الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عالم المعجزات

سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي

(Saoud Salem)

2021 / 12 / 11
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


أركيولوجيا العدم
١٠٧ - عالم المعجزات


يدل مصطلح الكابالا إذا على مذهب يهودي باطني غنوصي في تفسير النصوص الدينية المقدسة، يقوم على افتراض أن لكل كلمة ولكل حرف معنى خفيا، ويتضمن نظريات متعددة ترجع إلى فلسفات سابقة لتفسير وفهم الخلق وطبيعة البشر وحقيقة الروح والقدر، ويحاول أتباعه اليوم نشره عالميا بمعزل عن الدين اليهودي بحيث يُقدم كفلسفة روحانية - مادية يمكن ممارستها خارج المجال الديني. فهي في البداية مجموعة التفسيرات والتأويلات الباطنية والصوفية عند اليهود، واسمها مشتق من كلمة عبرية تفيد معنى التواتر أو القبول أو التقبل أو ما تلقاه المرء عن السلف، التقاليد والتراث الشفوي المتناقل فيما يعرف باسم "الشريعة الشفوية"، ثم أصبحت الكلمة تعني منذ أواخر القرن الثاني عشر "أشكال التصوف والعلم الحاخامي المتطورة".
يزعم الكاباليون التقليديون أن فلسفتهم قديمة قدم البشرية ذاتها، وأنها بدأت مع آدم نفسه، ثم نقلت عنه إلى نوح، ثم إلى إبراهيم الذي يقولون إنه تأمل في عظمة ومعجزة الوجود الإنساني وبنية الكون وعمل قوانين الطبيعة، فظهر له العالم المتعالي من خلال الوحي والإلهام، فقام بنقل جزء من أسرار هذه المعرفة إلى أتباعه الذين نقلوها بدورهم شفهيا عبر الأجيال، كما كان كل معلم يضيف براهين تجربته الشخصية. ويؤمن المسلمون واليهود بأن النبي موسى تلقى التوراة عن ربه في جبل الطور بسيناء، لكن الكاباليين زعموا أنه ذهب إلى الجبل ثلاث مرات، مدة كل منها 40 يوما، حيث تلقى في الأولى نصوص الشريعة الظاهرية التي تم تدوينها في التوراة ويتم تعليمها للعوام من بني إسرائيل، وفي الثانية تلقى روح الشريعة التي يتعلمها الأحبار - الحاخامات، أما الثالثة فتلقى فيها روح روح الشريعة، أي الأسرار الخاصة بعلماء الكابالا، ويزعمون أن موسى أخفاها في النصوص ولا يتم فهمها إلا باستخدام شفرات معينة وعبر التأمل الخاص.
ولقد كتب الكثيرون عن تأثير الكابالا في الفكر العالمي، إبتداء من الفلسفة اليونانية، حيث يذكرون فيثاغورس الذي رحل إلى المشرق قبل الميلاد بنحو خمسة قرون وتتلمذ على يد حاخامات الكابالا، ثم أسس جمعيته السرية في كروتونا بجنوب إيطاليا التي أصبحت المرجع الرئيسي للحركات السرية في الغرب كله وفي حركة التنوير الأوروبية. وبعض المناهضين للكابالا يرون فيها فكرا هداما، هدفه تخريب المباديء الدينية والقضاء على الله، بل منهم من يذهب أبعد من ذلك فيتهم علماء الكابالا بعبادة الشيطان. حيث يقول الباحثون المتخصصون في الغوص في أسرار هذا العلم إن هناك جزءا خفيا وراء ما يعلنه "حكماؤها" من معرفة الإله والاندماج به، فالحقيقة هي أن فكرة الاتحاد بالإله تطورت إلى الاتحاد بالشيطان نفسه عبر السحر، وذلك بعد أن تداخلت العقيدة اليهودية الحلولية بالأفكار الثنوية - ثنائية الإله، فنتجت فكرة تأليه إبليس كإله أرضي مقابل للإله السماوي، ومن ثم فإن إبليس وشياطينه يقدمون لهم عبر طقوس السحر - من باب التضليل - من الخدمات والقدرات الخارقة ما يكفي للاعتقاد بألوهيته، لكن هذه الأسرار لا تُكشف إلا لمن يرتقي إلى أعلى الدرجات كما هو حال الجمعيات السرية التي تستمد بناءها الفكري من الكابالا، في حين يعلن بعض أتباعهم أن السحر ليس إلا علما خاصا أنزله الخالق إلى البشر عن طريق الأنبياء ليبلغوه إلى الحكماء.
