الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات فى مفهوم الجمال ( 2 )

محمد فُتوح

2021 / 12 / 15
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


تأملات فى مفهوم الجمال ( 2 )
--------------------------------------------------------------

كانت لأرسطو ( 385 – 322 ق . م ) ، اهتمامات فنية ، ويتضح ذلك ، من مؤلفاته التى أبرزت شغفه بالجماليات والفنون . فكان منها بحث عن " الجماليات " ، وهو مؤلف ، ذكره ديوجين ، فى الكتاب الرابع والأول . كما أشار إليه أرسطو ذاته ، وذلك فى الفصل الثالث من الكتاب الثالث عشر من الميتافيزيقا . وكذلك كتاب الِشعر والخطابة ، وهو يحتوى على إشارات جادة ووثيقة الصلة بموقفه من الجماليات .
والجمال عند أرسطو يعنى التنسيق والعظمة ، فهو يقول فى كتاب الِشعر ، أن الكائن أو الشىء المكون من أجزاء متباينة ، لا يتم جماله ما لم تترتب أجزاؤه فى نظام ،
و تتخذ أبعاداً ليست تعسفية ، ذلك لأن الجمال ما هو إلا التنسيق والعظمة .
وهنا يمكن ملاحظة التمايز بين تعريف الجمال ، عند أرسطو و أفلاطون( 427– 347 ق. م ) . فالأول على ما يتضح من نصه يهتم بالجمال الموجود فى عنصرى النظام والعظمة ، فى حين أن الثانى كان يبحث فى موضوع الانسجام والقياس ، والفارق هنا يكمن فى أن الأول يصب اهتمامه على جمال المظهر " المحسوس " فى حين أن الثانى يهتم بجمال الجوهر " الباطن " ، كما يهتم الأول بالجزئى المتناهى ، أما الثانى فيشير إلى الكلى اللامتناهى .
لقد نقد أفلاطون فكرة المحاكاة واعتبرها نقصاً وعيباً ، أما أرسطو فقد شجعها واعتبرها أول ما يميزه ، لأن فى هذه المحاكاة اتجاه إلى المعرفة ، وإلى التمييز بين الأصل والصورة ، ومن ثم تصبح المعرفة النظرية أسمى من الممارسة العملية ، لأن فى المحاكاة إفساح لخلق الذات وإبداعاتها .
والنظرية التى تفترض أن تكون المحاكاة انتقائية خلاقية ، تُعرف بنظرية محاكاة الجوهر ، وقد نادى أرسطو فيها بضرورة أن يكون أساس الحكم على الفن بناء على فعاليته الجمالية الكامنة ، وعلى ترابط أجزاء العمل ، من منطلق أنه لم يكن الشىء يؤدى حضوره أو غيابه إلى إحداث فارق ملموس ، فإنه سوف لا يكون هذا الشىء جزءاً عضوياً من الكل . يقول أرسطو ، أن لا يمكن لكائن أو شىء مؤلف من أجزاء عدة ، أن يكون جميلاً ، إلا بقدر ما تكون أجزاؤه متسقة وفقاً لنظام ما ، وممتعة بحجم لا اعتباطى ، لأن الجمال لا يستقيم إلا بالنسق والمقدار .
لقد سادت نظرية محاكاة الجوهر ، التفكير الجمالى والنقدى فى أوروبا ، خلال عصر النهضة ، بفضل التأثير الذى أحدثه كتاب " الِشعر " . عندما ترجم من اليونانية عام 1498 ، وكشف فيه أرسطو عن وظيفة الفن ، الذى هو تقليد للطبيعة فى تسامٍ ، فليست مهمة الفنان تقف عند حد نقل المظهر الحسى للأشياء والموضوعات كما هى عليه فى الواقع ، بل يتعدى ذلك ليصل إلى خلق صورة ، أو أنموذج يخضع للقوانين الطبيعية .
و إذا كان الفن يحاكى الطبيعة ، فإنه لا يقف عند حد المحاكاة الحرفية ، بل إنه يكمل ما لم تستطيع الطبيعة أن تحققه ، فهو يحاكى إبداعها بما يبدعه من أشياء وموضوعات جديدة .
ويستند أرسطو فى تحديده لمفهوم الجمال إلى التناسب والعدد ، فالجمال يكمن فى رأيه ، فى التنسيق البنائى للعالم المحسوس وبمظهره الأكمل ، ومن هنا يكمن وصف التعريف بأنه ، صريح ومحدد . فالجمال قيمة تتمتع بها الأشياء فى صورتها التى ينبغى أن تكون عليه ، وليس فى صورتها التى هى عليها . ويفهم من ذلك ، بعد تعريف أرسطو عن وصف مهمة الفنان ، أنه يماثل الطبيعة ذاتها ، وخاصية الفن أن يقلد بتصحيح أو تغيير . وبذلك يتفق أرسطو مع أفلاطون فى قاعدة ، الكل الموفور الكمال العضوى ككائن حى . وهما يبغيان معاً بتحقيق مبدأ التحسين ، من أجل أن تصبح الموجودات أجمل مما هى عليه فى الواقع ، بفضل مبدأ القابلية للاكتمال ، من أجل التوصل إلى أنموذج الفن فى الجمال الواجب الوجود ، الجمال المطلق والأمثل .
