الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العوده الى الجنه - القسم الاول

حافظ الكندي

2021 / 12 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


العودة الى الجنة
الحياة ليست معطى مضمون للكائنات الحية بقدر ما هي جهد متواصل للبقاء على قيد الحياة. الكائنات الحية محصورة في محيطها الحيوي لا تستطيع له كسرا لان ذلك المحيط قائم ومتواصل كثمره للتوازن الدقيق والهش ما بين مكوناته. هي سلسله تنقطع باختفاء واحد من حلقاتها. ويتميز الانسان بكونه قادر ان يكسر جدران القوانين والاليات التي تتحكم في ذلك التوازن وعلى استغلال موارد الطبيعة لتوسيع محيطه الحيوي خارج الحدود الأصلية.
الوجود الطبيعي ابتداء من الكون الأكبر أي الاكوان والمجرات، وحتى أصغر الجسيمات تتبع قانون لا تحيد عنه وهو قانون الطبيعة، الثابت الدائم الازلي. ولا تتمرد عليه حتى الكائنات الحية مهما كانت فصيلتها وتاريخها وعمرها وموقعها من خارطة تضاريس الحياة على الأرض. هذه الاحياء تولد مع فطرتها الطبيعية المغروسة فيها بشكل وراثي يتحكم في فعاليات جسمها الحيوية ويتحكم أيضا في فعالياتها الذهنية وطريقة تعاملها مع المحيط الحيوي واشكال ردود افعالها على المؤثرات الخارجية التي تستقبلها احاسيسها. هي تولد كامله تربويا ويستطيع اغلبها بصوره مباشره او بقدر بسيط من التدريب ان يعتمد على نفسه وتدبير اموره في محيطه الحيوي.
الانسان، وهو اخر تجارب الحياة على الأرض يختلف عنها جميعا في حصول فصل ما بين الفضاء الجسدي وما بين الفضاء السلوكي. ما يزال الجسد يتبع قانون الحياة مثله مثل أي حي اخر. هو يولد، ويمرض، ويتعرض للحوادث، ولنفس اثار الزمن، وفي الاخر يموت. أما في جانب السلوكي فهنا حصلت النقلة النوعية الكبرى، والتي جعلت هذا الكائن يتميز عن كافة الكائنات الحية الأخرى، فهو لم يعد يرث فطره ما او قانون سلوكي بالولادة. بل صار يكتسب ذلك بعد الولادة وخلال تقدمه في السن بعملية التربية. والتي هي ممارسه اجتماعيه يقوم المجتمع المحيط بالمولود بغرس الإرث التاريخي والمهارات والمعارف التي لدى المجموعة، مما يشكل لديه مبادئ السلوك وفطره متولده اجتماعيا، وليست موروثه في الجينات، وهي ما يمكن ان نطلق عليها تعبير الشخصية الإنسانية. وهي الخاصية التي صار يتفرد بها النوع البشري والتي تتميز بانها مختلفة وليست نفسها لاي اثنين من البشر. ولهذا يولد الانسان ضعيف ومفتقد للآليات التي تمكنه من التعامل مع المحيط او النجاة فيه ويأخذ سنين طويله للشخصية كي تتبلور والمعارف كي تنقل بصوره كامله، بدل الدقائق القليلة التي تأخذها معظم الحيوانات للنهوض والاعتماد على نفسها.
ترافق هذا مع تطويرات او تغييرات فسيولوجية للهيكل العظمي والعمود الفقري نتج عنها الانسان المنتصب ذا الميزات الجديدة مثل القدرة على التغطية البصرية لستة اتجاهات، واستعمال اليدين وسعة الخيال والتخطيط المسبق الذي يتطلب منظور خطٌي للزمن. وهو امر يتكامل مع تحسينات قدراته على التفكير غير المقيد او المقنن وراثيا عبر تزويده بمعالج متطور (بروسسر) وذاكره واسعه متعددة المهام، بالإضافة الى نظام تشغيل يتيح استعمال تلك الاليات بكفاءة.
خلق الانسان مثٌل نقله نوعيه فريدة في اسلوب عمل النظام الحيوي السائد على الارض ارتقى هذا الكائن على أثره الى مستوى وجودي اخر بعيد او منفصل عن عالم الطبيعة. القدرة على التفكير المنطلق اتاحت له إدراك الاليات والقوانين التي تسير عليها الطبيعة مما سمح له التعرف على علاقات الأشياء ببعض وبتتابع الأفعال وردود الأفعال، ومن ثم القدرة على التخطيط المسبق واستغلال ذلك لأجراء أي تغييرات في المحيط تروق له. "ذاق من ثمرة المعرفة المحرمة...".
