوالب محدثه ويجهد مع مريديه لإنفاذ غايته الحقيقية هي إعادة الانسان الى طبيعته الحقيقية. الفكرة الأساسية لها ان الانسان الفرد جزء من قوه عليا او من البحر الذي يضم كل شيء، وان الوعي الإنساني في حالة انفصال مؤقته وسوف يلتحق ويعود الى الكل عند الموت "انا لله وإنا اليه راجعون".
"فرغم هذا الاختلاف وهذا التباين بين أتباع الأديان المختلفة بل وبين أتباع الدين الواحد، إلا أن الدارس لعلم الأديان المقارن يستطيع أن يلمس وبصورة قاطعة من بين هذا الركام الهائل من الاختلاف والتباين بل والتناقض، أن هناك قواسم مشتركة لا يخلو منها دين من الأديان سماويا كان أو أرضيا، ويمكن أن نذكر منها على سبيل المثال: شعور الإنسان بعجزه أمام القوى الطبيعية العاتية والغاشمة سواء كانت تلك القوى متمثلة في الظواهر الطبيعية كالزلازل والبراكين والرياح والأعاصير والوحوش، أو متمثلة في الأفعال البشرية كظلم الطغاة والمفسدين في الأرض، وأيضا العجز التام للجنس البشري بأكمله أمام مواجهة (الموت) ذلك الموت الذي لا يميز بين صغير أو كبير، ولا بين فقير أو غني، ولا بين متدين أو غير متدين، ولا بين متحضر أو بدائي، ذلك الموت الذي يثير داخل كل النفوس البشرية الأسئلة المزمنة والملحة، وهي: من أين أتينا؟ ولماذا أتينا؟ وإلى أين نمضي؟ ومن نحن؟ ولماذا نحن هنا فوق سطح هذا الكوكب؟ ومن جاء بنا؟ أم جئنا بأنفسنا دون تدخل من أحد؟ وهل يهمنا في شيء أن نعلم كيف جئنا؟ ولماذا جئنا؟ وإلى أين المصير؟ وماذا بعد المصير، وهل يضرنا شيء لو لم نعلم؟ وهل يضرنا شيء لو علمنا؟ وهل ننتفع بشيء لو علمنا؟ وهل ننتفع بشيء إن لم نعلم؟.

هذا العجز الإنساني بأنواعه، وخاصة العجز أمام مواجهة الموت، والعجز أمام الأسئلة المزمنة والملحة التي يثيرها الموت وتثيرها الحياة كذلك، كل هذا وغيره هو ما دفع الإنسان بفطرته إلى الهرع للقوة التي لا تدانيها قوة للاستجارة بها، تلك القوة التي تقف خلف هذا الكون الضخم، وذلك لرسوخ حقيقة فطرية داخل كل النفوس البشرية، ألا وهي أن لكل موجود موجد ولكل معلول علة، كل هذه القواسم المشتركة بين كل أتباع الديانات، جعلت كل الجماعات البشرية تلتزم بضوابط ومسئوليات من الفرد أمام الجماعة ومن الجماعة أمام الفرد، ومهما اتفقت أو اختلفت هذه الضوابط أو تلك المسئوليات، إلا أن القاسم المشترك لها جميعا هو الارتباط بالقوة المسيطرة على الكون، القوة التي تتعدى حدود الزمان والمكان، ثم الضبط الاجتماعي، والأمان الاجتماعي، والحرص على البقاء المحدود القصير في هذه الدنيا بحياة كريمة يسودها التعاون والمساواة والعدل، والتصدي للطغاة والمفسدين في الأرض، فكان الدين هو الضابط الأول والأمان الأول، لبقاء المجموعات البشرية، مهما اختلفت صورة الدين أو شكل المعتقد.

