الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات فى مفهوم - الجمال - ( 1 )

محمد فُتوح

2021 / 12 / 12
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


--------------------------------------------------------------------------------
يوجد الجمال حولنا فى كثير من الأشياء المحيطة ، سواء كانت أشياء طبيعية أم صناعية . والبشر جميعاً فى مختلف المجتمعات والحضارات يستمتعون بالجمال . ولكن على الرغم من جهود آلاف السنوات ، فإن فكرة الجمال لم تفهم حتى الآن . ولذلك يعتبر هذا سبباً قوياً يبرر إعادة النظر أو التوقف مرة أخرى ، للتفكير فى معنى ومفهوم
" الجمال ".
إن الناس العاديين ، غير المثقفين ، وشبه المتعلمين ، يقولون من خبراتهم الحياتية ، وتجاربهم الشخصية ، أن " الجمال " فقط شىء " نسبى " ، وبالتالى لا يمكن لمناقشة مفهومه أن يكتسب أى معنى . وفى هذ يتفق هؤلاء الناس مع عدد غير قليل من الفلاسفة والفنانين والنقاد الذين لهم أهمية ، والذين وصلوا إلى النتيجة نفسها ، وهى أن الجمال " نسبى " .
وهناك مَنْ يرى أن " الجمال " مثل المعرفة ، أو الفعل . أى أنه بمثابة فكرة أو مفهوم " بديهى " يؤخذ كقضية مُسلم بها فى المناقشات الفنية .
إن الجمال – بكل أشكاله وتعريفاته – يشكل للإنسان إغراءً وجاذبية فى حد ذاته .
وليس من شك فى أن شغف الإنسان بالجمال قديم قدم الإنسانية ، وأن استمتاعه بنواحى الجمال فيما يحيط به من مظاهر الطبيعة ، وفيما ينتجه من آثار ، أمر يشهد به تاريخ الإنسانية ، وتسجله آثارها منذ العصر الحجرى القديم ، إلى عصور الحضارات القديمة المعروفة .
فإذا أخذنا مثال الحضارة اليونانية القديمة ، لنستشف منه صحة هذا الحكم الذى أصدناه ، فسنرى شدة إقبال اليونانيين – حتى قبل عصر الفلسفة – وحرصهم على تمجيد ربات الفنون ، وعبادتها ، وتقديم القرابين إليها ، ورعايتها ، إيماناً منهم بتقديس مظاهر الجمال الخالدة فى الفن والطبيعة .
إن اهتمام اليونانيين بتقدير الجمال لم يبدأ قط بأفلاطون ، كما يتوهم البعض ، ولكنه كان حقيقة بارزة فى المجتمع اليونانى .
فاليثاغوريون يرون أن ( العالم عدد ونغم ) ، وأن الهارمونى أو ( الانسجام ) ، هو أساس جوهر الأشياء ، وأيضاً ( التناسق ) أساس الأرقام والأعداد .
أما نظرة هير اقليطس ( 576 – 480 ق.م ) إلى الجمال مباشرة ، فيحدد معناها بقوله ، إن التناسق هو وحدة الأضداد ، وتداخلها ، مثلاً يتداخل اللون الأسود بالأبيض ، والأصفر بالأحمر . وكذلك فى الموسيقى نحصل على التناسق ، عندما يجتمع مختلف الأصوات والأنعام العالى والمنخفض الطويل والقصير . ولهيراقليطس لفتة بارعة فى مفهوم الجمال ، فهو يرى ، أن المضمون الجمالى يكون أكثر روعة كلما كانت الأضداد المكونة له مخفية أكثر ، والتناسق الجميل المبطن ، يكون أكثر جمالاً ، من التناسق الظاهر. وهكذا يكون هير اقليطس قد وضع مفهوماً جديداً من أهم مفاهيم علم الجمال ، فالنقوش فى الفن تهوى أجواء الغموض ، والبحث عن المجهول الذى تتلمسه فى القصة والمسرحية ، بقدر ما يحبك المؤلف عناصر أدبه ، ويحمل المتذوق على السير وراءه لاكتشاف هذا المجهول ، بقر ما تكثر عناصر التشويق والاهتمام من جانب المتذوقين .
إن أبرز أفكار ديمقريطس ( 460 – 270 ق.م ) فى الجمال هو اتجاهه فى نظرته اتجاهاً هندسياً يقوم على تشابه الأجزاء وتساويها ، فالشىء الرائع فى نظره هو الشىء المتناسق المحدد من كل الوجوه ، فالزيادة فى الشىء ، أو النقصان فيه أمر لا يعجبه . والجمال يكمن فى النظام الصارم ، وفى التناسق والتناسب ، والانسجام بين الأجزاء
بينما نجد سقراط ( 470 – 399 ق.م ) الذى بدأ حياته نحاتاً ومثالاً ، يقول بالنظرية الوظيفية ، فالشىء الجميل الرائع هو الذى يؤدى الفائدة المراد بها ، وفيها يقترب من المفهوم الأخلاقى فى الفن ، فيربط بين الناحية الجمالية والفضيلة .
