الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراجعات في فكر أفلاطون

مصعب قاسم عزاوي
طبيب و كاتب

(Mousab Kassem Azzawi)

2021 / 12 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تعريب فريق دار الأكاديمية للطباعة والنشر والتوزيع لملخص محاضرة قدمها مصعب قاسم عزاوي باللغة الإنجليزية في مركز دار الأكاديمية الثقافي في لندن.

عاش أفلاطون في أثينا في الفترة ما بين 428 ق.م – 348 ق. م. ولقد كانت أثينا قبل 2400 سنة مكاناً مكتظاً يعيش فيه حوالي 250,000 شخص. وكان هناك في أثينا حمامات جميلة، ومسارح، ومعابد، وأروقة تسوق، وقاعات للألعاب الرياضية. والفن مزدهر بشكل واسع، والعِلْم والفلسفة أيضاً بكونها حباً للعلم والمعرفة والحكمة.
وهذا هو أيضاً موطن أول فيلسوف حقيقي في العالم: أفلاطون.
لقد ولد أفلاطون في عائلة مرموقة وثرية في المدينة، وقد كرَّس أفلاطون حياته لهدف واحد: وهو مساعدة الناس للوصول إلى حالة ما قد أسماه إيدامونيا، وباللغة الإنجليزية Eudaimonia.
هذه الكلمة اليونانية الغريبة، والساحرة في عمق مدلولها المعرفي من الصعب ترجمتها. إنها تقريباً تعني "السعادة"، ولكنها أقرب حقاً إلى "القناعة والرضى أو الطمأنينة"، لأن "السعادة" تشير إلى المرح والحبور في حين أن "القناعة والرضى أو الطمأنينة" تتوافق على نحو أكبر مع فترات الألم والمعاناة الكبيرة التي يبدو أنها جزء لا مفر منه حتى في سياق الحياة المرفهة.
كيف اقترح أفلاطون جعل الناس أكثر شعوراً بالطمأنينة؟ هناك أربعة أفكار أساسية تبرز في عمله.

1. فكر على نحو أعمق
يرى أفلاطون أن حياتنا تسير على نحو خاطئ إلى حد كبير لأننا لم نمنح أنفسنا الوقت الكافي للتفكير بتمعن ومنطقية كافية حول خططنا ومسيرة حياتنا. وهكذا ينتهي الأمر بنا مع القيم، والمهن، والعلاقات الخاطئة. أراد أفلاطون جلب النظام والوضوح لعقولنا.
لقد لاحظ أفلاطون مقدار أفكارنا المستمد مما يعتقده الجمهور، مما أطلق عليه الإغريق "دوكسا"، ومما يمكننا أن نسميه "الفطرة السليمة". ومع ذلك، فقد أظهر أفلاطون - مراراً وتكراراً، عبر الكتب الستة والثلاثين التي كتبها - أن هذه الفطرة السليمة يتخللها أخطاء، وأحكام مسبقة، وخرافات. والأفكار الشائعة عن الحب أو الشهرة أو المال أو الخير ببساطة لا تصمد أمام تحدي العقل التحليلي النقدي.
ولاحظ أفلاطون أيضاً كيف كان الناس يشعرون بالفخر والحماسة حين تقودهم غرائزهم أو عواطفهم (أي: القفز إلى قرارات انفعالية على أساس لا شيء أكثر من "كيف شعروا")، وقارن هذا الأمر بكما لو كنّا نُجَرّ - على نحو مهول - من قبل مجموعة من الخيول البرية المعصوبة التي تسري على غير هدىً.
ولقد كان فرويد سعيداً بالاعتراف بجهد أفلاطون، إذ كان الأخير في منظار الأول مخترع العلاج النفسي، بإصراره على أننا نتعلم إخضاع جميع أفكارنا ومشاعرنا إلى العقل. حيث كتب أفلاطون مراراً وتكراراً، إن جوهر الفلسفة ينحصر في مهمة "اعرف نفسك".