هذه القواسم المشتركة بين أتباع الأديان بشتى صورها وأشكالها، يؤدي إلى حقيقة هامة وكبيرة، ألا وهي أن مصدر كل ديانات الأرض سماوية أو وضعية مصدرها واحد، وهو الله المركوز في الفطر البشرية، وهنا أيضا نصل إلى حقيقة هامة وكبيرة في الوقت ذاته، ألا وهي: إن الأديان التي تسمى بالوضعية كديانات الهند والصين وإيران القديمة وغيرها من الأديان هي في الأصل أديان سماوية، إذ ليس هناك دليل علمي واحد يثبت أن هذه الأديان ليست سماوية، وليس هناك دليل علمي واحد يثبت أن القادة الأوائل لهذه الأديان (بوذا وكونفوشيوس وزرادشت) ليسوا أنبياء، فإن الدارس للأديان الهندية القديمة والأديان الصينية القديمة، يجد فيها الكثير من المعتقدات والتشريعات الدينية والمناسك الدينية التي تتفق تماما مع معتقدات وتشريعات وشعائر الديانات التي تسمى بالسماوية وخاصة الإسلام" .
**
العودة الى الفردوس
انفصال الانسان عن الطبيعة لم يكن يوما مصدر سعادة له. بل انه ظل ومنذ ذلك الزمن البعيد يشعر بالاغتراب ويرنو الى جنة المأوى ويحن الى يوم يعود الطفل الى حضن امه. "رحلة الكاهن في المجتمعات القديمة تمثل الرابطة الباقية بين عالم الانسان العادي والفردوس الخالي من العذاب والالم وهو العالم الذي كان قائما قبل ان الانكسار القديم حيث ان المنسجم والقدسي تعرض للدمار" :
"مذ قطعت من الغاب، والناس لأنيني يبكون
فكل من قطع عن أصله
دائماً يحن إلى زمان وصله
لم يكن سري بعيداً عن نواحي، ولكن
أين هي الأذن الواعية، والعين المبصرة؟
الناي مزقت ألحانه الحجب عن أعيننا
إنه يقص علينا حكايات الطرائق التي خضبتها الدماء
والحكمة التي يرويها، محرمة على الذين لا يعقلون،
إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعيه
المجتمعات الروحانية سواء طاويه، بوذية، هندوسية، مسيحيه، او صوفيه متغلغلة في عوالم الانسان العادي. رغم انها في الحقيقة تنتمي لعالم اخر مواز هو ما تسميه هي وترى انه عالم الحقيقة او ما نطلق عليه في مقاربتنا هذه بعالم الطبيعة. ولها هيكلا وتركيب عضوي نابض بالحياة يتفوق في متانته وقدرته على الابداع والعطاء والديمومة على العالم المبني من قبل العقل البشري. هي ورغم ما يبدو من تباين ما بينها (ما بين حكماء الطاويه في الصين وبين رهبان المعابد الهندوسية ومتصوفي السنغال) فهي لا تختلف لا في الجوهر ولا حتى في الممارسات عن بعض. ولو وضعت تعاليمها بجنب بعض وازلت حجب اللغات والتاريخ والشكل والمكان والزمان لوجدتها تنطلق من نفس النقطة وتتبع نفس المسار وتسعى لنفس الهدف. مثل انهار تجري في مسارات مختلفة غير انها تحمل نفس الماء. كيف لا وهي تعبر وتمثل القانون الطبيعي الذي هو الحقيقة الوحيدة في عالمنا هذا؟ وهو ثابت لا يتغير.
بعض تلك التيارات اختارت العزلة والترهبن وسكن الأديرة والاعتكاف فيها. في البوذية والمسيحية والهندوسية والطاوية هناك هياكل قائمه ومسنودة اجتماعا تحتضنها الديانات الرسمية تقوم بإيواء الافراد الذين يشعروا باغتراب عن هذا الواقع الى درجة استعدادهم للتضحية بالعيش العادي واختيار شظف العيش في معزل او معتزل لفترات قد تطول من اجل إطلاق او تحرير او التعرف الى ذاتهم الحقيقية التي تلعج في ارواحهم ومن ثم الاتحاد في المطلق او الفناء فيه.