تشير الحفريات الى ان بدايات الانسان كانت منذ 4 الى 6 ملايين سنه، والى أنواع ظهرت وأخرى اختفت منذ ذلك الوقت والى تحسن مضطرد في المهارات اليدوية وفي التنسيق ما بين القدرات العقلية والجسدية وتطوير وتحسن كفاءة الخصائص الإنسانية المتفردة "على القارئ ان يلاحظ ان الانسان البدائي تصرف دائما بصوره تبين ان لديه كلا من الذكاء وسعة الخيال" . و"التطور البطيء في التطويرات التقنية لا تعني تطور بنفس البطء في مستوى الذكاء" . وقد جاء تدجين النار، منذ ما لا يقل عن 600 ألف سنه لتكريس الانفصال النهائي للإنسان عن اجداده من باقي الحيوانات.
الكائن البشري بهذه الخصائص، في رأينا، هو نتاج تحول نوعي ومفاجئ أطلق قدراته التي تميزه عن القردة العليا واكسبته ملامحه الحالية. وتلك التغييرات لم تكن تدريجيه وبطيئة بل حصلت بقفزه سريعة نسبيا (ربما بضع عشرات من الوف السنين). والأنواع البشرية جميعا تتشارك في خيط يجمعها منذ نشأة النوع حتى لو اختلفت عن بعض في المزايا البيولوجية، مثل حجم الدماغ، والطول، وشكل الفك، فهي مع ذلك تنتمي الى نوع الانسان عامة. وهذا الخيط هو ميزة الانسنه. مثل حبات مسبحه، حتى لو تمايز أحدها عن الاخر فهي تبقى مربوطة بنفس الخيط، وهو الذي يشكل الخصائص المتفردة للإنسان والتي جعلته يختلف نوعيا عن اقرانه من الاحياء.
وهكذا ومن رحم الطبيعة ظهر مولود يستطيع منازلة ألأم التي انجبته وحتى القضاء عليها...
ازمان طويله قضاها الانسان على هذه الأرض كانت له اثنائها قدرات ومهارات لا تختلف كثيرا عما لدى الانسان الحالي.
خلال تلك الملايين من السنين فان مكونات المحيط الحيوي من ماء وهواء وأرض وما فيها وما عليها من وطيور واسماك حيوانات بريه وغابات تواصلت نضره ومزدهرة، وواصل الانسان تواجده ضمن ذلك المحيط يصيد الحيوانات والاسماك ويجمع الثمار ويحمي نفسه ويوفر لها ولنوعه متطلبات البقاء والنجاة من الانقراض.
ولا ريب ان تلك الملايين من السنين شهدت تباينات لا حصر لها في موقف الانسان من محيطه الحيوي وأساليب الصيد وأنواع الحيوانات التي يتم اصطيادها، وفي درجة الاعتماد على حيوانات معينه وتكثيف صيدها الى حد يؤدي الى انقراضها. وتأثير ذلك على الجماعة البشرية التي تعيش في ذلك المحيط الحيوي. فنقص الطرائد يولد أزمات تدفع اما الى الهجرة، او تبديل السلوك، او الى مجاعة قد توصل الى انقراض الجماعة برمتها.
المقصود والواضح هنا ان نمط الحياة المعتمد على الصيد وصيد الأسماك وجمع الثمار هو طريق مسدود بغض النظر عن التطور التقني ووسائل تحسين وسائل الصيد وادواته. بل الامر قد يكون معكوسا وان تلك الابتكارات قد تسارع في وتيرة اختفاء الطرائد وظهور الازمات "كل ابتكار يجلب معه خطر الفناء" ، و "الركود التقني يضمن بقاء الانسان البدائي" . ولهذا فان التوازن ما بين الجماعات الإنسانية كان امر حتميا ومفروغ منه. وليس مستغربا انه بعد تلك الملايين من السنين والى حد 12000 سنه مضت كان عدد البشر على الأرض لا يتجاوز الخمسة ملايين وكتلتهم الحيوية هي 15 ألف طن. فيما ان الكتلة الحيوية للثدييات البرية كانت 15 مليون طن. أي ان وزن الكتلة الحيوية للجنس البشري لم يتجاوز الواحد بالألف من وزن كتلة الحيوانات البرية آنذاك. اما الآن فيصل عدد الجنس البشري الى أكثر من 7 بلايين فرد، وكتلتهم الحيوية الى 60 مليون طن، وتناقصت الكتلة الحيوية للثدييات البرية الى 3 ملايين طن. في نفس الوقت تناقصت الغابات حتى تكاد تختفي، تنقرض الاحياء البرية والبحرية والطيور، ويتسمم الهواء والتربة والماء، وتكاد الارض بما وسعت تمتلئ بالبشر وبالأبقار والدواجن ولا تكفي لاحتواء الازبال والفضلات، وترتفع درجات الحرارة وتذوب الثلوج. وتأتي الدفعة الكبيرة في "الابتكار البشري العظيم" بإخراج الوقود من بطن الأرض واحراق سطحها به.