2. أحب بمزيد من الحكمة
يعدُّ أفلاطون واحداً من منظري العلاقات العظماء. وكتابه، المأدبة، هو محاولة لتوضيح ما هو الحب حقاً. إنه يحكي قصة حفل عشاء قدمه أغاثون، شاعر وسيم، دعى مجموعة من أصدقائه لتناول الطعام والشراب وللحديث عن الحب.
وكان لدى جميع الضيوف وجهات نظر مختلفة حول ماهية الحب. ويقدم أفلاطون بالنيابة عن قدوته ومعلمه القديم سقراط - أحد الشخصيات الرئيسية في هذا الكتاب وكل كتبه - النظرية الأكثر فائدة وإثارة للاهتمام. وكان الأمر على هذا النحو: عندما تقع في الحب، ما يحدث حقاً هو أنك ترى شخصاً آخر يتمتع بصفة جيدة لا تمتلكها أنت. ربما يكون هادئاً، عندما تشعر بالغضب، أو إنه منضبط ذاتياً، حينما تكون في حالة فوضى عارمة؛ أو إنه بليغ عندما تكون معقود اللسان.
ويكون السحر الجوهري للحب حينذاك من خلال الاقتراب من هذا الشخص، فيمكن أن تصبح مثله قليلاً. ويمكن أن يساعدك على النمو إلى إمكاناتك الكاملة.
في عيون أفلاطون، يعدُّ الحب في جوهره نوع ما من التعليم: لا يمكنك حقاً أن تحب شخص ما إذا كنت لا تريد أن تتحسن و تستقي ذلك منه. ينبغي أن يكون الحب بين شخصين يحاولان النمو معاً، ويساعدان بعضهما البعض للقيام بذلك. مما يعني أنك بحاجة إلى الاجتماع مع الشخص الذي يحتوي على جزء أساسي مفقود من تطورك ألا وهو الفضائل التي لا تملِكُها.
إن هذا قد يبدو غريباً تماماً في الوقت الحاضر عندما نميل إلى تفسير الحب على أنه العثور على شخص مثالي تماماً. في خضم الحجج بين المحبين، يقولُ بعضُ العشاق لبعضهم البعض: "إذا كنت تحبني، فلن تحاول تغييري". ولكن أفلاطون يفكر في الضدّ المعاكس. يريد منَّا أن ندخل في العلاقات الحميمية العاطفية بطريقة أقل مواجهة وأقل تكبر بكثير. ينبغي علينا أن نقبل أننا لسنا مكتملين وأن علينا أن نسمح لعشاقنا بتعليمنا أشياء جديدة. إن العلاقة الجيدة يجب أن تعني أننا لن نحب الشخص الآخر تماماً كما هو. وإنما يعني الالتزام بمساعدته على أن يصبحوا نسخة أفضل من نفسه، وتحمل الطرقات العاصفة التي ينطوي ذلك الأمر عليها حتماً، بينما لا نقاوم محاولاته لتحسيننا.