"الرهبنة في البوذية هي الانعزال الكلي عن جميع شؤون الحياة المدنية أي عن ساكني البيوت. فالبوذية تقسم أهلها الى طائفتين: وهم ساكنوا المنازل من جهة، والرهبان من جهة أخرى ن وهم المتنازلون عن البيوت والأموال والشهوات واللذات لممارسة حياة الرهبنة. والأسلوب الرهباني هو التنسك والتبتل، والغرض الحقيقي منه هو اعدام الألم والتسامي بالروح للوصول الى النيرفانا السعادة في هذه الحياة. ولا يتم ذلك الا بالانخراط في سلك الرهبنة وذلك لان الحياة المدنية فيها عقبات تحول دون الوصول الى السعادة. وقد ذهب بوذا الى ان الرهبانية أسلوب جليل من أساليب الحياة لما فيها من تضحية لا يصلح لها كل انسان، وأنها اسمي وسيله للبشر، وان أصحابها هم اسمي مراتب الناس. وقد أكد على مخاطر الحياة المدنية فشبهها مره بالبحر الواسع المخيف ومره أخرى بالغابة المليئة بالحيوانات المفترسة. وتتضمن الرهبنة التسول، الجوع، الصيام المتواصل، الركون الى الصمت، التبتل، الخضوع للشيخ او الراهب الأكبر"
وفي المسيحية "تعد الرهبنة من أهم السمات المُميزة للكنيسة الأرثوذكسية، وهي تقوم على فكرة ترك العالم، وملذاته، والتفرغ بشكل كلى لعبادة الله، الى نقطة يصل إليها الإنسان يصبح عندها الحب الإلهي، وإدراك واقع الحياة من منظور وجودي، وروحي، دافعين قويين للاستغناء بشكل إرادي عن كل الاحتياجات الإنسانية المجتمعية، من الزواج، والشهرة، وتحقيق الذات، وغيرها من الحاجات الغريزية للإنسان، إيمانًا منه أن الحياة ما هي إلا بخار يظهر قليلا ثم يضمحل، وأن الهروب من العالم ضمان للفوز بالحياة الأبدية مع الله". و "الرهبنة هي حنين واشتياق إلى السماء وفعل الأعمال التي تقرب الانسان الصالح إلى الله دون النظر إلى متاع الدنيا الزائلة، وتقوم الحياة الديرية على (الطاعة الكاملة) الطاعة القلبية". و"تمثل الاديرة منبع الأمان الروحي...القائم على الصلاة والطاعة والتوبة. والطاعة في الاديرة يقصد بها طاعة الاب ورئيس الدير وهي أحد أهم الصفات التي تتمتع بها الكنيسة القبطية. والطاعة الابوية ذات مكانة كبيرة في نفوس أبناء وكهنة ورهبان الكنائس. فالأبوة الروحية هي أبرز مبادئ الكنيسة". و " الصوم عن الذات يُكتسب عن طريق (الطاعة القلبية) وتتلخص هذه الطاعة في احترام الاب الرئيس والاعتراف بالخطأ وطلب التوبة. والصوم عن العالم يُكتسب عن طريق (الفقر الاختياري) أي تفضيل الحياة المنعزلة عن العالم الخارجي والا يملك الراهب شيء، فامتلاك الراهب يكسر ويخالف شروط ونذر الرهبنة. وتترابط هذه السلسة الديرية الرهبانية لتساعد الراهب على تحقيق الأساس الاخير وهو نفي الجسد وشهواته. فعبادة الصوم تأدب النفس وتجعل الراهب ينعم في شعور الرضا والالتزام بصفات العفة والبتولية والنقاء ".
اما في الصوفيه فتغيب الرهبنة بمعناها الرسمي. ولكن، وبدلا من ان يؤدي ذلك الى تلاشي هذه الطائفة، فانه بالعكس سبب انتشارها في جسم المجتمع والى تحولها الى قوه مؤثره شامله عكس نظام الرهبنة الذي حرم المجتمعات من ذلك المؤثر. ويعزوا البعض الروح التسامحيه التي سادت في العالم الاسلامي لفترات طويله في أواسط وجنوب اسيا، والبلقان، وافريقيا الى الحضور القوي للحركات الصوفية هناك. "الصوفيون ليسوا فرقه تلتزم بعقيده دينيه مغلقه. في الغالب هم ينطلقوا من نقطه لا دينيه اذ يذهبون الى ان الجواب على الأسئلة الوجودية كان في ذهن البشرية. ولا يحتاج الا لأطلاق سراحه حتى يصبح الدليل الذي يقود الخطى نحو الرقي الإنساني عبر الذوق والالهام والحس" و "يقول الصوفيون ان البشرية قابله للوصول الى مدارج الكمال الذي ينبع في التناغم مع الوجود (الطبيعي)" .