***
فكيف اذن ان مجرد اثني عشر ألف سنه شهدت هذا المعدل الانفجاري من خراب ودمار واوصلت الحياة الى حافة الفناء وأحالت الأرض الى الأرض كرة ملتهبة، وعلى يد نفس النوع البشري الذي لم يتغير بيولوجيا ولا شهد قفزات صنعت منه نوعا جديدا؟ وما الذي قاد الى حالة المواجهة والاشتباك والسلوك العدائي الى الدرجة التي تفسر ما يحصل الان؟ كيف اذن نجت الطبيعة من القدرات العدائية للإنسان لمئات الوف وحتى ملايين السنين الماضية؟
***
الانتاج الزراعي الذي تكرس منذ ما لا يقل عن عشرة الاف سنه شكل نقطة تحول رئيسيه في وجود الانسان على الارض وعلاقته بها. والقدرات الذهنية للإنسان التي كانت حتى ذلك الوقت تعمل وفق منطق الطبيعة وهي محكومة بقوانينها، أصبح لها الان دور اخر يتمثل في فهم ذلك المنطق وتلك القوانين من اجل السيطرة والاستغلال. تبلورت الزراعة في مناطق أطراف الصحراء الفقيرة بالموارد الطبيعية حيث تحديات البقاء كبيره. انطلقت المؤسسة الاجتماعية بصوره محمومة في التوسع وفي تمتين النمط الجديد وإزالة العقبات من طريقها. ومنها اساليب العيش القديمة مع الكم الكبير المرافق لها من الممنوعات والمحرمات. لم يعد عمليا ان تقدس الأشجار بينما هناك حاجه لتوسيع المزارع والمراعي، وبناء المعابد والقصور على قدم وساق. حارس الغابة يجب ان يقتل.
وبعكس الوضع السابق حيث يتوقع من الابن السير على خطى ابيه، اضحى شعار العصر الجديد هو التغيير المستمر، لا تسر ابدا على نهج ابيك، أهمل مبادئ واعراف الموروث والتقاليد. وهو توجه عندما يسود فلا مفر من ان كل منا يعيش في انظار التغيير القادم، كونه قائم على الانحراف ولذا لا مجال هناك للخط المستقيم بل سلسلة من الإستدارات. صار التاريخ حلزونيا يقود الى فراغ او الى نقطه تعبٌر عن ذلك الفراغ.
الإنتاج الزراعي على نطاق واسع خرج مثل جنيا من القمقم. لأنه لعب الدور الحاسم في توفير مقومات إنشاء وتمتين نظام الدولة وأجهزتها. هذا النظام هو الذي رعى ونشر نمط الإنتاج الزراعي ووفر له شروط الغلبة على فعاليات وطرق العيش الأخرى. فتواصل وانتشار الإنتاج الزراعي حيث يتوفر الماء في احواض الأنهار يحتاج الى عنصرين اخرين وهما الانسان والأرض. وربما الأهم من ذلك في انها ازالت البنية الفكرية القديمة القائمة على احترام الانسان للطبيعة ورهبته منها وتقديسها. وفي حزمة المحرمات والممنوعات التي تعكس تلك العلاقة. أجهزة الدولة وفرت العنصر البشري بتحويل الصيادين، وبالقوة ان لزم الامر، الى عبيد الأرض. ووفرت أراض جديده للزراعة بإزالة الغابات وطرق أخرى لاستصلاح الأراضي.