لقد وجه الباحثون اهتمامهم إلى أفلاطون ( 427 – 347 ق.م ) لأنه كان
أول فيلسوف يونانى يهتم بتسجيل موقف معين من ظاهرة الجمال ، فأقام للجمال مثالاً هو الجمال بالذات ، ذلك الذى يحتذ به الصانع فى خلقه لموجودات العالم المحسوس . لقد بدأ أفلاطون أولاً باكتشاف سمات الجمال فى الموجودات الحسية ، وفى الأفراد ، ولكنه خذ يصعد تدريجياً من هذا الجمال الفردى المحسوس ، لكى يكتشف علته فى الأفراد جميعاً ، وهكذا إلى اكتشاف مصدر الجمال المحسوس فى مثال " الجمال بالذات " ، فى العالم المعقول ، ذلك الذى يشارك فيه الجمال المحسوس . ثم أنه بعد هذا يرادف بين الحق والخير والجمال .
والفن الحقيقى – فى فلسفة أفلاطون – هو ما يصور الموضوعات الفردية
( الجزئية )، فيتجاوزها ليصدر نمطاً ما يعلو كثيراً على الجزئيات والفرديات . وهكذا يستمد العمل الفنى مثله ، من مثال الجمال بالذات ، أى عالم المعقول ، التى يتجاوز نطاق عالمنا المحسوس ، وهو مثل ليس شخصياً ، أو ذاتياً ، وإنما هو مثال واحد وموضوعى ، لأن مصدره واحد ( الذى هو إلهام ربات الفنون اللائى هن رموز فكرة الجمال بالذات )
وربات الفنون هذه ليست إلا إشارات رمزية أسطورية فى محاورات أفلاطون ، ويبقى مصدر هذا الإلهام من الناحية الفلسفية فى ( الجمال بالذات ) ، فربات الفنون الأسطوريات هو رموز عن فكرة الجمال بالذات فمصدر الفن فى نهاية الأمر هو المثال المعقول للجمال ، تلك الوحدة المتعالية عن الحس و التى تتربع فى عالم وراء عالمنا هو العالم المعقول .
وفى اعتقاد أفلاطون ، أن التجربة ، لا يمكن لها أن تقيم مثلاً أعلى ، بل هى تكتفى بتقرير وجود الحقائق ، والمثل الأعلى ، لا يمكنه أن يبرر التعاليم ، إلا من فوق قمة عالم سامٍ . بأسم هذا السمو المقرر ، يتصور جمالاً مطلقاً ، فى عالم المثل فوق المحسوس ، لا يُرى ، ولا يُسمع ، ولكن العقل يدركه بالكاد . وباسم هذا الجمال ، يحكم على صور الجمال الناقصة فى هذه الحياة الدنيا ، لأننا مازلنا نحمل فى أنفسنا ذكرى مبهمة عن هذا المثال ، ورثناه عن حياة سابقة عشناها فى محفل الآلهة . إن عمل الفنان ، هو الانتقال من المحسوس ( الطبيعة ) إلى المثال المتعالى على المحسوس ، والفن ، يساعد فى عملية الصعود الروحى ، من المحسوس إلى المعقول ، ويكون أثره ، كأثر المرشد الروحى ، الذى يأخذ بيد النفس ليطرها من رذائل البدن .
وهكذا يرى أفلاطون بفلسفته الميتافيزيقية أن الإنسان الذى هبط من عالم المثل الربوبى ، إلى العالم الدنيوى قد نساه أو عاش عالم المادة المنحطة ، إنما أصبح عليه أن يقاوم صلابة المادة ، لكى يصل إلى عالم الروح ، ويتذكر ما كان يأتيه من أفعال ، وذلك من أجل أن تسمو النفس وترتفع ، إلى عالم المثل الخالد الحقيقى .
إن أفلاطون يرى وفقاً لمبدأه العالم فى المثل ، أن الجمال ظاهرة موضوعية ، لها وجودها ، سواء شعر بها الإنسان ، أم لم يشعر ، فهو مجموعة خصائص ، إذا توفرت فى الجميل ، عُدً جميلاً ، وهكذا تتفاوت نسبة الجمال فى الشىء بحسب مدى اشتراكه فى مثال الجمال الخالد . وهذا الرأى مخالف لـــ مَنْ قال : ليس الجمال موجوداً إلا فى شعورنا ، فهو صفة ذاتية ، يتوقف وجوده على حالاتنا النفسية .