وتجدر الإشارة إلى أنه قد أشيع عن أرسطو خطاً ، أنه قد عّرف الفن بأنه " محاكاة الطبيعة " ، غير أن هذا القول يجانبه الصواب لأن الفيلسوف يؤكد نقيض ذلك ، فالفن فى تصوره إما أن يكون أسمى أوأقل مستوى الطبيعة . ومعنى ذلك أن لا يكون فى مستواها ، وتنحصر الميزة الرئيسية فى الفن فى إخراج الطبيعة عن طبيعتها ، أو تغيير لونها إلى الأسوأ أو الأحسن ، ولهذا فإنها تعد تبديل أو تغيير وليست محاكاة حقيقية للواقع المعاش ، لكن هذا التبديل أو التغيير لابد أن يحتويه أو يمسه الجمال والكمال، أى التحسين ، حتى تبدو الشخصيات أكثر جمالاً عما هى عليه فى الواقع ، إلى حد تصبح معه لشدة جمالها غير حقيقية.
ويفرق أرسطو بين الخير الأخلاقى والجمال الفنى ، والخير ما يعبر عن الأفعال دائماً والرائع ما يعبر عن الأشياء المتحركة والساكنة ، وعلى هذا فالجمال – فى رأيه – مرتبط بالعالم الموضوعى الحقيقى ، الذى هو طبع الوعى الجمالى فى الفن ، وهو محاكاة أو تقليد يعبر عنه بالألوان والأشكال والأنغام والتناسق ، وبفضل التقليد يحصل الإنسان على المعرفة والمتعة أيضاً .
لقد ورد فى كتاب الِشعر ، أن التناسق والنسجام والوضوح هى أهم خصائص الجميل ، وهى صفات يمكن تبنيها على نحو موضوعى ، وميز أرسطو بين نوعين من الفن ، الفنون النافعة ، والفنون الجميلة ، والثانية ألصق بماهية المحاكاة من الأولى . كذلك فإن التمييز هنا يقود إلى فكرة أرسطية أخرى ، وهى أن الجميل فى الفن كما فى الطبيعة ، لا يرتبط ضرورة بما هو خير أو نافع . ومن ثم يتبين أن الجمال فى رأى أرسطو موجود على نحو موضوعى ، فى نسبة الأشياء وأحجامها وتناسقها . وذلك الجمال هو مصدر وعينا الجمالى وأعمالنا الفنية ، أما الفن بمبدئه فى المحاكاة ، فإن نشأته ترتبط بالميل الغريزى للإنسان نحو التقليد ، ( ذلك الميل الذى يظهر معه منذ الطفولة ) ، فتحقيق المحاكاة من شأنه أن يبعث عنده الشعور باللذة . وأما تمييز أرسطو الجمال والفن عن الأخلاق ، فقد أكسب الفن والجمال قيمة ومعنى ذاتيين ، بارتباطهما بالمفاهيم الواقعية ، وهكذا تنطلق أفكار أرسطو منطلقاً موضوعياً .
ولم يختلف أرسطو عن أفلاطون فى تأكيده ، لأهمية الفنون الجميلة فى التربية والإرشاد إلى الخير والفضيلة الإنسانية ، إلا أنه اختلف عن أفلاطون فى تفسيره لطبيعة اللذة الجمالية ، إذ رأى أرسطو فى هذه اللذة تصفية للانفعالات الضارة بالنفس ، وتنظيماً للمشاعر المضطربة . فى حين خلط أفلاطون بينهما وبين الوجدان الصوفى أو اللذة الحسية ، فالفنان الملهم هو القادر على رؤية المثل ، أما الفنان السىء فهو المحاكى للعالم الحسى ، المثير للانفعالات الضارة باتزان النفس .
ولكن التقليد أو المحاكاة هنا لا تعصف تماماً بالصور الواقعية ، وهى ليست المثل الأفلاطونية ، بل هى نماذج واقعية يحاكيها الفنان دون أن يدخل على طبيعتها الحسية الواقعية تعديلاً جوهرياً ، يخرج بها عن طبيعتها الحسية ، ويلحقها بأصل مثالى ، كما هو الحال عند أفلاطون ، بل هو تعديل تظهر فيه أثر الصبغة الفنية ، والتكامل والخلق الفنى فى نطاق الواقع ، فكان ثمة تدخلاً لشخصية الفنان ، لكى يبرز الواقع بصورة أقرب إلى الكمال العقلى .
ومن ثم فإذا سمحنا لأنفسنا بأن نسمى موقف أفلاطون بالموقف الموضوعى المثالى ، فإننا يكن أن نسمى موقف أرسطو بالموقف الموضوعى الواقعى . لأن الفنان حسب قول أرسطو يستمد عناصر فنه من الواقع ، ولكنه يحددها ويعدلها لكى تسمو عن الواقع ، ولكن فى نطاق الواقع أيضاً ، فلا ترقى إلى مصدر مثالى متعالى ، ولهذا فإننا نحس بأنه يمكن أن تكون للفنان فاعلية فى مثل هذا الموقف ، بحيث تتأثر الموضوعية بتدخل الفنان الشخصى ، إذ هو الذى يتسامى بالصور الواقعية عن طرق خلقه الفنى .
من كتاب " التلوث البصرى والتذوق الجمالى " 1991
--------------------------------------------------------------------








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. البرازيل.. سنوات الرصاص • فرانس 24 / FRANCE 24


.. قصف إسرائيلي عنيف على -تل السلطان- و-تل الزهور- في رفح




.. هل يتحول غرب أفريقيا إلى ساحة صراع بين روسيا والغرب؟.. أندري


.. رفح تستعد لاجتياح إسرائيلي.. -الورقة الأخيرة- ومفترق طرق حرب




.. الجيش الإسرائيلي: طائراتنا قصفت مباني عسكرية لحزب الله في عي