3. أهمية الجمال
إنَّ الجميع -إلى حد كبير - يحب الأشياء الجميلة. لكننا نميل إلى التفكير فيها على أنها غامضة بعض الشيء في كيفية تأثيرها علينا. لكن أفلاطون أشار إلى إنه حقاً أمر مرهف وعالي الأهمية في حياة الإنسان العاقل حينما يتأمل ويتفكر في ماهية جمال المنازل، أو المعابد والأواني، أو المنحوتات التي يراها من حوله.
لم يطرح أحد قبل أفلاطون السؤال الرئيسي الذي مفاده: لماذا نحب الأشياء الجميلة؟ لقد وجد سبباً رائعاً: إننا نُدرك بها جزءاً مما هو "صالح ورفيع".
هناك الكثير من الأشياء الجيدة التي نطمح إلى أن نتصف بها: رحيم، لطيف، متناغم، متوازن، مسالم، قوي، نزيه. وهذه صفات في الناس. لكنها أيضاً صفات في الأشياء. إننا نتحرك ونشعر بالمتعة عندما نجد في الأشياء الصفات التي نحتاجها ونتوق إليها، ولكنها مفقودة في حياتنا.
ولذلك فالأشياء الجميلة لديها وظيفة مهمة للغاية. إنها تدعونا للتطور في اتجاهها، لنصبح مثلها. فالجمال يمكن أن يثقف أرواحنا.
ويترتب على ذلك إدراك أن القبح هو أيضاً أمر خطير للغاية، لأنه يعرض الخصائص الخطرة والضارّة أمامنا. إنه يشجعنا على أن نكون مثله: قاس، وفوضوي، وطائش. إنه يجعل الأمر أصعب بكثير كي تبدو حكيماً، ولطيفاً، وهادئاً.
ويرى أفلاطون الفن كعلاج: إنه واجب الشعراء والرسامين (وفي أيامنا هذه، الروائيين ومنتجي التلفزيون والمصممين) أن يساعدونا على عيش حياة طيبة وقانعة وفيها الكثير من مفاعيل الطمأنينة.
آمن أفلاطون بتوجيه الفنون. فإذا كان بوسع الفنانين مساعدتنا في العيش بشكل جيد، فيمكنهم -مع الأسف - إعطاء نفس القدر من المكانة والسحر إلى المواقف والأفكار غير المفيدة. إن كون المرء فناناً لا يضمن أنه سوف يستخدم قوة الفن بحكمة.
لهذا السبب اعتقد أفلاطون أن الفنانين يجب أن يعملوا تحت قيادة الفلاسفة، الذين سيعطونهم الأفكار الصحيحة، ويطلبون منهم أن يجعلوها مقنعة ومتداولة. وقد يستقيم القول بأنه كان على الفن من وجهة نظر أفلاطون أن يكون نوعاً من الدعاية - أو الإعلان - من أجل الخير.

4. تغيير المجتمع
أمضى أفلاطون الكثير من الوقت في التفكير في الطريقة المثلى التي ينبغي أن تكون عليها الحكومة والمجتمع.
وفي هذا الشأن، كان مستلهماً من المنافس العظيم لأثينا ألا وهي إسبارطة. لقد كانت هذه آلة بحجم مدينة لإخراج الجنود العظماء. كل ما فعله الإسبرطيون - كيف قاموا بتربية أطفالهم، وكيف قاموا بتنظيم اقتصادهم، ومن أعجبوا به، وكيف كانوا يمارسون الجنس، وما أكلوه - تم تصميمه خصيصاً لهذا الهدف. وكانت إسبارطة ناجحة بشكل كبير، من وجهة نظر عسكرية محضة.
لكن هذا لم يكن مجال اهتمام أفلاطون. لقد كان يريد أن يعرف كيف يمكن لمجتمع ما أن يترقى في إنتاج القوة العسكرية بالتوازي مع ترقي مستوى "اليودايمونيا " فيه بما تحمله من معنى للرخاء والرفاه والطمأنينة الفكرية للفرد والمجتمع.
في كتابه - "الجمهورية" - حدد أفلاطون عدداً من التغييرات التي ينبغي إجراؤها:

ا. إننا بحاجة إلى أبطال جدد
كان المجتمع الأثيني يرتكز بشدة على الأغنياء، مثل ألكيبيادس (الرجل السياسي والقائد العسكري) الأرستقراطي المتباهي، ومشاهير الرياضة، مثل الملاكم ميلو من كروتون. ولم يكن أفلاطون معجباً بهما؛ فمن نكون معجبين به هو حقاً أمر مهم، لأن المشاهير يؤثرون على نظرتنا وأفكارنا وسلوكنا. والأبطال السيئين يعطون البريق إلى عيوب شخصياتهم.
لذلك أراد أفلاطون أن يمنح أثينا مشاهير جدداً، ليحلوا محل النتاج الحالي بأشخاص من ذوي الحكمة والأشخاص الذين وصفهم بـ "الأوصياء" أي نماذج للتنمية الجيدة للجميع. وسوف يتميز هؤلاء الناس بسجلهم للخدمة العامة، وتواضعهم، وعاداتهم البسيطة، وكراهيتهم لبريق الشهرة، وخبرتهم الواسعة والعميقة. سيكونون أكثر الناس تقديراً وتبجيلاً في المجتمع.