الدولة هي الحصن الذي حمى الزراعة ولولاها لاستمرت كفعاليات ومحدودة ومؤقته. وهي التي احتوت طاقات كل الذين تحت لوائها وأضحت التجسيد الاوضح للحضارة ولنهضة الانسان وتسيده على العالم. يعرفها ماكس فيبر "الدولة منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي". و "للدولة سلطة مطلقة في مواجهة رعاياها في الداخل" وهي "لا تخضع لسلطة أعلى منها...". الدولة هي التي اتاحت للإنسان أخيرا ان يطور مبدأ النمط الإنتاجي ويوصله الى الكمال وبدون تحديات جاده من المحيط الحيوي. وهي، ممثله بكلكامش، التي قتلت حارس غابات الأرز.
***
عندما ارتفع الحاجز ما بين الانسان والطبيعة أضحت هوية الانسان كجزء من الكل الحي في طي النسيان. صار سجينا في نفسه الفردية. هذه النفس هي الشكل الوحيد للوجود وهو ينتهي بموتها. الخوف من الموت هذا وسم الحضارات الزراعية مما يتجسد في طقوس دفن الحاشية والممتلكات مع الميت، وتحنيط الجثث وبناء الاهرام. بل ان الانسان رفض ان يستسلم للموت أصلا. مما قاد كالكامش بعيدا للبحث عن الخلود. "الموت... لا يعامل كمعلم بل على انه فشل عضوي وحتى أخلاقي يتوجب انكار وجوده وتجنبه. هو لا يعامل كعنصر تحرر بل كعدو يجب القضاء عليه وعلى أحسن تقدير كظرف مزعج ينبغي تحمله."
احتياجات النمو السكاني تطلبت زيادة عدد السكان الذين تحولوا الى اقنان الأرض بعدما كانوا طلقاء. القدرة على استخدام اليدين والتنسيق مع الدماغ صارت تستغل في عمليه انتاجيه اختص بها الجنس البشري. وهو ابتكار يقوم فيه كائن حي ولأول مره بتوليد عناصر من المحيط الطبيعي لخدمته.
غير ان نمط الانتاج الزراعي يحمل معه بذور ضعفه بسبب محدوديته على التوسع الى الابد. فالسكان المتزايدون في مناطق موحشة مثل قارة اوربا تجتاحهم المجاعات بصوره دوريه وتهددهم بالانقراض اوصلت الأوضاع وبسرعة قياسيه الى طريق مسدود.
الإنتاج الصناعي جاء كمخرج من الطريق المسدود الذي وصلته الزراعة. والنمط الجديد صار مدفوعا بقانون تناقص الأرباح مما يدفع عجلة الإنتاج الى التعجيل للتعويض عن ذلك الانخفاض. هذه العجلة المتسارعة تحتاج الى موارد، بشريه وطبيعية لمواصلة دورانها. وبنفس الأهمية هي أيضا بحاجه للتخلص من المنتوجات التي تفرزها.
الطريق المسدود
عالم الانسان مسح عالم الطبيعة. قاطرة النمو الإنتاجي المسعور صارت تسعى لإحلال النموذج البشري بدل الطبيعي. تلاشت الغابات والاحراش والوديان والروابي وتحولت الى مزارع ومراعي وضواحي ومدن وفيما بعد الى مصانع. لم تعد من حيوانات او طيور او غابات او مياه او هواء الا وصار في خدمة الانسان ومؤسسته الإنتاجية.
ولكن الى اين يؤدي هذا النمو السرطاني. أين نتوقع ان نصل عند الخروج من نهج او سكة الطبيعة؟ القوة الهائلة للمؤسسة البشرية ومواردها الضخمة ونموها الفلكي لن تخلق عالما جديدا ولن توجد بديلا عن العالم الطبيعي. الامر ليس أكثر من مجرد وهم.. الخلية تمردت على الجسد " السرطان يتميز بنمو وتكاثر غير طبيعي للخلايا، والتي تؤدي إلى تدمير الخلايا السليمة الأخرى في الجسم بنموّ غير طبيعي للخلايا السرطانية التي تنقسم بدون رقابة ولديها القدرة على اختراق وتدمير أنسجة سليمة في الجسم، وهو قادر على الانتشار في جميع أنحاء الجسم" .
.. ما هو منحرف سوف يذهب جفاء. والنمو السرطاني مهما تمكن وتضخم لن يولد مولودا جديدا. وان لم يستطع الجسم التخلص منه فلا سبيل من انتهائهما بالموت سوية. يتجلى الموت القادم في العلامات المتزايدة للتدمير البيئي، وللتلاشي الواضح لشروط الحياة على الأرض.