في كتابه “مفاتيح هذا الدم” The Keys of This Blood يكشف القس الكاثوليكي والبروفسور في جامعة الفاتيكان ملاخي مارتن Malachi Martin (Simon and Schuster, 1990 الأثر الذي تركته الغنوصية الكبّالية في العقل الأوروبي على يد حركة النهضة الإيطالية، حيث تعاونت مع الماسونية العالمية على نشر الفلسفة الإنسانوية "الهيومانية" المادية التي تستغني في جوهرها عن الإله وترى عدم ضرورته. ويرى البعض آثار الكابالا عند نيتشة في إعلانه عن موت الله وفي نظريات فرويد في الليبيدو وتفسير الأحلام وفي أفكار جاك ديريدا وجيل دولوز وغيرهم من مؤسسي التفكيكية المعاصرة التي تنتقد الإيمان بالمطلقات وتميل إلى التشكيك والنقد.
وهناك البعض من معلموا الكابالا في العصر الحديث ممن يبالغ في التأثير الذي تركته كتبهم القديمة التي تضمنت، حسب إدعائهم، الكثير من أسرار الكون التي لم يُكشف عنها إلا في هذا العصر الحديث، وأن علماء الغرب تعلموا الكابالا قبل أن يكتشفوا قوانين الطبيعة، فهم، على سبيل المثال، يؤكدون أن اكتشافات فيثاغورس الرياضية وفلسفة أفلاطون وأرسطو استندت إلى أسرار الكابالا، وكذلك عبقرية ليوناردو دافنشي مع بدء النهضة الإيطالية في القرن الخامس عشر ترجع حسب قولهم لدراسته للكابالا. وفي كتابه “دين إسحاق نيوتن The Religion of Isaac Newton” يقول المؤلف فرانك مانويل إن عالِم الرياضيات والفيزياء نيوتن (القرن السابع عشر) كان يؤمن بأن النبي موسى لم يتلق التوراة فقط بل أوحيت إليه أيضا قوانين التحكم بالطبيعة، لذا انشغل نيوتن بحل ألغاز الكابالا واكتشاف العلاقة بين بناء "خيمة الاجتماع" التي كان يحملها بنو إسرائيل أثناء التيه وبين بنية الكون، كما كتب رائد الرياضيات الحديثة غوتفريد لايبنتز (القرن الثامن عشر) أن المدينة الفاضلة يجب أن تبنى على أسس مفاهيم الكابالا التي تُشتق منها كل العلوم.
من الواضح إذا، أن الكاباليون، عل مختلف مشاربهم وإتجاهاتهم، يريدون إقناع العالم وتمرير فكرة إن أبرز علماء القرن السابع عشر في أوروبا كانوا قد تتلمذوا على يد معلمي االكابالا، وإنهم لم يجدوا مشكلة في التنسيق بين تعاليم الكابالا والخيمياء والعلوم التجريبية، ذلك أن االكابالا هي التي قادت إلى النهضة العلمية في ذلك العصر، لذا لا يستبعد هؤلاء أن تلك النهضة العلمية التي تسارعت بطريقة غير مسبوقة في تاريخ البشرية لم تكن نتيجة تراكم علمي تجريبي بحت فقط، بل انطلق العلماء أساسا في تجاربهم مما اكتسبوه من ما يسمى بالحكمة القديمة. وهناك العديد من العلماء المعاصرين والمفكرين الذين يدعون أسبقية الكابالا في الكشف قبل آلاف السنين عن نظريات علمية حديثة، مثل تكوين الذرة وتشريح الإنسان ونشأة الكون عبر الانفجار العظيم - Big Bang. ويجب أن نلاحظ وجود هذا الإتجاه في الفكر الإسلامي ذاته في ظاهرة ما يسمى بالتعجيز العلمي في القرآن، ومحاولة إيجاد الأدلة على أن القرآن قد تنبأ بالقوانين العلمية التي تسير الكون والإنسان، وأن هذه القوانين موجودة في النص القرآني.

يتبع








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حسن نصر الله يلتقي وفدا من حماس لبحث أوضاع غزة ومحادثات وقف


.. الإيرانيون يصوتون لحسم السباق الرئاسي بين جليلي وبزكشيان | #




.. وفد قيادي من حماس يستعرض خلال لقاء الأمين العام لحزب الله ال


.. مغاربة يجسدون مشاهد تمثيلية تحاكي معاناة الجوع في غزة




.. فوق السلطة 396 - سارة نتنياهو تقرأ الفنجان