ب. إننا بحاجة إلى الرقابة
واليوم، فإن الرقابة ومبضع الرقيب يجعلنا نشعر بالقلق. لكن أفلاطون كان قلقاً حيال النوع الخاطئ من الحرية. لقد كانت أثينا حلبة مفتوحة للعامة وأسوأ باعة الرأي. فالمفاهيم الدينية المجنونة، والأفكار السخيفة، ولكن الخطيرة، امتصت الإقبال الجماعي، وقادت أثينا إلى حكومات كارثية وحروب مضللة (مثل الهجوم المميت على إسبرطة).
وكان التعرض المستمر لعاصفة الأصوات المرتبكة والمضللة بحسب رأي أفلاطون أمر سيئ للغاية بالنسبة لنا، لذلك أراد الحد من أنشطة الخطباء العامين والوعّاظ الخطرين. وفي أيامنا هذه، كان يمكن أن يكون متشككاً للغاية بشأن قوة وسائل الإعلام المتسيدة وأبواقها ومسوقي أفكارها، وعملية دس السم في الدسم التي تمثل عماد دورهم الوظيفي.

ج. إننا بحاجة إلى تعليم أفضل
آمن أفلاطون بشغف في التعليم لكنه أراد إعادة تركيز المنهج التعليمي. الشيء الأساسي الذي نحتاج إلى تعلمه ليس الرياضيات أو الهجاء فحسب، ولكن كيف نكون صالحين: نحن بحاجة إلى أن نتعلم عن الشجاعة، وضبط النفس، والعقلانية، والاستقلال، والهدوء.
ولوضع هذا موضع التنفيذ، أسس أفلاطون مدرسة تسمى الأكاديمية في أثينا، والتي ازدهرت لأكثر من 400 عام. إنك تذهب إلى هناك لتتعلم شيئاً عن كيفية العيش والموت بشكل جيد لا أكثر ولا أقل. إنه لأمر مدهش ومحزن بعض الشيء كيف حاصرت المؤسسات الأكاديمية الحديثة هذا الطموح، وتحول تدريس الكثير منها لغرض التحضير للنجاح في الامتحان فحسب.

د. إننا بحاجة إلى طفولة أفضل
إن العائلات تبذل قصارى جهدها في رعاية أطفالها. وأحيانا يكون الأطفال محظوظين، فيكون آباؤهم متوازنين جيداً، ومعلمين صالحين، وناضجين يعتمد عليهم، وحكماء. لكن في كثير من الأحيان ينقل الآباء ارتباكهم وأوجه فشلهم إلى أطفالهم.
أعتقد أفلاطون أن تنشئة الأطفال بشكل جيد تعدُّ واحدة من أصعب المهارات والأكثر ضرورة. ولقد كان شديد التعاطف تجاه الطفل الذي تعوقه البيئة المنزلية الخاطئة.
لذا اقترح أنه سيكون من الأفضل للعديد من الأطفال إذا استطاعوا أن يأخذوا رؤيتهم للحياة ليس من آبائهم فقط، بل بشكل أكبر وأساسي من الأوصياء الحكماء الذين تنفق عليهم الدولة. وأوصى بأنه ينبغي أن يتم تنشئة نسبة ضخمة من الجيل القادم من قبل أشخاص مؤهلين أكثر من آبائهم.

الخلاصة
تظل أفكار أفلاطون مثيرة وبديعة للغاية. وما يوحدها هو طموحها ومثاليتها. لقد أراد أن تكون الفلسفة أداة لمساعدتنا على تغيير العالم. وقد يستقيم القول بأنه ينبغي علينا أن نستمر في الاستلهام من مثاله.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بلينكن ينهي زيارته إلى الصين، هل من صفقة صينية أمريكية حول ا


.. تظاهرات طلابية واسعة تجتاح الولايات المتحدة على مستوى كبرى ا




.. انقلاب سيارة وزير الأمن الإسرائيلي بن غفير ونقله إلى المستشف


.. موسكو تؤكد استعدادها لتوسيع تعاونها العسكري مع إيران




.. عملية معقدة داخل المستشفى الميداني الإماراتي في رفح وثقها مو