التراث الصوفي الابداعي بأشكاله وتجسداته اللامتناهية بحاجه الى ترجمته بصوره تتفق مع اطروحتنا هنا، والتي نوجزها بان الطبيعة في سعيها لتأكيد وجودها في عالم الانسان المغترب عنها قد اكسبت نفسها او ارتدت الرداء الديني او الصفة الدينيه. ومن ثم فان السعي للفناء بالله مثلا يعني في الواقع ترك الصفات البشرية المكتسبة والعودة الى الصفات الأصلية الطبيعية "التصوف هو ...الخروج من البشرية..." (جعفر الخلدي). ومن سوف ندرك جوهر الرسالة الصوفية عموما إذا نجحنا في تطويع هذه العبارات والمفاهيم بصوره تناسب زاويتنا الإدراكية هذه. فنرى ان حديث قدسي مثل "مت قبل ان تموت" هو دعوه الى ان يولد الانسان من جديد وقد خلع الصفات البشرية المكتسبة التي تحجبه عن ذاته الحقيقية.
فلننظر بتلك العين الى بعض ما يقوله من اوائل أولئك القوم: "التصوف أن يكون الصوفي كما كان قبل أن يكون"، و "التصوف هو وإخماد صفات البشرية...والتعلق بعلوم الحقيقة"، و "الصوفي مُنقطعٌ عن الخلق متصلٌ بالحق"، وكذلك "إذا تكلم العبد فبالله، وإن تحرك فبأمر الله، وإذا سكن فمع الله" و "في حالة «التوحيد» لا يشهد قلبُ الصوفي إلا الحق وحده"، و"التصوف صيانةُ القلب عن رؤية ما سوى الله". و" الصوفية أطفال في حِجر الحق". "استرسال النفس مع الله على ما يُريده".
الصوفية عاشت وازدهرت كما قي واقع افتراضي داخل العالم الإنساني العادي ولكن بتنزه عنه. والطرق الصوفية متواجدة في التجمعات البشرية ولا تفصلها عنها اسوار وجدران وحواجز ولكن يفصلها الوعي بذاتها وعالمها ورسالتها وأدراك انها تسكن عالما اخر لا ينتمي للعالم العادي. ولسان حال الصوفي "انا في الناس لكني لست من الناس".
وعندما تدخل تكيه او زاوية صوفيه يطلب منك ان تخلع نفسك بكل انتماءاتها في الخارج. وان تخلع في نفس الوقت تاريخك الشخصي والتفكير المتواصل والمنولوج الداخلي والمعالجة العقلانية. اذ في داخل ذلك العالم يسود الحال بدل القال، أي يحكم القلب بدل العقل. والهدف الأسمى هو" الفناء عن الذات وصفاتها والبقاء بالله" (جنيد).
التصوف، ومثله عوالم الحقيقة في كل الأديان والتقاليد الدينيه والروحية، الممتدة منذ نشأة الانسان، هي عوده الى عالم الله او الطبيعة النقي والحقيقي حيث "لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر في بال أحد" أي هو العالم قبل ان يلوثه الانسان. غير انه عالم مخفي عن الناس العاديين الذين دجنتهم المنظومة البشرية. ولا يتطلب الولوج اليه الا إزالة الحجب التي اكتسبها الانسان خلال مسيرة انسنته واغترابه عن ذاته الحقيقية.
**
ليس من عباره او طقس او حركه او انشاد او لحن او ضربة ريشه في المعجم الصوفي (والروحاني عموما) ليس لها جذر يمتد من تاريخ الوجود ولا تهدف الى اعادة وصل ما انقطع بين الانسان وذلك الوجود.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. روسيا تعلن استهداف خطوط توصيل الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا |


.. أنصار الله: دفاعاتنا الجوية أسقطت طائرة مسيرة أمريكية بأجواء




.. ??تعرف على خريطة الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية


.. حزب الله يعلن تنفيذه 4 هجمات ضد مواقع إسرائيلية قبالة الحدود




.. وزير الدفاع الأميركي يقول إن على إيران أن تشكك بفعالية أنظمة