**
قبل ولادة أنماط الإنتاج أي في معظم فترة وجود الانسان والى ان نشأت الدولة او الحضارة كان الانسان يتواصل بشكل مباشر مع الطبيعة ومكوناتها. كما ان استجاباته وردود فعله على المؤثرات والتحديات تتبع القانون الطبيعي الذي يسود ويسيطر ويحكم كل شيء.
جاء نمط الحياة الإنتاجي، زراعي وصناعي، ليضع الانسان الفرد في جسم أكبر هو الدولة التي صارت كلية القدرة وامتلكت شخصيه واراده ومصالح وغايات ليست بالضرورة نفسها التي لأفرادها. بالإضافة لذلك هي قطعت ما تبقى من أواصر ما بين الانسان والطبيعة، وغيرت منظومة التلقي والاستيعاب وأصبحت هي التي تتلقى الإشارات والمعطيات من المحيط وتختار ما تشاء منها وتعيد تعريفها وتترجمها ثم تقدمها للرعية كحقائق تبدو وكأنها ثمرة مداخيلهم الحسية. هذه المؤسسة تحولت الى جدار عازل او حجاب يفصل الانسان عن ذاته الحقيقية وكرست الانتقال النهائي الى عصر الانفصال والاغتراب.
الانسان لم يعد يرى سوى المؤسسة البشرية من حوله. اما الطبيعة فليست موجودة سوى في الحدائق التي انشأها الناس للنباتات والحيوانات. ولكن هل الانسان ما بعد التدجين من قبل الدولة هو نفسه قبل ذلك؟ الجواب هو بالنفي لان الأنسان لا يولد كاملا بالفطرة، كما أسلفنا، بل ان وعيه يتكامل بالتربية في المحيط الذي ينشأ فيه. فمن ينشأ في بيئة تطلقه حرا وفي اتصال مباشر مع الطبيعة فان وعيه وشخصيته ليست مثل ذاك المقيد والمدجن والمربوط الى الأرض او المعمل ويسكن في المدن المحاطة جميعا بأسوار الدولة العالية. هذا الاخير لم يعد له من اليات الادراك او الاستيعاب والاتصال مع البيئة والمحيط مثلما لأجداده القدماء. هو صار جندي في جيش الدولة او عبدا لها. ووعيه يتشكل على هذا الأساس. "السكان الاصليون يرون العالم بصوره مختلفة عن الناس المعاصرون الى حدلا يبدو فيه انه نفس العالم" .
الإقلاع الى المجهول
الفصام صار كاملا ومؤسسات الدولة صارت هي عوالم الانسان المحصنة والمغلقة مثل سفن فضاء ابحرت في الكون ولم تعد تعرف طريق العودة، او قاطرة خرجت عن سكتها ولا يبدو من سبيل لإعادتها اليها. انطلق الجنس البشري بمفرده في مركب ابتعد فيه عن الأرض الحقيقية مبشرا بعالم من صنعه هو. اقلع في كون واسع في مركب محدود الإمكانيات مبني على تقنيه ابتدعها الانسان، بوصلتها الهادية هي العلم والتقنية التي طوروها استنادا الى العقل والتفكير الذي تميز به. ليس من امل لاحد في الوصول الى مرفأ، ولا خيار للمركب سوى ان يواصل الإبحار الى ان يتحطم ويفنى. وأثناء تلك الرحلة ابتدع المسافرون مؤسسات تنظيميه واداريه وتعليميه للسكان، بالإضافة الى منظومات تعامل ووعي قامت على التفوق العقلي وخلود الجسد، مشيحين عن حقيقة الموت. لم يعد أحد يتذكر كيف كانت الحياة على اليابسة التي انطلقوا منها، والمركب صار هو الحقيقة الوحيدة لهم. لم يكن من شيء قبله، ولا شيء بخلافه او خارجه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تهاجم أردوغان.. أنقرة توقف التبادلات التجارية مع تل


.. ما دلالات استمرار فصائل المقاومة باستهداف محور نتساريم في غز




.. مواجهات بين مقاومين وجيش الاحتلال عقب محاصرة قوات إسرائيلية


.. قوات الأمن الأمريكية تمنع تغطية مؤتمر صحفي لطلاب معتصمين ضد




.. شاهد| قوات الاحتلال تستهدف منزلا بصاروخ في قرية دير الغصون ش