إن الأثر الفنى عند أفلاطون يستمد جماله من مشاركته فى مثال الجمال بالذات ، وقيمته تتحدد بمقدار نحقق هذه المشاركة وشمولها و عمقها ، ومعنى ذلك أن الفنان إنما يصدر فى فنه الجميل عن مصدر موضوعى معقول ، لا عن ذاتيته وفرديته ، ولهذا فإن أفلاطون يعد من طائفة الفلاسفة الجماليين الموضوعيين المثاليين ، هؤلاء الذين يرون أن الفن إنتاج موضوعى ، وأن فاعلية الفنان المنتج للأثر الفنى تأتى فى الدرجة الثانية بعد الموضوع ، أو من ناحية أخرى ، أنه يمكن أن نحدد أساساً موضوعياً للحكم الجمالى ، إذ الحكم الجمالى عند الموضوعيين ، يفترض أن يكون واحداً عند غالبية الناس ، بالنسبة لشىء معين ، وأساس موضوعية الحكم الجمالى عند أفلاطون أو سمة الجمال التى تؤسس مفهوم الشىء الجميل وطبيعته ، إنما تستمد أصلها من مثال واحد فى العالم المعقول ، هو مثال الجمال بالذات ، وهذا هو أساس الموضوعية عند الأفلاطونيين وأتباعهم ، ولو أن هذه الموضوعية تتسم بالمثالية ، لأن الجمال الحسى يصدر عن مثل أعلى فى العالم المعقول يجاوز نطاق عالمنا المحسوس .
لقد كان أفلاطون ينظر إلى الأشياء المحسوسة على أنها متغيرة ومتحولة ، فهى من أجل هذا لا تدوم ، فإذا ظهرت على الوجود فهى لا تثبت ، بل تظهر قوية ، ثم تضعف وتضمحل وتموت . فهى إذن لا يمكنها أن تمثل حقيقة الوجود ، ذات الطابع الروحى الكامن فى " المُثل العليا " ، أو عالم المثل الأزلية ، عالم الأفكار . وعلى هذا فإن التغيير والتبديل ، والتحول الذى يلحق الأشياء المحسوسة يعنى النقصان ، لأن الثبات والبقاء فى الأفكار والمثل يعنى الكمال والحقيقة . ومن هنا يبدو الجمال – لأفلاطون – كصفة خالدة تتجلى فى كافة الأشياء الجميلة بنسب متفاوتة القوة والضعف ، والاختفاء تدريجياً ، فالوردة اليانعة تتألق جمالاً ، وتزداد بريقاً بادىء الأمر ، وفى إبان تفتحها ، ثم لا تلبث نسب الجمال فيها أن تتضاءل شيئاً فشيئاً ، حتى تضمحل وتزول وتذبل . وما ذلك إلا لأن الجمال فيها كان عابراً ، يمر بها ثم يغادرها إلى غيرها من الأشياء المحسوسة ويرى أفلاطون الشىء الجميل على أنه الخير الكامل ، ولذلك ربط فى فلسفته ، الجمال بالحق والخير . إن محور نظرية أفلاطون المثالية هى المزج بين فكرتى الجميل والخير . ومن هنا يتكشف الأساس وراء الخلط بين مجالى الميتافزيقا والفن ، وبين قيم الحق والخير والجمال ، فهو يحكم على الفن من حيث قيمته كمعرفة ، وكمعين للإنسان على فهم حقائق الأشياء ، أو ينتقص فى الفن ، عدم مسايرته للمفاهيم الأخلاقية المثالية
فليس الجمال هو الصورة الحسية التى تحدث لذة حسية جمالية ، وإنما الجمال الحقيقى هو جمال الحق أو جمال الخير .
إن أفلاطون حين يتعرض لتربية الأحداث فى الجمهورية ، مع احترامه للفن – فإنه يشير بصفة خاصة إلى ضرورة طرد الشعراء والفنانين من المدينة ، لأنه يرى أن الفن يحاكى الطبيعة فيحسنها ، والطبيعة الحسية فى حد ذاتها إن هى إلا مجموعة من أشباح وظلال كاذبة للعالم المعقول .
ويرى أفلاطون أن النظام فى الجسم يسمى بالسلامة ، وهى التى تنتج فى الجسم الصحة مع جمع الصفات البدنية الأخرى . بينما الانسجام والانتظام فى النفس يسمى بالقانون والنظام ، وهما اللذان يصنعان المواطنين الصالحين ، أهل الخير ، ذلك هو ما يؤلف العدالة والحكمة .
وامتداداً لربط أفلاطون ، بين الجمال والأخلاق ، فنجده يمضى إلى تعريفات الأشياء. فيرى أن القُبح يضاد النافع ، واللذيذ يضاد الضار ، والمؤلم . وحين يكون أحد الشيئين الجميلين ، أجمل من الآخر ، فإن التفوق فى الجمال ، لا يتأتى ، إلا بإحدى هاتين الصفتين ، أى اللذة ، أو المنفعة ، أو بهما معاً .
وعندما يكون ، أحد الشيئين القبيحين أقبح من الآخر ، فإن الذى يجعله أقبح ، هو الإسراف فى الألم والضرر . إن الظلم قبيح ، ولكن ارتكابه أكثر قُبحاً .
من " كتاب التلوث البصرى والتذوق الجمالى " عام 1999
-----------------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي